موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الثَّالِثَ عَشَرَ: نَسخُ القَولِ بالفِعلِ والفِعلِ بالقَولِ


يَجوزُ نَسخُ الفِعلِ بالقَولِ؛ لأنَّ القَولَ كالفِعلِ في البَيانِ، ويَنفرِدُ بأنَّ له صيغةً يَتَعَدَّى بها إلى غَيرِه، والفِعلُ لا صيغةَ له، ومِمَّن نَصَّ على ذلك: الخَطيبُ البَغداديُّ [347] يُنظر: ((الفقيه والمتفقه)) (1/332). ، والشِّيرازيُّ [348] يُنظر: ((شرح اللمع)) (1/498). . وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ [349] يُنظر: ((الردود والنقود)) للبابرتي (1/512)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (3/15)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (3/152). . ونَصَّ عليه بَعضُ المالِكيَّةِ، كابنِ العَرَبيِّ [350] قال: (الحُكمُ إذا اختَلَف مِن قَولِ النَّبيِّ وفِعلِه في نازِلةٍ واحِدةٍ فإنَّه تَعارُضٌ يُقضى بآخِرِه على أوَّلِه). ((الناسخ والمنسوخ)) (2/154). ، والقَرافيِّ [351] قال: (القَولُ إذا تَأخَّرَ عنِ الفِعلِ نَسَخَه). ((شرح تنقيح الفصول)) (ص: 293). . وحَكاه الماوَرْديُّ عن بَعضِ الشَّافِعيَّةِ، فقال: (الظَّاهِرُ مِن مَذهَبِ الشَّافِعيِّ أنَّ القَولَ لا يُنسَخُ إلَّا بالقَولِ... وذَهَبَ بَعضُ أصحابِه إلى جَوازِ نَسخِ كُلِّ واحِدٍ مِنهما بالآخَرِ؛ لأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهما سُنَّةٌ يُؤخَذُ بها) [352] ((الحاوي الكبير)) (16/105). . وهو المُختارُ عِندَ الحَنابِلةِ [353] يُنظر: ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (2/205)، ((الذخر الحرير)) للبعلي (ص: 302). . وإليه ذَهَب ابنُ حَزمٍ فقال: (فجائِزٌ نَسخُ أمرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بفِعلِه، وفِعلِه بأمرِه) [354] ((الإحكام)) (4/115). ، وعُزِيَ إلى الجُمهورِ [355] يُنظر: ((أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم)) لمحمد الأشقر (2/201). .
وكذلك يَجوزُ نَسخُ القَولِ بالفِعلِ، والدَّليلُ على جَوازِه أنَّ الفِعلَ كالقَولِ في البَيانِ، فكما يَجوزُ بالقَولِ جازَ بالفِعلِ [356] يُنظر: ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (1/332)، ((اللمع)) للشيرازي (ص: 59). ، ومِمَّن نَصَّ على ذلك: الخَطيبُ البَغداديُّ [357] يُنظر: ((الفقيه والمتفقه)) (1/332). ، والشِّيرازيُّ [358] يُنظر: ((اللمع)) (ص: 59). .
وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ [359] يُنظر: ((الردود والنقود)) للبابرتي (1/512)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (3/15)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (3/152). . ونَصَّ عليه بَعضُ المالِكيَّةِ، كابنِ العَرَبيِّ [360] قال: (الحُكمُ إذا اختَلَف مِن قَولِ النَّبيِّ وفِعلِه في نازِلةٍ واحِدةٍ فإنَّه تَعارُضٌ يُقضى بآخِرِه على أوَّلِه). ((الناسخ والمنسوخ)) (2/154). ، والقَرافيِّ [361] قال: (يَنسَخُ الفِعلُ المُتَأخِّرُ القَولَ المُتَقدِّمَ). ((شرح تنقيح الفصول)) (ص: 293). . وحَكاه الماوَرْديُّ عن بَعضِ الشَّافِعيَّةِ، فقال: (الظَّاهِرُ مِن مَذهَبِ الشَّافِعيِّ أنَّ القَولَ لا يُنسَخُ إلَّا بالقَولِ... وذَهَبَ بَعضُ أصحابِه إلى جَوازِ نَسخِ كُلِّ واحِدٍ مِنهما بالآخَرِ؛ لأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهما سُنَّةٌ يُؤخَذُ بها) [362] ((الحاوي الكبير)) (16/105). . وهو المُختارُ عِندَ الحَنابِلةِ [363] يُنظر: ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (2/205)، ((الذخر الحرير)) للبعلي (ص: 302). . وإليه ذَهَب ابنُ حَزمٍ، فقال: (فجائِزٌ نَسخُ أمرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بفِعلِه، وفِعلِه بأمرِه) [364] ((الإحكام)) (4/115). .
قال الزَّركَشيُّ: (وهو الذي يَقتَضيه مَذهَبُ الشَّافِعيِّ؛ فإنَّه ذَكَرَ في إيجابِ القُعودِ إذا صَلَّى الإمامُ قاعِدًا أنَّه نُسِخَ بفِعلِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مَرَضِ مَوتِه [365] عن عُبَيدِ اللهِ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ عُتبةَ، قال: دَخَلتُ على عائِشةَ، فقُلتُ: ألا تُحَدِّثيني عن مَرَضِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قالت: بَلى، ثَقُلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: أصَلَّى النَّاسُ؟ قُلنا: لا، هم يَنتَظِرونَكَ... والنَّاسُ عُكوفٌ في المَسجِدِ يَنتَظِرونَ النَّبيَّ عليه السَّلامُ لصَلاةِ العِشاءِ الآخِرةِ، فأرسَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى أبي بَكرٍ بأن يُصَلِّيَ بالنَّاسِ، فأتاه الرَّسولُ فقال: إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَأمُرُكَ أن تُصَلِّيَ بالنَّاسِ، فقال أبو بَكرٍ - وكان رَجُلًا رَقيقًا-: يا عُمَرُ، صَلِّ بالنَّاسِ، فقال له عُمَرُ: أنتَ أحَقُّ بذلك، فصَلَّى أبو بَكرٍ تلك الأيَّامَ، ثُمَّ إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وجَدَ مِن نَفسِه خِفَّةً، فخَرَجَ بَينَ رَجُلَينِ -أحَدُهما العَبَّاسُ- لصَلاةِ الظُّهرِ، وأبو بَكرٍ يُصَلِّي بالنَّاسِ، فلَمَّا رَآه أبو بَكرٍ ذَهَبَ ليَتَأخَّرَ، فأومَأ إلَيه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأن لا يَتَأخَّرَ، قال: أجلِساني إلى جَنبِه، فأجلَساه إلى جَنبِ أبي بَكرٍ، قال: فجَعَلَ أبو بَكرٍ يُصَلِّي، وهو يَأتَمُّ بصَلاةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والنَّاسُ بصَلاةِ أبي بَكرٍ، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قاعِدٌ. أخرجه البخاري (687) واللَّفظُ له، ومسلم (418). [366] ((البحر المحيط)) (5/283). .
قال الشَّافِعيُّ: (فلَمَّا كانت صَلاةُ النَّبيِّ في مَرَضِه الذي ماتَ فيه قاعِدًا، والنَّاسُ خَلفه قيامًا، استَدلَلنا على أنَّ أمرَه النَّاسَ بالجُلوسِ في سَقطَتِه عنِ الفرَسِ: قَبلَ مَرَضِه الذي ماتَ فيه [367] عن أنَسِ بنِ مالكٍ يَقولُ: سَقَطَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن فَرَسٍ فجُحِشَ شِقُّه الأيمَنُ، فدَخَلنا عليه نَعودُه، فحَضَرَتِ الصَّلاةُ، فصَلَّى بنا قاعِدًا، فصَلَّينا وراءَه قُعودًا، فلَمَّا قَضى الصَّلاةَ قال: إنَّما جُعِلَ الإمامُ ليُؤتَمَّ به، فإذا كَبَّرَ فكَبِّروا، وإذا سَجَدَ فاسجُدوا، وإذا رَفعَ فارفعوا، وإذا قال: سَمِعَ اللهُ لمَن حَمِدَه. فقولوا: رَبَّنا ولَكَ الحَمدُ، وإذا صَلَّى قاعِدًا فصَلُّوا قُعودًا أجمَعونَ. أخرجه البخاري (689)، ومسلم (411) واللَّفظُ له. ، فكانت صَلاتُه في مَرَضِه الذي ماتَ فيه قاعِدًا، والنَّاسُ خَلفَه قيامًا: ناسِخةً لأن يَجلِسَ النَّاسُ بجُلوسِ الإمامِ) [368] ((الرسالة)) (ص: 254). .
وقيلَ: لا يَجوزُ نَسخُ القَولِ بالفِعلِ، والقَولُ لا يُنسَخُ إلَّا بالقَولِ، وهو قَولُ بَعضِ الشَّافِعيَّةِ [369] يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (1/498). .

انظر أيضا: