موسوعة أصول الفقه

 المَسألةُ الثَّالثةُ: أن يَكونَ مَعلومًا للمُكلَّفِ


مِن شُروطِ الفِعلِ المُكلَّفِ به أن يَكونَ الفِعلُ مَعلومًا لَدى المُكلَّفِ؛ ليُتَصَوَّرَ قَصدُه إليه؛ فإنَّ المُكلَّفَ لَو لَم يَعلَمْ حَقيقةَ ما كُلِّف به لَم يَتَوجَّهْ قَصدُه إليه؛ لعَدَمِ تَصَوُّرِ قَصدِ ما لا يُعلَمُ حَقيقَتُه، وإذا لَم يَتَوجَّهْ قَصدُه إليه لَم يَصحَّ وجودُه مِنه؛ لأنَّ تَوجُّهَ القَصدِ إلى الفِعلِ مِن لَوازِمِ إيجادِه.
وذلك مِثلُ: المَأمورِ بالصَّلاةِ، فيَجِبُ عليه أوَّلًا أن يَعلَمَ حَقيقَتَها، وأنَّها جُملةُ أفعالٍ مِن قيامٍ ورُكوعٍ وسُجودٍ وجُلوسٍ يَتَخَلَّلُها أذكارٌ مَخصوصةٌ، مُفتَتَحةٌ بالتَّكبيرِ مُختَتَمةٌ بالتَّسليمِ؛ حَتَّى يَصِحَّ قَصدُه لهذه الأفعالِ، ويَشرَعَ فيها شيئًا بَعدَ شيءٍ، فلَو لَم يَعلَمْ حَقيقةَ الصَّلاةِ لَم يَدرِ في أيِّ فِعلٍ يَشرَعُ مِن أنواعِ الأفعالِ؛ إذ لا يُعقَلُ التَّكليفُ بشيءٍ مَجهولِ الذَّاتِ، ويَكونُ تَكليفُه بفِعلِ ما لَم يَعلَمْ حَقيقَتَه تَكليفًا بما لا يُطاقُ؛ إذ لَو قيلَ للمُكلَّفِ: افعَلْ ما أُضمِرُه في نَفسي أنَّك تَفعَلُه وإلَّا عاقَبتُك، فقَد كُلِّف بفِعلِ ما لا طاقةَ لَه به؛ لأنَّ اهتِداءَه إلى الفِعلِ المَطلوبِ مِن غيرِ عِلمٍ ليس في طاقَتِه؛ لذلك لا بُدَّ أن يَعلمَ المُكلَّفُ الفِعلَ المُكلَّفَ به.
وأيضًا لا بُدَّ أن يَعلَمَ أنَّ هذا الفِعلَ -الذي عَلِمَ حَقيقَته- مَأمورٌ به مِن قِبَلِ اللهِ تعالى؛ إذ لا بُدَّ مِن نيَّةِ التَّقَرُّبِ به إلى اللهِ تعالى، ونيَّةُ التَّقَرُّبِ إليه عَزَّ وجَلَّ لا تُمكِنُ إلا بَعدَ مَعرِفةِ أنَّ الأمرَ المُتَقَرَّبَ به إليه أمرٌ مِنه جَلَّ وعَلا، فإذا عَلمَ ذلك تُصُوِّر مِنه قَصدُ الطَّاعةِ والامتِثالِ بفِعلِه، وهذا يَختَصُّ بما يَجِبُ قَصدُ الطَّاعةِ والتَّقَرُّبِ فيه إلى اللهِ، كالصَّلاةِ والزَّكاةِ والصِّيامِ والحَجِّ ونَحوِ ذلك، أمَّا ما لا يَجِبُ قَصدُ الطَّاعةِ فيه، مِثلُ: رَدِّ المَغصوبِ، وتَأديةِ الدُّيونِ، ونَحوِ ذلك؛ فيَكفي مُجَرَّدُ حُصولِ الفِعلِ مِنَ المُكلَّفِ، ولا يُشتَرَطُ في صِحَّةِ فِعلِه نيَّةُ التَّقَرُّبِ، لَكِنْ لا أجرَ لَه فيه البَتَّةَ إلَّا بنيَّةِ التَّقَرُّبِ إلى اللهِ تعالى، فمَن قَضى دَينَه وأدَّى الأمانةَ ورَدَّ المَغصوبَ مَثَلًا لا يَقصِدُ بشيءٍ مِن ذلك وَجهَ اللهِ، بَل لخَوفِه مِن عُقوبةِ السُّلطانِ مَثَلًا، ففِعلُه صَحيحٌ دونَ النِّيَّةِ، وتَسقُطُ به المُطالَبةُ، فلا يَلزَمُه الحَقُّ في الآخِرةِ بدَعوى أنَّ قَضاءَه في الدُّنيا غيرُ صَحيحٍ؛ لعَدَمِ نيَّةِ التَّقَرُّبِ، بَل القَضاءُ صَحيحٌ والمُطالَبةُ ساقِطةٌ على كُلِّ حالٍ [600] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) للباقلاني (1/ 267- 268)، ((المستصفى)) للغزالي (ص: 69)، ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/ 166)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (1/490)، ((نزهة الخاطر العاطر)) لابن بدران (1/ 123)، ((مذكرة أصول الفقه)) لمحمد الأمين الشنقيطي (ص: 47)، ((معالم أصول الفقه)) للجيزاني (ص: 337)، ((إتحاف ذوي البصائر)) لعبدالكريم النملة (2/162- 163). .

انظر أيضا: