موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الرَّابعةُ: أن يَكونَ في قُدرةِ المُكلَّفِ


يُشتَرَطُ أن يَكونَ الفِعلُ المُكلَّفُ به مُمكِنًا، ومَعنى الإمكانِ ألَّا يَكونَ واجِبَ الوُقوعِ ولا مُمتَنِعَ الوُقوعِ عَقلًا، فيَكونُ في قُدرةِ المُكلَّفِ فِعلُه أوِ الكفُّ عنه [601] يُنظر: ((روضة الناظر)) (1/167، 171)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/ 224)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (1/484)، ((علم أصول الفقه)) لخلاف (ص: 130)، ((معالم أصول الفقه)) للجيزاني (ص: 337)، ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 74). قال الشِّنقيطيُّ: (قُدرةُ المُكلَّفِ شَرطٌ في وُجوبِ الشَّيءِ المُتَوقَّفِ عليه وُجودُ الواجِبِ المُطلَقِ، بناءً على مَذهَبِ الجُمهورِ مِن أنَّ اللَّهَ تعالى لا يُكلِّفُ عِبادَه بالمُحالِ). ((نثر الورود)) (1/169- 170). .
وهذه المَسألةُ هي المَعروفةُ عِندَ أهلِ الأُصولِ بمَسألةِ التَّكليفِ بما لا يُطاقُ، ويُطلَقُ عليها أيضًا: التَّكليفُ بالمُحالِ [602] يُنظر: ((درء القول القبيح)) للطوفي (ص: 115)، ((البحر المحيط)) للزركشي (2/ 109). قال تاجُ الدِّينِ السُّبكيُّ: (نُفرِّقُ بينَ التَّكليفِ بالمُحالِ والتَّكليفِ المُحالِ؛ فالأوَّلُ هو تَكليفُ العاقِلِ الذي يَفهَمُ الخِطابَ بما لا يُطيقُه... والثَّاني: مِثلُ تَكليفِ الميِّتِ والجَمادِ ومَن لا يَعقِلُ مِنَ الأحياءِ، فهذا تَكليفُ المُحالِ، واتَّفقَ أهلُ الحَقِّ قاطِبةً على أنَّه لا يَصِحُّ. نَقَل هذا الاتِّفاقَ القاضي أبو بَكرٍ رَحِمَه اللهُ). ((الإبهاج)) (2/307-308). والبَحثُ فيها مِن جِهَتينِ:
الأولى: مِن جِهةِ الجَوازِ العَقليِّ، أي: هل يَجوزُ عَقلًا أن يُكلِّفَ اللهُ عَبدَه بما لا يُطيقُه، أو يَمتَنِعُ ذلك عَقلًا؟
وأكثَرُ الأُصوليِّينَ على جَوازِ التَّكليفِ عَقلًا بما لا يُطاقُ [603] يُنظر: ((مذكرة أصول الفقه)) لمحمد الأمين الشنقيطي (ص: 50)، ((إتحاف ذوي البصائر)) لعبدالكريم النملة (2/182). ، قالوا: وحِكمَتُه ابتِلاءُ الإنسانِ، هل يَتَوجَّهُ إلى الامتِثالِ ويَتَأسَّفُ على عَدَمِ القُدرةِ، ويُضمِرُ أنَّه لَو قَدَرَ لَفعَلَ، فيَكونُ مُطيعًا للهِ بقَدرِ طاقَتِه، أو لا يَفعَلُ ذلك، فيَكونُ في حُكمِ العاصي [604] يُنظر: ((مذكرة أصول الفقه)) لمحمد الأمين الشنقيطي (ص: 50). .
الثَّانيةُ: هل يُمكِنُ ذلك شَرعًا أو لا؟
وفي هذه المَسألةِ تَفصيلٌ، ولا يَجوزُ إطلاقُ القَولِ في حُكمِ التَّكليفِ بما لا يُطاقُ (التَّكليفُ بالمُحالِ) بالجَوازِ أوِ المَنعِ؛ لأنَّ المُستَحيلَ أنواعٌ؛ مِنها:
1- المُستَحيلُ عَقلًا [605] العَقلُ إمَّا أن يَقبَلَ وُجودَ الشَّيءِ فقَط، ولا يَقبَلَ عَدَمَه، أو يَقبَلَ عَدَمَه فقَط ولا يَقبَلَ وُجودَه، أو يَقبَلَهما مَعًا: فإن قَبِلَ وُجودَه فقَط ولَم يَقبَلْ عَدَمَه بحالٍ، فهو الواجِبُ الذَّاتيُّ المَعروفُ بواجِبِ الوُجودِ، كذاتِ اللهِ جَلَّ وعَلا، مُتَّصِفًا بصِفاتِ الكَمالِ والجَلالِ. وإن قَبِلَ عَدَمَه فقَط دونَ وُجودِه فهو المُستَحيلُ، المَعروفُ بالمُستَحيلِ عَقلًا. وإن قَبِلَ العَقلُ وُجودَه وعَدَمَه، فهو المَعروفُ بالجائِزِ عَقلًا، وهو الجائِزُ الذَّاتيُّ، كقُدومِ زَيدٍ يَومَ الجُمُعةِ وعَدَمِه. يُنظر: ((مذكرة أصول الفقه)) لمحمد الأمين الشنقيطي (ص: 51). وهو قِسمانِ:
القِسمُ الأوَّلُ: المُستَحيلُ الذَّاتيُّ (المُحالُ لنَفسِه)، وهو ما لا يُتَصَوَّرُ وُجودُه، كوُجودِ شَريكٍ للهِ سُبحانَه وتعالى عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا، وكاجتِماعِ النَّقيضينِ والضِّدَّينِ في شيءٍ واحِدٍ مِن جِهةٍ واحِدةٍ، كالنَّومِ واليَقَظةِ في وقتٍ واحِدٍ [606] وعن هذا تَفرَّعَ قَولُ الأُصوليِّينَ: "الشَّخصُ الواحِدُ في الوقتِ الواحِدِ بالشَّيءِ الواحِدِ لا يُؤمَرُ ويُنهي"؛ لأنَّ هذا تَكليفٌ بالجَمعِ بينَ النَّقيضينِ. يُنظر: ((علم أصول الفقه)) لخلاف (ص: 130). ، وقد أجمَع العُلَماءُ على أنَّ التَّكليفَ بالمُستَحيلِ الذَّاتِيِّ لا يَصِحُّ شَرعًا، ومِمَّن حَكى الإجماعَ مَجدُ الدِّينِ عَبدُ السَّلامِ ابنُ تَيميَّةَ، وابنُ الزَّاغونيِّ [607] قال المَجدُ: (تَكليفُ ما لا يُطاقُ على خَمسةِ أقسامٍ: المُمتَنِعُ في نَفسِه، كالجَمعِ بينَ الضِّدَّينِ، والمُمتَنِعُ في العادةِ، كصُعودِ السَّماءِ... فالأوَّلانِ مُمتَنِعانِ سَمعًا بالاتِّفاقِ، وإنَّما الخِلافُ في الجَوازِ العَقليِّ). ((المسودة في أصول الفقه)) (ص: 79). قال ابنُ مُفلِحٍ: (وأمَّا المُمتَنِعُ في نَفسِه -كالجَمعِ بينَ الضِّدَّينِ- أو عادةً، كصُعودِ السَّماءِ؛ فمُمتَنِعانِ سَمعًا، ذَكرَه ابنُ الزَّاغونيِّ، وصاحِبُ المُحَرَّرِ مِن أصحابِنا، إجماعًا). ((أصول الفقه)) (1/ 256). وقال ابنُ مُفلِحٍ أيضًا: (قال بَعضُ أصحابِنا: فالخِلافُ عِندَ التَّحقيقِ في الجَوازِ العَقليِّ أوِ الاسمِ اللُّغَويِّ، وأمَّا الشَّرعُ فلا خِلافَ فيه). ((أصول الفقه)) (1/ 256). لَكِن قال الطُّوفيُّ: (المُحالُ ضَربانِ: مُحالٌ لذاتِه، ولغيرِه. وقد اختُلِف فيهما؛ فأجازَ التَّكليفَ بهما قَومٌ، ومَنَعَه آخَرونَ. وأجازَ قَومٌ التَّكليفَ بالثَّاني دونَ الأوَّلِ). (درء القول القبيح) (ص: 115). وذَكَرَ في ((شرح مختصر الروضة)) (1/ 226) أنَّ الأكثَرينَ على امتِناعِ التَّكليفِ بالمُحالِ لذاتِه. وقال الشَّوكانيُّ: (لا يَجوزُ التَّكليفُ بالمُستَحيلِ عِندَ الجُمهورِ، وهو الحَقُّ، وسَواءٌ كان مُستَحيلًا بالنَّظَرِ إلى ذاتِه، أو بالنَّظَرِ إلى امتِناعِ تَعَلُّقِ قُدرةِ المُكلَّفِ به. وقال جُمهورُ الأشاعِرةِ بالجَوازِ مُطلَقًا. وقال جَماعةٌ مِنهم: إنَّه مُمتَنِعٌ في المُمتَنِعِ لذاتِه، جائِزٌ في المُمتَنِعِ؛ لامتِناعِ تَعَلُّقِ قُدرةِ المُكلَّفِ به). ((إرشاد الفحول)) (1/ 32). .
القِسمُ الثاني: المُستَحيلُ لأجلِ ما سَبَقَ في عِلمِ اللهِ [608] يُسَمَّى هذا النَّوعُ بالمُستَحيلِ العَرَضيِّ، وهذه العِبارةُ لا تَنبَغي؛ لأنَّ وَصفَ استِحالَتِه بالعَرَضِ؛ مِن أجلِ كونِها بسَبَبِ تَعَلُّقِ العِلمِ الأزَليِّ، لا يَليقُ بصِفةِ اللهِ. يُنظر: ((مذكرة أصول الفقه)) لمحمد الأمين الشنقيطي (ص: 52). ، (المُحالُ لغيرِه)، فهو مُستَحيلٌ لا لَذاتِه، بَل لتَعَلُّقِ عِلمِ اللهِ بأنَّه لا يوجَدُ [609] والأقسامُ بالنَّظَرِ إلى تَعَلُّقِ العِلمِ قِسمانِ: واجِبٌ ومُستَحيلٌ فقَط؛ لأنَّ العِلمَ إمَّا أن يَتَعَلَّقَ بالوُجودِ فهو واجِبٌ، أو بالعَدَمِ فهو مُستَحيلٌ، ولا واسِطةَ. يُنظر: ((مذكرة أصول الفقه)) لمحمد الأمين الشنقيطي (ص: 53). ؛ لأنَّ ما سَبَقَ في عِلمِ اللهِ أنَّه لا يوجَدُ مُستَحيلٌ عَقلًا أن يوجَدَ؛ لاستِحالةِ تَغيُّرِ ما سَبَقَ به العِلمُ الأزليُّ، ومِثالُ هذا النَّوعِ: إيمانُ أبى لَهَبٍ؛ فإنَّ إيمانَه بالنَّظَرِ إلى مُجَرَّدِ ذاتِه جائِزٌ عَقلًا الجَوازَ الذَّاتيَّ؛ لأنَّ العَقلَ يَقبَلُ وُجودَه وعَدَمَه، ولَو كان إيمانُه مُستَحيلًا عَقلًا لذاتِه لاستَحالَ شَرعًا تَكليفُه بالإيمانِ مَعَ أنَّه مُكَلَّفٌ به قَطعًا إجماعًا، ولَكِنَّ هذا الجائِزَ عَقلًا الذَّاتيَّ مُستَحيلٌ مِن جِهةٍ أُخرى، وهى مِن حيثُ تَعَلُّقُ عِلمِ اللهِ فيما سَبَقَ أنَّه لا يُؤمِنُ؛ لاستِحالةِ تَغيُّرِ ما سَبَقَ به العِلمُ الأزَليُّ.
فتَكليفُ مَن عَلمَ اللهُ أنَّه يَموتُ على الكُفرِ بالإيمانِ لا خِلافَ في جَوازِه. والتَّكليفُ بهذا النَّوعِ مِنَ المُستَحيلِ واقِعٌ شَرعًا بإجماعِ المُسلمينَ لأنَّه جائِزٌ ذاتيٌّ لا مُستَحيلٌ ذاتيٌّ، ولأنَّ عِلمَ اللهِ بعَدَمِ وُقوعِه غَيبٌ عنَّا ولَم نُكلَّفْ بمَعرِفتِه ولا ببناءِ الأحكامِ عليه، مِمَّن حَكى الإجماعَ على ذلك ابنُ عَقيلٍ، والآمِديُّ، والطُّوفيُّ [610] قال ابنُ عَقيلٍ: (ويَجوزُ أن يَأمُرَ اللهُ سُبحانَه بما يَعلَمُ أنَّ المَأمورَ لا يَفعَلُه... والدَّلالةُ على صِحَّةِ قَولِنا: أنَّ اللَّهَ سُبحانَه قَد أمَرَ الكُفَّارَ بالإيمانِ، ولَم يَختَلِفْ في تَكليفِهمُ الإيمانَ اثنانِ، ولا فَضلَ أحَدٌ مِنَ الأئِمَّةِ، فقال: إنَ المَعلومَ إيمانُه هو المَأمورُ دونَ مَن عُلِمَ أنَّه لا يُؤمِنُ. والقَولُ المُخالفُ للإجماعِ لا يُلتَفتُ إليه، وقد أخبَرَ اللهُ سُبحانَه أنَّه أمَرَ إبليسَ بالسُّجودِ لآدَمَ، فقال: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [الأعراف: 12] ، فأثبَتَ أمرَه لَه بالسُّجودِ، ولَم يَقَعْ مِنه السُّجودُ، وقد أجمَع المُسلِمونَ على أنَّه عالمٌ بامتِناعِه قَبلَ وُقوعِ الامتِناعِ مِنه). ((الواضح في أصول الفقه)) (3/ 187). وقال الآمِديُّ: (وأجمَعَ الكُلُّ على جَوازِ التَّكليفِ بما عَلمَ اللهُ أنَّه لا يَكونُ عَقلًا، وعلى وُقوعِه شَرعًا، كالتَّكليفِ بالإيمانِ لمَن عَلِم اللهُ أنَّه لا يُؤمِنُ، كأبي جَهلٍ). ((الإحكام)) (1/ 134). وقال الطُّوفيُّ: (المُحالُ لغيرِه يَجوزُ التَّكليفُ به إجماعًا). ((شرح مختصر الروضة)) (1/ 226). .
2- المُستَحيلُ عادةً (المُمتَنِعُ في العادةِ): وهو ما يَتَصَوَّرُ العَقلُ وجودَه، ولَكِن ما جَرَتِ العادةُ المُطَّرِدةُ بوُجودِه، كتَكليفِ الإنسانِ بالطَّيَرانِ إلى السَّماءِ بدونِ طائِرةٍ، ووُجودِ زَرعٍ بغَيرِ بَذرةٍ، فهذا بالنِّسبةِ إلى الحُكمِ الشَّرعيِّ كالمُستَحيلِ العَقليِّ [611] يُنظر: ((المسودة في أصول الفقه)) لآل تيمية (ص: 79)، ((علم أصول الفقه)) لخلاف (ص: 130)، ((مذكرة أصول الفقه)) لمحمد الأمين الشنقيطي (ص: 53)، ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 74). وتَقَدَّم عنِ ابنِ مُفلِحٍ أنَّ المُمتَنِعَ عادةً مُمتَنِعٌ سَمعًا، وأنَّ ابنَ الزَّاغونيِّ وصاحِبَ المُحَرَّرِ ذَكراه إجماعًا. يُنظر: ((أصول الفقه)) (1/ 256). أيضا فلَفظُ القُدرةِ والاستِطاعةِ والطَّاقةِ: مِنَ الألفاظِ المُجمَلةِ؛ لأنَّها على نَوعينِ: أ- القُدرةُ الشَّرعيَّةُ المُصَحِّحةُ للفِعلِ، التي هي مَناطُ الأمرِ والنَّهيِ، وهي المَذكورةُ في قَولِه تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: 97] ، وقَولِه: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] . ب- القُدرةُ القَدَريَّةُ الموجِبةُ للفِعلِ، المُقتَرِنةُ به، المُحَقِّقةُ لَه، التي هي مَناطُ القَضاءِ والقَدَرِ، وهي المَذكورةُ في قَولِه تعالى: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ [هود: 20]، وقَولِه تعالى: الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا [الكهف: 101]. يُنظر: ((معالم أصول الفقه)) للجيزاني (ص: 338). قال ابنُ تَيميَّةَ: (وعلى هذا تَتَفرَّعُ مَسألةُ تَكليفِ ما لا يُطاقُ؛ فإنَّ الطَّاقةَ هي الاستِطاعةُ، وهي لَفظٌ مُجمَلٌ؛ فالاستِطاعةُ الشَّرعيَّةُ التي هي مَناطُ الأمرِ والنَّهيِ لَم يُكلِّفِ اللهُ أحَدًا شيئًا بدونِها، فلا يُكلَّفُ ما لا يُطاقُ بهذا التَّفسيرِ. وأمَّا الطَّاقةُ التي لا تَكونُ إلَّا مُقارِنةً للفِعلِ؛ فجَميعُ الأمرِ والنَّهيِ تَكليفُ ما لا يُطاقُ بهذا الاعتِبارِ؛ فإنَّ هذه ليست مَشروطةً في شيءٍ مِنَ الأمرِ والنَّهيِ باتِّفاقِ المُسلمينَ). ((مجموع الفتاوى)) (8/ 130). .
ويَتَفرَّعُ على هذا الشَّرطِ -وهو كون الفِعل مُمكِنًا في قُدرةِ المُكلَّفِ- أنَّه لا يَصِحُّ شَرعًا تَكليفُ المُكلَّفِ بأمرٍ مِنَ الأُمورِ الجِبِلِّيَّةِ التي هي مُسَبِّباتٌ لأسبابٍ لا كسبَ للإنسانِ فيها ولا اختيارَ، فهي أُمورٌ وِجدانيَّةٌ وجِبِلِّيَّةٌ تَستَولي على النَّفسِ مِن حيثُ لا تَشعُرُ، ولا قُدرةَ للإنسانِ على جَلبِها ولا على دَفعِها، كالانفِعالِ عِندَ الغَضَبِ، والحُمرةِ عِندَ الخَجَلِ، والحُبِّ والبُغضِ، والحُزنِ والفرَحِ، والخَوفِ حينَ وُجودِ أسبابِها [612] وما جاءَ في بَعضِ النُّصوصِ ما يَدُلُّ ظاهِرُه على أنَّ فيه تَكليفًا، فليس على ظاهرِه، وبتَحقيقِ النَّظَرِ فيه يَتَبيَّنُ أنَّه تَكليفٌ بما هو مَقدورٌ للإنسانِ وفي وُسعِه. ومِثالُ ذلك: قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102] ، فالمُرادُ به: داوِموا في حياتِكُم على التَّمَسُّكِ بدينِ الإسلامِ، وحافِظوا عليه حَتَّى يَأتيَكُمُ المَوتُ وأنتُم على ذلك. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/ 310)، ((الموافقات)) للشاطبي (2/172-173)، ((علم أصول الفقه)) لخلاف (ص: 131). ومِن ذلك أيضًا: قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَغضَبْ)) أخرَجَه البُخاريُّ (6116) عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه: أنَّ رَجُلًا قال للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أوصِني. قال: ((لا تَغضَبْ. فرَدَّدَ مِرارًا، قال: لا تَغضَبْ)). ظاهِرُه تَكليفٌ بأمرٍ لا يَدخُلُ تَحتَ قُدرةِ المُكلَّفِ؛ إذ إنَّ الغَضَبَ أمرٌ طَبيعيٌّ يوجَدُ عِندَ قيامِ سَبَبِه، لَكِنَّ حَقيقةَ النَّهيِ هنا عن أسبابِه أو ما يَتَرَتَّبُ عليه. وهَكذا كُلُّ ما ورَدَ مِن أمثالِ هذه النُّصوصِ فهو مُؤَوَّلٌ بأنَّ التَّكليفَ فيه إمَّا ورد على ما يَلحَقُ الأمرَ الطَّبيعيَّ ويَتَرَتَّبُ عليه مِن آثارٍ، أو على ما يَسبِقُه مِن بَواعِثَ ودَوافِعَ، وهذه اللَّواحِقُ والسَّوابقُ أُمورٌ كَسبيَّةٌ للإنسانِ وفي مَقدورِه، فهو مُكلَّفٌ بها. يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (2/171)، ((علم أصول الفقه)) لخلاف (ص: 130- 132). قال ابنُ حَجَرٍ: (وأمَّا نَفسُ الغَضَبِ فلا يَتَأتَّى النَّهيُ عنه؛ لأنَّه أمرٌ طَبيعيٌّ لا يَزولُ مِنَ الجِبِلَّةِ، وقال غيرُه: ما كان مِن قَبيلِ الطَّبعِ الحيَوانيِّ لا يُمكِنُ دَفعُه، فلا يَدخُلُ في النَّهيِ؛ لأنَّه مِن تَكليفِ المُحالِ، وما كان مِن قَبيلِ ما يُكتَسَبُ بالرِّياضةِ فهو المُرادُ). ((فتح الباري)) )10/520).  وقال الشَّاطِبيُّ: (إذا ظَهَرَ مِنَ الشَّارِعِ في بادِئِ الرَّأيِ القَصدُ إلى التَّكليفِ بما لا يَدخُلُ تَحتَ قُدرةِ العَبدِ فذلك راجِعٌ في التَّحقيقِ إلى سَوابقِه أو لَواحِقِه أو قَرائِنِه). ((الموافقات)) (2/171). ، والتَّنَفُّسِ، والطُّولِ والقِصَرِ، والسَّوادِ والبياضِ، إلى غيرِ ذلك مِمَّا هو خارِجٌ عن قُدرةِ المُكلَّفِ [613] يُنظر: ((علم أصول الفقه)) لخلاف (ص: 130)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (1/ 471). .
الأدِلَّةُ:
1- قَولُه تعالى: لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: 233] ، وقال: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة 286] [614] قال الشَّوكانيُّ: (وهذه الآياتُ ونَحوُها إنَّما تَدُلُّ على عَدَمِ الوُقوعِ، لا على عَدَمِ الجَوازِ، على أنَّ الخِلافَ في مُجَرَّدِ الجَوازِ لا يَتَرَتَّبُ عليه فائِدةٌ أصلًا). (إرشاد الفحول) (1/ 32). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
 أنَّ اللهَ تعالى أخبَرَ أنَّه لا يُكلِّفُ نَفسًا إلَّا وُسعَها، فلا يُكلِّفُها ما تَضيقُ عنه فلا تَسعُه، وهو المَقدورُ عليه المُستَطاعُ، وأمَّا المُستَحيلُ الذي لا يُتَصَوَّرُ وُجودُه عَقلًا أو عادةً، فلا يُمكِنُ للمُكلَّفِ فِعلُه، وهو ليس في وُسعِه [615] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/ 108)، ((علم أصول الفقه)) لخلاف (ص: 130). .
أيضًا فالآيَتانِ ليس فيهما نَفيُ الجَوازِ، وإنَّما فيهما نَفيُ الوُقوعِ عَمَّا ليس في الوُسعِ [616] يُنظر: ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 71). .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (وتَأمَّلْ قَولَه عَزَّ وجَلَّ: إِلَّا وُسْعَهَا كيف تَجِدُ تَحتَه أنَّهم في سَعةٍ ومِنحةٍ مِن تَكاليفِه؛ لا في ضِيقٍ وحَرَجٍ ومَشَقَّةٍ؛ فإنَّ الوُسعَ يَقتَضي ذلك، فاقتَضَتِ الآيةُ أنَّ ما كلَّفهم به مَقدورٌ لَهم مِن غيرِ عُسرٍ لَهم ولا ضيقٍ ولا حَرَجٍ) [617] ((مجموع الفتاوى)) (14/ 137- 138). .
2- الآياتُ التي فيها التَّيسيرُ ورَفعُ الحَرَجِ.
ومِن ذلك قَولُه تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج 78]، وقَولُه تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ، فلَم يَجعَلِ اللهُ في دينِنا حَرَجًا، وأخبَرَ أنَّه لا يُريدُ بنا العُسرَ، ولا شَكَّ أنَّ التَّكليفَ بالمُستَحيلِ فيه حَرَجٌ عَظيمٌ، وعُسرٌ ومَشَقَّةٌ [618] ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 75). .
3- أنَّه لمَّا نزل قولُه تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة 284] اشتَدَّ ذلك على أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأتَوا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثُمَّ بَرَكوا على الرُّكَبِ، فقالوا: أيْ رَسولَ اللهِ، كُلِّفْنا مِنَ الأعمالِ ما نُطيقُ: الصَّلاةَ، والصِّيامَ، والجِهادَ، والصَّدَقةَ، وقد أُنزِلَت عليك هذه الآيةُ ولا نُطيقُها! قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أتُريدونَ أن تَقولوا كما قال أهلُ الكِتابَينِ مِن قَبلِكُم: سَمِعْنا وعَصَينا؟! بَل قولوا: سَمِعْنا وأطَعْنا، غُفرانَك رَبَّنا وإليك المَصيرُ)) قالوا: سَمِعْنا وأطَعْنا، غُفرانَك رَبَّنا وإليك المَصيرُ! فلَمَّا اقتَرَأها القَومُ ذَلَّت بها ألسِنَتُهم، فأنزَلَ اللهُ في إثرِها: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ إلى قوله: وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة 285] فلَمَّا فعَلوا ذلك نَسخَها اللهُ تعالى، فأنزَلَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا قال: نَعَم، رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا قال: نَعَم رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ قال: نَعَم وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة 286] قال: نَعَم [619] أخرجه مسلم (125) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الصَّحابةَ إنَّما خافوا أن يُكلِّفَهمُ اللهُ ما لا يُطيقونَ ويُعَذِّبَهم على تَركِه، فقالوا: لا طاقةَ لَنا بهذا؛ فإنَّه إن كلَّفَنا ما لا نُطيقُ عَذَّبَنا؛ فنَسخَ اللهُ هذا الظَّنَّ وبَيَّن أنَّه لا يُكلِّفُ نَفسًا إلَّا وُسعَها، وبيَّنَ بُطلانَ قَولِ هؤلاء الذينَ يَقولونَ: إنَّه يُكلِّفُ العَبدَ ما لا يُطيقُه ويُعَذِّبُه عليه [620] ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/ 102). .
4- قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((...إذا أمَرتُكُم بأمرٍ فأْتُوا مِنه ما استَطَعتُم)) [621] أخرجه البخاري (7288) واللفظ له، ومسلم (1337). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
 أنَّ النَّاسَ إنَّما كُلِّفوا فيما يَستَطيعونَ مِنَ الفِعلِ [622] ((المهذب)) لعبدالكريم النملة (1/ 371). .
4- استِقراءُ فُروعِ الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ يَدُلُّ على عَدَمِ وُقوعِ التَّكليفِ بالمُستَحيلِ [623] يُنظر: ((التحقيق والبيان)) للأبياري (1/346)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (2/444)، ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 71)، ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 76). قال الشَّاطِبيُّ: (الإجماعُ على أنَّ تَكليفَ ما لا يُطاقُ غيرُ واقِعٍ في الشَّريعةِ). ((الموافقات)) (1/ 237). .
5 - أنَّ المُستَحيلَ لا يُتَصَوَّرُ وُقوعُه، فلا يُستَدعى حُصولُه، فلا يُكلَّفُ به [624] يُنظر: ((شرح العضد)) (2/235)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/ 221). ويُنظر: ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 76). .
6- أنَّ اللَّهَ سُبحانَه حَكيمٌ مُنَزَّهٌ عنِ العَبَثِ وعنِ التَّكليفِ بفِعلِ ما لا سَبيلَ إلى فِعلِه [625] يُنظر: ((الفائق)) لصفي الدين الهندي (1/236)، ((علم أصول الفقه)) لخلاف (ص: 130). .
7- أنَّ القَولَ بأنَّه قَد يُكلِّفُ العَبدَ ما لا يُطيقُه ويُعَذِّبُ عليه قَولٌ لَم يُعرَفْ عن أحَدٍ مِنَ السَّلَفِ والأئِمَّةِ، بَل أقوالُهم تُناقِضُ ذلك [626] ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/ 102). .
تَنبيهٌ:
يَنبَغي التَّنَبُّهُ إلى أنَّ هناك فرقًا بينَ المَشَقَّةِ التي يُمكِنُ للمُكلَّفِ تَحمُّلُها وهي في وُسعِه ومَقدورِه، وبينَ المَشَقَّةِ الخارِجةِ عن وُسعِه وطاقَتِه.
قال القَرافيُّ: (المَشاقُّ قِسمانِ:
أحَدُهما: لا تَنفَكُّ عنه العِبادةُ، كالوُضوءِ والغُسلِ في البَردِ، والصَّومِ في النَّهارِ الطَّويلِ، والمُخاطِرةِ بالنَّفسِ في الجِهادِ، ونَحوِ ذلك، فهذا القِسمُ لا يوجِبُ تَخفيفًا في العِبادةِ؛ لأنَّه قُرِّرَ مَعَها.
وثانيهما: المَشاقُّ التي تَنفكُّ العِبادةُ عنها، وهي ثَلاثةُ أنواعٍ:
نَوعٌ في الرُّتبةِ العُليا: كالخَوفِ على النُّفوسِ والأعضاءِ والمَنافِعِ، فيوجِبُ التَّخفيفَ؛ لأنَّ حِفظَ هذه الأُمورِ هو سَبَبُ مَصالحِ الدُّنيا والآخِرةِ، فلَو حَصَّلنا هذه العِبادةَ لثَوابِها لَذَهَبَ أمثالُ هذه العِبادةِ.
ونَوعٌ في المَرتَبةِ الدُّنيا: كأدنى وَجَعٍ في أُصبُعٍ.
النَّوعُ الثَّالثُ: مَشَقَّةٌ بينَ هَذينِ النَّوعينِ فما قَرُبَ مِنَ العُليا أوجَبَ التَّخفيفَ، وما قَرُبَ مِنَ الدُّنيا لَم يوجِبْه، وما توسَّطُ يَختَلِفُ فيه لتَجاذُبِ الطَّرَفينِ له) [627] ((الفروق)) (1/118). .
وقال الشَّاطِبيُّ: (لا يُنازَعُ في أنَّ الشَّارِعَ قاصِدٌ للتَّكليفِ بما يَلزَمُ فيه كُلفةٌ ومَشَقَّةٌ ما، ولَكِن لا تُسَمَّى في العادةِ المُستَمِرَّةِ مَشَقَّةً، كما لا يُسَمَّى في العادةِ مَشَقَّةً طَلَبُ المَعاشِ بالتَّحَرُّفِ وسائِر الصَّنائِعِ؛ لأنَّه مُمكِنٌ مُعتادٌ لا يَقطَعُ ما فيه مِنَ الكُلفةِ عنِ العَمَلِ في الغالِبِ المُعتادِ، بَل أهلُ العُقولِ وأربابُ العاداتِ يَعُدُّونَ المُنقَطِعَ عنه كَسلانَ، ويَذُمُّونَه بذلك، فكذلك المُعتادُ في التَّكاليفِ. وإلى هذا المَعنى يَرجِعُ الفَرقُ بينَ المَشَقَّةِ التي لا تُعَدُّ مَشَقَّةً عادةً، والتي تُعَدُّ مَشَقَّةً، وهو أنَّه إن كان العَمَلُ يُؤَدِّي الدَّوامُ عليه إلى الانقِطاعِ عنه، أو عن بَعضِه، أو إلى وُقوعِ خَلَلٍ في صاحِبِه، في نَفسِه أو مالِه، أو حالٍ مِن أحوالِه، فالمَشَقَّةُ هنا خارِجةٌ عنِ المُعتادِ، وإن لَم يَكُنْ فيها شيءٌ مِن ذلك في الغالِبِ، فلا يُعَدُّ في العادةِ مَشَقَّةً، وإن سُمِّيَت كُلفةً، فأحوالُ الإنسانِ كُلُّها كُلفةٌ في هذه الدَّارِ، في أكلِه وشُربِه وسائِرِ تَصَرُّفاتِه، ولَكِنْ جُعِلَ لَه قُدرةٌ عليها بحيثُ تَكونُ تلك التَّصَرُّفاتُ تَحتَ قَهرِه، لا أن يَكونَ هو تَحتَ قَهرِ التَّصَرُّفاتِ، فكذلك التَّكاليفُ؛ فعلى هذا يَنبَغي أن يُفهَمَ التَّكليفُ وما تَضمَّنَ مِنَ المَشَقَّةِ) [628] ((الموافقات)) (2/ 214). .

انظر أيضا: