موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ العِشرونَ: هَلِ الزِّيادةُ على النَّصِّ نَسخٌ لحُكمِه؟


الزِّيادةُ على النَّصِّ هيَ الزِّيادةُ في مُقتَضاه والحُكمِ به، وليس مَعناها الزِّيادةَ في سياقِ النَّصِّ.
والزِّيادةُ على النَّصِّ أنواعٌ [479] يُنظر: ((التلخيص)) لإمام الحرمين (2/501)، ((الواضح)) لابن عقيل (4/268)، ((الإحكام)) للآمدي (3/170)، ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/242)، ((نسخ وتخصيص وتقييد السنة النبوية للقرآن الكريم)) لعارف الركابي (ص: 102). :
1- أن تَكونَ الزِّيادةُ مُستَقِلَّةً عنِ المَزيدِ عليه، وليست مِن جِنسِه، كَزيادةِ وُجوبِ الزَّكاةِ على وُجوبِ الصَّلاةِ، فهذه لَيسَت نَسخًا باتِّفاقِ الأصوليِّينَ.
2- أن تَكونَ الزِّيادةُ مُستَقِلَّةً عنِ المَزيدِ عليه، إلَّا أنَّها مِن جِنسِه، كَزيادةِ صَلاةٍ سادِسةٍ على الصَّلَواتِ الخَمسِ، فهذه لَيسَت نَسخًا عِندَ الجُمهورِ، وخالَف في ذلك بَعضُ الحَنَفيَّةِ العِراقيِّينَ.
3- أن تَكونَ الزِّيادةُ مُتَّصِلةً بالمَزيدِ عليه، كَزيادةِ جُزءٍ أو شَرطٍ أو صِفةٍ، كَزيادةِ شَرطِ الإيمانِ في رَقَبةِ الكَفَّارةِ، وزيادةِ التَّغريبِ على الجَلدِ في حَدِّ الزَّاني غَيرِ المُحصَنِ، وهذا هو مَحَلُّ النِّزاعِ بَينَ الأصوليِّينَ في المَسألةِ.
والرَّاجِحُ: أنَّها لَيسَت نَسخًا، وإنَّما تَكونُ زيادةَ حُكمٍ آخَرَ. وهو مَنقولٌ عن مالِكٍ [480] يُنظر: ((المقدمة)) لابن القصار (ص: 146). ، والشَّافِعيِّ [481] يُنظر: ((المنخول)) للغزالي (ص: 256). ، وأكثَرِ المالِكيَّةِ [482] يُنظر: ((إحكام الفصول)) (1/417)، ((الإشارة)) (ص: 257) كلاهما للباجي، ((المحصول)) لابن العربي (ص: 90). ، والشَّافِعيَّةِ [483] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 276)، ((التلخيص)) لإمام الحرمين (2/503)، ((الإحكام)) للآمدي (3/170). ، والحَنابِلةِ [484] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (3/814)، ((التمهيد)) للكلوذاني (2/398)، ((الواضح)) لابن عقيل (4/268). .
الأدِلَّةُ:
1- أنَّ النَّسخَ في اللُّغةِ هو: الرَّفعُ والإزالةُ. ثُمَّ خُصَّ في الشَّرعِ ببَعضِ ما تَناولَه الِاسمُ، فقيلَ: هو رَفعُ الحُكمِ الثَّابِتِ بالنَّصِّ، وهذه الحَقيقةُ لا توجَدُ فيما زيدَ فيه؛ لأنَّ الزِّيادةَ لا توجِبُ رَفعَ المَزيدِ عليه؛ لأنَّ الحُكمَ الثَّابِتَ بالنَّصِّ باقٍ كما كان، لم يَزُلْ ولم يَرتَفِعْ، وإنَّما لَزِمَه زيادةٌ، فلم يَكُنْ ذلك نَسخًا، ولَو كان في الكيسِ مِائةُ دِرهَمٍ، فزيدَ فوقَها دِرهَمٌ آخَرُ، فذلك لا يوجِبُ رَفعَ شَيءٍ مِمَّا كان في الكيسِ، فكذلك هاهنا [485] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (3/816)، ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 277)، ((التمهيد)) الكلوذاني (2/400)، ((الواضح)) لابن عقيل (4/269). .
2- الِاتِّفاقُ على أنَّ اللَّهَ سُبحانَه إذا شَرَعَ الصَّلاةَ ثُمَّ شَرَعَ الصِّيامَ، لم تَكُنْ زيادةُ الصَّومِ إلى الصَّلاةِ نَسخًا، فكذلك ضَمُّ الرَّكعَتَينِ إلى الرَّكعَتَينِ، وبَيانُه: أنَّه لو كانتِ الزِّيادةُ في الحُكمِ نَسخًا لحُكمِ المَزيدِ عليه لَوجَبَ إذا أوجَبَ اللهُ تعالى الخَمسَ صَلَواتٍ، ثُمَّ أوجَبَ صَومَ شَهرِ رَمَضانَ، أن يَكونَ ذلك نَسخًا للصَّلَواتِ، ولَمَّا لم يَكُنْ ذلك نَسخًا بالإجماعِ وجَبَ أن لا تَكونَ هذه الزِّيادةُ نَسخًا؛ لأنَّ النَّسخَ ما لم يُمكِنِ الجَمعُ بَينَه وبَينَ المَنسوخِ في اللَّفظِ، كما لو قال: "صَلِّ إلى بَيتِ المَقدِسِ، ولا تُصَلِّ" لم يَكُنْ كَلامًا مُفيدًا، وهنا لو جَمَعَ بَينَ الزِّيادةِ والمَزيدِ عليه صَحَّ، ووجَبَ الجَمعُ بَينَهما؛ فدَلَّ على أنَّ ذلك ليس بنَسخٍ [486] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (3/816)، ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 277)، ((الواضح)) لابن عقيل (4/270). .
3- أنَّ النَّسخَ إنَّما يَتَحَقَّقُ ما لم يُمكِنِ الجَمعُ بَينَ الحُكمَينِ، فإذا لم يُمكِنِ الجَمعُ كان الحُكمُ المُتَأخِّرُ ناسِخًا للمُتَقدِّمِ، ولَكِنَّ المَزيدَ والمَزيدَ عليه يُمكِنُ الجَمعُ بَينَهما في اللَّفظِ والحُكمِ جَميعًا، فيُقالُ: حَدُّ البِكرِ مِئةُ جَلدةٍ وتَغريبُ عامٍ. ولَو قيلَ أوَّلًا: جَلدُ البِكرِ مِئةٌ. ثُمَّ قيلَ بَعدَ ذلك: تَغريبُ عامٍ، فإنَّ الحُكمَ الأوَّلَ والثَّانيَ، واللَّفظَ الأوَّلَ والثَّانيَ: لا يَتَنافيانِ ولا يَتَضادَّانِ؛ فلا وجهَ لدَعوى النَّسخِ [487] يُنظر: ((الواضح)) لابن عقيل (4/270). .
وقيلَ: إنَّها تَكونُ نَسخًا. وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ، ومَحَلُّ الخِلافِ بَينَ الحَنَفيَّةِ وغَيرِهم إنَّما هو في حالِ كَونِ المَزيدِ مُتَأخِّرًا عنِ المَزيدِ عليه بزَمانٍ يَصِحُّ القَولُ بالنَّسخِ في هذا القَدرِ مِنَ الزَّمانِ، كَزيادةِ شَرطِ الإيمانِ في رَقَبةِ الكَفَّارةِ، وزيادةِ التَّغريبِ على الجَلدِ في حَدِّ الزَّاني غَيرِ المُحصَنِ. أمَّا إذا ورَدَتِ الزِّيادةُ مُقارِنةً للمَزيدِ عليه فلا تَكونُ نَسخًا بالِاتِّفاقِ، كوُرودِ رَدِّ الشَّهادةِ في حَدِّ القَذفِ مُقارِنًا للجَلدِ؛ فإنَّه لا يَكونُ نَسخًا له [488] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (1/227) و(2/50، 315)، ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص: 233)، ((أصول السرخسي)) (2/82)، ((المغني)) للخبازي (ص: 259)، ((الكافي)) للسغناقي (3/1545)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/191). .
وقيلَ: إنَّ الزِّيادةَ إذا غَيَّرَت حُكمَ المَزيدِ عليه في المُستَقبَلِ كانت نَسخًا، كزيادةِ عِشرينَ جَلدةً على الثَّمانينَ في حَدِّ القاذِفِ، وزيادةِ التَّغريبِ على الجَلدِ، ومَتى لم تَكُنْ كذلك لم تَكُنْ نَسخًا، كَزيادةِ قَطعِ رِجلِ السَّارِقِ عِندَ تَعَذُّرِ قَطعِ يَدِه. وهو قَولُ بَعضِ الحَنَفيَّةِ، كالكَرخيِّ، وأبي عَبدِ اللَّهِ البَصريِّ [489] يُنظر: ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري (1/405)، ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 725)، ((بذل النظر)) للأسمندي (ص: 353). .
وقيلَ: إذا غَيَّرَتِ الزِّيادةُ حُكمَ المَزيدِ عليه تَغييرًا شَرعيًّا فجَعَلته غَيرَ مُجزِئٍ بَعدَ أن كان مُجزِئًا، وجَبَ أن يَكونَ نَسخًا، مِثلُ ما زِيدَ في صَلاةِ الحَضَرِ، وكانت رَكعَتَينِ فجُعِلَت أربَعًا، وصارَتِ الرَّكعَتانِ غَيرَ مُجزِئةٍ بَعدَ أن كانت مُجزِئةً؛ فإنَّ هذا يَكونُ نَسخًا. وإن كانتِ الزِّيادةُ لا تُغَيِّرُ حُكمَ المَزيدِ، ولا تُخرِجُه مِنَ الإجزاءِ إلى ضِدِّه لم يَكُنْ نَسخًا، نَحوُ أن يُضافَ إلى الخَمسِ صَلَواتٍ صَلاةٌ سادِسةٌ، أو إلى شَهرِ رَمَضانَ شَهرٌ آخَرُ، ويُقالُ: جَلدُ الزَّاني مِائةٌ وعِشرونَ بَعدَ أن كان مِائةً. وهو قَولُ بَعضِ المالِكيَّةِ، كالباقِلَّانيِّ والباجيِّ [490] يُنظر: ((التلخيص)) لإمام الحرمين (2/504)، ((إحكام الفصول)) للباجي (1/417). ، وبَعضِ المُعتَزِلةِ، كالقاضي عَبدِ الجَبَّارِ [491] يُنظر: ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري (1/405). ، وحَكاه أبو يَعلى عنِ الأشعَريَّةِ [492] يُنظر: ((العدة)) (3/815). .
وقيلَ: إنَّ الزِّيادةَ إن كانت مُتَّصِلةً بالمَزيدِ عليه اتِّصالَ اتِّحادٍ رافِعٍ للتَّعَدُّدِ والِانفِصالِ، كانت نَسخًا، نَحوُ زيادةِ رَكعَتَينِ على رَكعَتي الصُّبحِ، وإلَّا فلا، نَحوُ زيادةِ عِشرينَ جَلدةً على حَدِّ القاذِفِ، وهو اختيارُ الغَزاليِّ [493] يُنظر: ((المستصفى)) (ص: 94). .
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:
تَظهَرُ فائِدةُ المَسألةِ في أنَّ مَن لم يَجعَلِ الزِّيادةَ نَسخًا فإنَّه يُجيزُ إثباتَها بالقياسِ وخَبَرِ الواحِدِ، ومَن جَعَلَها نَسخًا لم يُجِزْ ذلك إلَّا أن يَكونَ طَريقُ ثُبوتِ الزِّيادةِ مِثلَ طَريقِ المَزيدِ عليه في القوَّةِ والمَعنى [494] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 277)، ((التمهيد)) للكلوذاني (2/400)، ((الواضح)) لابن عقيل (4/271). .
ويَظهَرُ ذلك في بَعضِ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- جَوازُ الزِّيادةِ في النَّصِّ بالقياسِ، وبِخَبَرِ الواحِدِ، مِثلُ: إيجابِ النِّيَّةِ في الوُضوءِ بالخَبَرِ والقياسِ، وإن كان ذلك زيادةً على قَولِ اللهِ تعالى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة: 6] .
2- إيجابُ النَّفيِ في حَدِّ الزِّنا بالخَبَرِ [495] عن عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((خُذوا عنِّي، خُذوا عنِّي، قد جَعَلَ اللهُ لهنَّ سَبيلًا، البِكرُ بالبِكرِ جَلدُ مِئةٍ ونَفيُ سَنةٍ، والثَّيِّبُ بالثَّيِّبِ جَلدُ مِئةٍ، والرَّجمُ)). أخرجه مسلم (1690). ، وإن كان زيادةً على قَولِ اللهِ سُبحانَه: فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور: 2] .
3- إيجابُ شَرطِ الإيمانِ في كَفَّارةِ الظِّهارِ بالقياسِ على كَفَّارةِ القَتلِ، وإن كان فيه زيادةٌ على قَولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [المجادلة: 3] .
4- الحُكمُ بشاهدٍ ويَمينٍ جائِزٌ بالخَبَرِ [496] عن ابنِ عبَّاسٍ ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَضى بيَمينٍ وشاهدٍ)). أخرجه مسلم (1712). ، وإن كان فيه زيادةٌ على قَولِ اللهِ تعالى: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ [البقرة: 282] .
ونَحوُ هذا كُلِّه يَجوزُ بناءً على القَولِ الرَّاجِحِ في المَسألةِ [497] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (3/814)، ((التلخيص)) لإمام الحرمين (2/506). .

انظر أيضا: