المَسألةُ الأولى: طُرُقُ التَّرجيحِ بَينَ الأقيِسةِ التي تَرجِعُ إلى الأصلِ
الأصلُ هو الصُّورةُ المَقيسُ عليها المَنصوصُ على حُكمِها، كالخَمرِ في قياسِ النَّبيذِ على الخَمرِ في الحُرمةِ، بجامِعِ الإسكارِ في كُلٍّ
[793] يُنظر: ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (2/254)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/219)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/95). .
وإذا تَعارَضَتِ الأقيِسةُ فهناكَ مُرَجِّحاتٌ تَرجِعُ إلى الأصلِ المَنصوصِ عليه، تُغَلِّبُ على الظَّنِّ تَرجيحَ قياسٍ على آخَرَ، مِن أهَمِّها:
أوَّلًا: قَطعيَّةُ حُكمِ الأصلِإذا تَعارَضَ قياسانِ، وكان حُكمُ أصلِ أحَدِهما مَقطوعًا به، والآخَرِ مَظنونًا، فإنَّه يُقدَّمُ القياسُ الذي حُكمُه قَطعيٌّ، ومِمَّن نَصَّ عليه: ابنُ عَقيلٍ
[794] يُنظر: ((الواضح)) (2/357). ، والآمِديُّ
[795] يُنظر: ((الإحكام)) (4/268). ، والطُّوفيُّ
[796] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) (3/713). ؛ وذلك لأنَّ ما كان حُكمُ أصلِه ظَنِّيًّا يَتَطَرَّقُ إليه احتِمالٌ لا يَتَطَرَّقُ إلى القَطعيِّ
[797] يُنظر: ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/637)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/713)، ((التعارض والترجيح)) للبرزنجي (2/244). .
ومِثالُه: ما ورَدَ مِنِ اختِلافِ الفُقَهاءِ في لِعانِ الأخرَسِ؛ حَيثُ قاسَه الجُمهورُ
[798] وهمُ المالِكيَّةُ والشَّافِعيَّةُ والحَنابِلةُ. يُنظر: ((المدونة)) لمالك (2/362)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (11/24)، ((المغني)) لابن قدامة (11/127). على اليَمينِ، وقالوا: ما صَحَّ مِنَ النَّاطِقِ صَحَّ مِنَ الأخرَسِ إذا فُهِمَت إشارَتُه
[799] يُنظر: ((المدونة)) لمالك بن أنس (2/362)، ((الإشراف على نكت مسائل الخلاف)) للقاضي عبد الوهاب (2/782)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (11/72)، ((المحرر في الفقه)) لمجد الدين ابن تيمية (2/98). كاليَمينِ، وذَهَبَ الحَنَفيَّةُ
[800] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (7/42)، ((البناية)) لبدر الدين العيني (5/577). إلى عَدَمِ صِحَّةِ لِعانِ الأخرَسِ؛ لأنَّه مَعنًى يَفتَقِرُ إلى لَفظِ الشَّهادةِ، فلا يَصحُّ مِنَ الأخرَسِ كالشَّهادةِ. فقاسوه على الشَّهادةِ، والقياسُ الأوَّلُ أرجَحُ مِنَ القياسِ على شَهادَتِه؛ لأنَّ اليَمينَ تَصِحُّ مِنَ الأخرَسِ بالإجماعِ، والإجماعُ قَطعيٌّ، وأمَّا جَوازُ شَهادَتِه ففيه خِلافٌ بَينَ الفُقَهاءِ
[801] يُنظر: ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/637)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/713). .
ثانيًا: التَّرجيحُ بموافقةِ الأصلِ سَنَنَ القياسِ [802] قال البِرماويُّ: (أن يَتَرَجَّحَ أحَدُ القياسَينِ بكَونِه على سَنَنِ القياسِ دونَ الآخَرِ، والمُرادُ بذلك هنا أن يَكونَ فرعُه مِن جِنسِ أصلِه، كما صَرَّحَ به أبو الطَّيِّبِ، والماوَرديُّ، وأبو إسحاقَ الشِّيرازيُّ، وابنُ السَّمعانيِّ، وغَيرُهم). ((الفوائد السنية)) (5/271). إذا تَعارَضَ قياسانِ، وكان أحَدُهما حُكمُه جارٍ على وَفقِ القياسِ ومُقتَضى القَواعِدِ الكُلِّيَّةِ باتِّفاقٍ، وحُكمُ الآخَرِ مُختَلِفٌ في كَونِ أصلِه جاريًا وَفقَ سَنَنِ القياسِ؛ فإنَّه يُقدَّمُ القياسُ الأوَّلُ على الثَّاني، ومِمَّن نَصَّ عليه: الشِّيرازيُّ
[803] يُنظر: ((اللمع)) (ص: 119). ، والآمِديُّ
[804] يُنظر: ((الإحكام)) (4/268). ، والبِرْماويُّ
[805] يُنظر: ((الفوائد السنية)) (5/271). ؛ وذلك لأنَّ المُتَّفَقَ عليه أقوى مِنَ المُختَلَفِ فيه، ولأنَّ المُختَلِفَ في جَرَيانِه على سَنَنِ القياسِ لو تَحَقَّقَ عُدولُه عنه فإنَّه لا يَكونُ قياسًا؛ لفَقدِه شَرطًا مِن شُروطِ القياسِ، فالخارِجُ عنِ القياسِ لا يُقاسُ عليه، وأيضًا يُقدَّمُ ما كان أصلُه مِن جِنسِ الفَرعِ المُتَنازَعِ فيه على ما ليس كذلك؛ لأنَّ الجِنسَ بالجِنسِ أَولى
[806] يُنظر: ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/715،714)، ((التعارض والترجيح في الأقيسة)) لجيلاني البالي (ص: 233)، ((التعارض والترجيح)) للبرزنجي (2/245). .
ومِثالُه: قياسُ ما دونَ أَرْشِ
[807] الأَرْشُ: هو اسمٌ للمالِ الواجِبِ على ما دونَ النَّفسِ (ديةُ الجِراحاتِ)، ويُطلَقُ على الفَرقِ بَينَ قيمةِ الشَّيءِ مَعيبًا وقيمَتِه سَليمًا مِنَ الثَّمَنِ، فهو الذي يَأخُذُه المُشتَري مِنَ البائِعِ إذا اطَّلَعَ على عَيبٍ في المَبيعِ. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (3/995)، ((النهاية)) لابن الأثير (1/39) ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 17)، ((المطلع على دقائق زاد المستقنع)) للاحم (1/521). المُوضِحةِ
[808] المُوضِحةُ: هيَ التي بَلَغَتِ العَظمَ، وكَشَفت عنه وبَيَّنَته وأظهَرَت وَضَحَه، أي: بَياضَه. يُنظر: ((طلبة الطلبة)) للنسفي (ص: 165)، ((النظم المستعذب)) لبطال (2/236)، ((المصباح المنير)) للفيومي (2/662)، ((تاج العروس)) للزبيدي (7/215). على المُوضِحةِ في تَحَمُّلِ العاقِلةِ
[809] العاقِلةُ: هيَ الجَماعةُ التي تَغرَمُ الدِّيةَ، وسُمِّيَتِ الدِّيةُ عَقلًا لأنَّها تَعقِلُ الدِّماءَ عن أن تُسفَكَ، وقيلَ: كان أصلُ الدِّية الإبِلَ، فكانت تُجمَعُ وتُعقَلُ بفِناءِ وَليِّ المَقتولِ، فسُمِّيَتِ الدِّيةُ عَقلًا. يُنظر: ((حلية الفقهاء)) لابن فارس (ص: 196)، ((المغرب)) للمطرزي (ص: 324). له، وهو أَولى مِن قياسِه ذلك على غَراماتِ الأموالِ في إسقاطِ التَّحَمُّلِ عنِ العاقِلةِ، وإلزامِ الجاني به، وإنَّما ترَجَّح قياسُه على الموضِحةِ؛ لأنَّ الموضِحةَ مِن جِنسِ ما اختُلِف فيه، فكان على سَنَنِه؛ لاشتِراكِ الأصلِ والفرعِ في كَونِ كُلٍّ مِنهما جِنايةً على البَدَنِ، بخِلافِ القياسِ الثَّاني؛ فإنَّ الأصلَ فيه جِنايةٌ على الأموالِ، فيُقدَّمُ الأوَّلُ؛ لأنَّ الجِنسَ بالجِنسِ أشبَهُ، كما يُقالُ: قياسُ الطَّهارةِ على الطَّهارةِ أَولى مِن قياسِها على سَترِ العَورةِ
[810] يُنظر: ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/638)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/715،714). .
ثالِثًا: كَونُ الأصلِ مُعَلَّلًا بالِاتِّفاقِ في أحَدِ القياسَينِ مَعَ الِاختِلافِ عليه في القياسِ المُقابِلِإذا تَعارَضَ قياسانِ، وكان الأصلُ في أحَدِهما مُعَلَّلًا بالِاتِّفاقِ، فإنَّه يُقدَّمُ على القياسِ الآخَرِ المُختَلَفِ في كَونِ أصلِه مُعَلَّلًا، ومِمَّن نَصَّ عليه: الآمِديُّ
[811] يُنظر: ((الإحكام)) (4/269). ، وابنُ السُّبكيِّ
[812] يُنظر: ((جمع الجوامع)) (ص: 117). ؛ وذلك لأنَّ المُتَّفَقَ على تَعليلِ أصلِه أقرَبُ إلى العُقولِ، وأبعَدُ عنِ الِالتِباسِ والخِلافِ مِنَ المُختَلَفِ في كَونِه مُعَلَّلًا
[813] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/269)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/271)، ((التعارض والترجيح في الأقيسة)) لجيلاني البالي (ص: 234،233). .
ومِثالُه: ما لو قيلَ: يَنبَغي إزالةُ النَّجاسةِ عنِ المَكانِ قياسًا على إزالَتِها عن بَدَنِ الإنسانِ، وقال الآخَرُ: يَنبَغي إزالةُ النَّجاسةِ عنِ المَكانِ قياسًا على غَسلِ الإناءِ الذي ولَغَ فيه الكَلبُ؛ فإنَّ القياسَ الأوَّلَ أَولى؛ لأنَّ الأوَّلَ -وهو إزالَتُها عن بَدَنِ الإنسانِ- مُتَّفَقٌ على تَعليلِه، بخِلافِ الثَّاني، وهو الغَسلُ مِن وُلوغِ الكَلبِ؛ فإنَّه مُختَلَفٌ فيه؛ حَيثُ ذَهَبَ مالِكٌ إلى أنَّه تَعَبُّديٌّ
[814] يُنظر: ((التبصرة)) للخمي (1/58). ، والمُتَّفَقُ على تَعليلِه أَولى مِنَ المُختَلَفِ في تَعليلِه
[815] يُنظر: ((مذكرة أصول الفقه)) لمحمد الأمين الشنقيطي (ص: 527). .
رابِعًا: بَقاءُ حُكمِ الأصلِ في أحَدِ القياسَينِ بالِاتِّفاقِ والِاختِلافِ في نَسخِه في القياسِ المُقابِلِإذا تَعارَضَ قياسانِ، وكان الأصلُ في أحَدِهما مُتَّفَقًا على بَقاءِ حُكمِه وعَدَمِ نَسخِه، والآخَرُ اختُلِف في نَسخِ حُكمِ أصلِه؛ فإنَّ المُتَّفَقَ على حُكمِ أصلِه يُقدَّمُ على القياسِ المُقابِلِ المُختَلَفِ في نَسخِ حُكمِ أصلِه، ومِمَّن نَصَّ عليه: الغَزاليُّ
[816] يُنظر: ((المستصفى)) (ص: 379). ، والآمِديُّ
[817] يُنظر: ((الإحكام)) (4/268). ، وابنُ الحاجِبِ
[818] يُنظر: ((مختصر منتهى السؤل والأمل)) (2/1303). ؛ وذلك لأنَّ المُتَّفَقَ عليه أقوى لسَلامَتِه عنِ احتِمالِ تَطَرُّقِ الخَلَلِ إليه؛ لأنَّ مِن شَرطِ صِحَّةِ القياسِ بَقاءَ حُكمِ الأصلِ، فإذا اختُلِف في نَسخِه فقدِ احتَمَلَ بَقاؤه وعَدَمُه، فيَتَطَرَّقُ الخَلَلُ إليه حينَئِذٍ، فيُقدَّمُ المُتَّفَقُ عليه لسَلامَتِه حينَئِذٍ عن تَطَرُّقِ الخَلَلِ إليه
[819] يُنظر: ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/637)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/271)، ((التعارض والترجيح في الأقيسة)) لجيلاني البالي (ص: 235). .
خامِسًا: قوَّةُ دَليلِ المُثبِتِ إذا تَعارَضَ قياسانِ، وكان الدَّليلُ المُثبِتُ لأحَدِهما أقوى مِنَ الآخَرِ، فإنَّه يُرَجَّحُ على مُقابِلِه الذي ليس كذلك، فيُقدَّمُ ما ظَنَّه أغلَبَ على غَيرِه تَقديمًا لِما كان دَليلُه أقوى؛ لأنَّ الظَّنَّ فيه أغلَبُ
[820] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 379)، ((المحصول)) للرازي (5/463)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/637)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/713)، ((التعارض والترجيح)) للبرزنجي (2/244)، ((التعارض والترجيح في الأقيسة)) لجيلاني البالي (ص: 237). ، فإذا كان أصلُ أحَدِهما مَنصوصًا عليه، وأصلُ الآخَرِ ثَبَتَ بالتَّنبيهِ أو بالعُمومِ أو بدَليلِ الخِطابِ المَنصوصِ عليه، فيكونُ المقطوعُ به والمنصوصُ عليه أَولى؛ لأنَّه أقوى، والفَرعُ يَقوى لقوَّةِ أصلِه
[821] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (4/228). ، ومِمَّن نَصَّ عليه: أبو الخَطَّابِ الكَلْوَذانيُّ
[822] يُنظر: ((التمهيد)) (4/228). ، والآمِديُّ
[823] يُنظر: ((الإحكام)) (4/268). ، وابنُ الحاجِبِ
[824] يُنظر: ((مختصر منتهى السؤل والأمل)) (2/1303). ، وابنُ السُّبكيِّ
[825] يُنظر: ((جمع الجوامع)) (ص: 116). ، والبِرْماويُّ
[826] يُنظر: ((الفوائد السنية)) (5/271). .