موسوعة أصول الفقه

الفرعُ الخامِسُ: أن يَتَحَرَّى مَن يَسألُ ويَجتَهدَ في أعيانِ المُفتينَ


يَجِبُ على المُستَفتي قَطعًا البَحثُ عَمَّن تَتَوفَّرُ فيه أهليَّةُ الفتوى لإفتائِه، وعليه أن يَسألَ أهلَ العِلمِ الشَّرعيِّ حَصرًا، وخاصَّةً المُلتَزِمينَ بالتَّقوى؛ لأنَّ التَّحَرِّيَ في أمرِ الدِّينِ واجِبٌ، ويَسألُ مَن عَرَف عِلمَه وعَدالتَه [658] يُنظَر: ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (2/400). .
وقد نَقَلَ الرَّازيُّ الإجماعَ على هذا، فقال: (اتَّفقوا على أنَّه لا يَجوزُ له الاستِفتاءُ إلَّا إذا غَلَبَ على ظَنِّه أنَّ مَن يُفتيه من أهلِ الاجتِهادِ، ومِن أهلِ الوَرَعِ، وذلك إنَّما يَكونُ إذا رَآه مُنتَصِبًا للفتوى بمَشهَدِ الخَلقِ، ويَرى اجتِماعَ المُسلِمينَ على سُؤالِه، واتَّفقوا على أنَّه لا يَجوزُ للعامِّيِّ أن يَسألَ مَن يَظُنُّه غَيرَ عالِمٍ ولا مُتَدَيِّنٍ، وإنَّما وجَبَ عليه ذلك؛ لأنَّه بمَنزِلةِ نَظَرِ المُجتَهِدِ في الأماراتِ) [659] ((المحصول)) (6/81). .
وعَلَّلَ الشَّاطِبيُّ ذلك بقَولِه: (السَّائِلُ لا يَصِحُّ له أن يَسألَ مَن لا يُعتَبَرُ في الشَّريعةِ جَوابُه؛ لأنَّه إسنادُ أمرٍ إلى غَيرِ أهلِه، والإجماعُ على عَدَمِ صِحَّةِ مِثلِ هذا، بَل لا يُمكِنُ في الواقِعِ؛ لأنَّ السَّائِلَ يَقولُ لمَن ليسَ بأهلٍ لِما سُئِلَ عنه: أخبِرْني عَمَّا لا تَدري، وأنا أُسنِدُ أمري لك فيما نَحنُ بالجَهلِ به على سَواءٍ! ومِثلُ هذا لا يَدخُلُ في زُمرةِ العُقَلاءِ) [660] ((الموافقات)) (5/285). .
فعلى المُستَفتي أن يَتَحَرَّى ويَسألَ عنِ المُفتينَ الموثوقين عِلمًا وعَدالةً، ولا يَسألَ مَن يَراه مِنَ النَّاسِ عن مَسألةٍ شَرعيَّةٍ، كَما أنَّه لا يَسألُ آحادَ النَّاسِ عن مَسألةٍ في الطِّبِّ أو عن وجَعٍ أصابَه، بَل يَذهَبُ إلى المُختَصِّينَ الحاذِقينَ مِنَ الأطِبَّاءِ ليَسألَهم عَمَّا أصابَه مِن مَرَضٍ أو وجَعٍ، فكذلك المُفتي؛ فهو طَبيبٌ مِن مَرَضِ الشُّبُهاتِ والشَّهَواتِ المُحَرَّمةِ التي قد تودي بصاحِبِها إلى المَهالِكِ.
قال النَّوويُّ: (يَجِبُ عليه قَطعًا البَحثُ الذي يَعرِفُ به أهليَّةَ مَن يَستَفتيه للإفتاءِ إذا لم يَكُنْ عارِفًا بأهليَّتِه، فلا يَجوزُ له استِفتاءُ مَنِ انتَسَبَ إلى العِلمِ وانتَصَبَ للتَّدريسِ والإقراءِ وغَيرِ ذلك مِن مَناصِبِ العُلَماءِ بمُجَرَّدِ انتِسابِه وانتِصابِه) [661] ((آداب الفتوى)) (ص: 72). .

انظر أيضا: