موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ التَّاسِعةُ: الجَهلُ


الجَهلُ: خِلافُ العِلمِ [795] يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (4/ 1663)، ((لسان العرب)) لابن منظور (11/ 129). .
وينقسم الجهل إلى نوعين:
النَّوع الأوَّل: الجَهلُ البَسيطُ: وهو عَدَمُ العِلمِ عَمَّا مِن شَأنِه أن يُعلَمَ. أو: انتِفاءُ إدراكِ الشَّيءِ بالكُلِّيَّةِ.
مِثالُه: مَن سُئِلَ هل تَجوزُ الصَّلاةُ بالتَّيَمُّمِ عِندَ عَدَمِ الماءِ، فقال: لا أعلَمُ. كان ذلك جَهلًا بَسيطًا.
النَّوع الثَّاني: الجَهلُ المُرَكَّبُ، وهو العِلمُ والاعتِقادُ بما يُخالفُ الواقِعَ. أو: إدراكُ الشَّيءِ على وجهٍ يُخالفُ ما هو عليه.
مِثالُه: مَن سُئِلَ هل تَجوزُ الصَّلاةُ بالتَّيَمُّمِ عِندَ عَدَمِ الماءِ؟ فقال: لا. كان ذلك جَهلًا مُرَكَّبًا [796] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (1/ 82)، ((البحر المحيط)) للزركشي (1/ 101)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (1/ 42)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (1/ 77)، ((دستور العلماء)) للأحمد نكري (1/ 288)، ((المعجم الوسيط)) (1/ 144). .
وسُمِّيَ مُرَكَّبًا؛ لأنَّه مُرَكَّبٌ مِن عَدَمِ العِلمِ بالشَّيءِ، ومِنَ الاعتِقادِ الذي هو غيرُ مُطابقٍ لِما في الخارِجِ [797] يُنظر: ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (1/ 43). .
والفرقُ بينَهما مِن وُجوهٍ:
1- أنَّ الجَهلَ البَسيطَ عَدَميٌّ، وأمَّا المُرَكَّبُ فوجوديٌّ يُقابلُ العِلمَ تَقابُلَ ضِدَّينِ؛ ولذا سُمِّيَ بالمُرَكَّبِ.
2- أنَّ مُخاطَبةَ صاحِبِ الجَهلِ البَسيطِ مُخاطَبةُ تَعليمٍ، أمَّا صاحِبُ الجَهلِ المُرَكَّبِ فمُخاطَبةُ عِنادٍ.
3- أنَّ الجَهلَ البَسيطَ لا اعتِقادَ فيه البَتَّةَ، أمَّا المُرَكَّبُ فهو اعتِقادٌ.
4- أنَّ الجَهلَ البَسيطَ قَد يَدخُلُ فيه النِّسيانُ والغَفلةُ والسَّهوُ، ولا يَكونُ ذلك في المُرَكَّبِ [798] يًنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (1/ 101)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (1/77). .
والجهل إما أن يكون في فعل محظور أو في ترك مأمور فإن كان في فعل محظور فإنه لا يترتب عليه شيء لا قضاء ولا إثم ولا كفارة ولا حد فيما فيه الحد ولا فرق بين أن يكون جاهلا بالحُكمُ أو جاهلا بالحال فالقاعدة أن كل من فعل محرما جاهلا بتحريمه فلا شيء عليه كمن تكلم في الصلاة جاهلا بالتحريم فلا يأثم ولا تبطل صلاته [799] لَكِن هل تُقبَلُ دَعوى الجَهلِ مِن كُلِّ مَنِ ادَّعى ذلك؟  الجَوابُ فيه تَفصيل؛ فإن وُجِدَت قَرائِنُ تَدُلُّ على صِدقِه فإنَّه يَثبُتُ لَه حُكمُ الجاهِلِ، وإلَّا فلا. يُنظر: ((شرح الأصول من علم الأصول)) لابن عثيمين (ص: 224). . كما في حَديثِ مُعاويةَ بنِ الحَكَمِ السُّلَميِّ [800] عن معاويةَ بنِ الحَكَمِ السُّلَميِّ، قال: ((بينا أنا أُصَلِّي مع رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ عَطَس رجُلٌ من القومِ، فقُلتُ: يرحمُك اللَّهُ! فرماني القومُ بأبصارِهم، فقُلتُ: واثُكْلَ أُمِّيَاه! ما شأنُكم تَنظُرون إليَّ؟! فجَعَلوا يَضرِبون بأيديهم على أفخاذِهم، فلمَّا رأيتُهم يُصَمِّتُونني لكِنِّي سكَتُّ، فلمَّا صلَّى رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فبأبي هو وأمي، ما رأيتُ مُعَلِّمًا قَبلَه ولا بعدَه أحسنَ تعليمًا منه، فواللهِ ما كَهَرني، ولا ضرَبني، ولا شتَمَني. قال: إنَّ هذه الصَّلاةَ لا يَصلُحُ فيها شيءٌ من كلامِ النَّاسِ، إنَّما هو التَّسبيحُ والتَّكبيرُ وقراءةُ القرآنِ. أو كما قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم...)). أخرجه مسلم (537). .
فإن كان الجَهلُ في تَركِ الواجِبِ؛ فإمَّا أن يَكونَ غيرَ موقَّتٍ ولا مُقيَّدٍ بسَبَبٍ، فهذا إذا تَرَكه جاهلًا ثُمَّ عَلمَ فِعلَه مَتى عَلِم.
وإمَّا أن يَكونَ موقَّتًا وفاتَ الوقتُ، وهو لا يَعلَمُ بوُجوبِه، فهذا لا يَخلو مِن حالَتينِ:
الأُولى: أن يَكونَ مُقَصِّرًا، بحيثُ يَكونُ عِندَه شُبهةٌ ويَترُكُ السُّؤالَ، فهذا يُلزَمُ بقَضاءِ ما سَبَقَ ولَو تَرَكه جاهلًا؛ لأنَّه مُقَصِّرٌ مُفَرِّطٌ؛ لأنَّ الواجِبَ عليه أن يَسألَ. قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمونَ.
الثَّانيةُ: ألَّا يَطرَأَ على بالِه وُجوبُ هذا الشَّيءِ مِنَ الأصلِ، فهذا مَعذورٌ ولا يَلزَمُه قَضاءُ ما فاتَ؛ لأنَّه جاهلٌ ولَم يَتَعَمَّدِ الإثمَ ولَم يُفرِّطْ في السُّؤالِ.
ومِن صُوَرِ عَدَمِ التَّفريطِ أن يَكونَ الإنسانُ ناشِئًا في باديةٍ بَعيدةٍ لا يَدري عن أحكامِ اللهِ شيئًا، فهذا لا شيءَ عليه، ولا يَلزَمُه قَضاءٌ، سَواءٌ تَرَك العِبادةَ أصلًا أو أخَلَّ فيها بشَرطٍ أو برُكنٍ أو بواجِبٍ، إلَّا إذا كان المَأمورُ به قَد بَقيَ وقتُه، فهو مُطالَبٌ به.
فالجَهلُ بالواجِبِ لا يُؤاخَذُ به الإنسانُ مِن جِهةِ الإثمِ؛ لأنَّه جاهلٌ، لَكِن مِن حيثُ القَضاءُ فيه تَفصيلٌ؛ إن حَصَلَ مِنه تَفريطٌ فلا يُتَساهلُ مَعَه، وإن لَم يَحصُلْ مِنه تَفريطٌ يُعذَرُ به ويُرفَعُ عنه القَضاءُ؛ لحَديثِ المُسيءِ صَلاتَه، وحَديثِ المُستَحاضةِ، ولَم يَأمُرْها بالقَضاءِ، وكذلك أهلُ قُباءٍ صَلَّوا بَعضَ الصَّلَواتِ إلى غيرِ القِبلةِ [801] ((شرح الأصول من علم الأصول)) لابن عثيمين (ص: 218، 224، 227- 229، 232، 236).
الحالاتُ التي يُعذَرُ فيها بالجَهلِ
1- مَن أسلَمَ في دارِ الحَربِ ولَم يَتَمَكَّنْ مِنَ العِلمِ:
قال ابنُ تَيميَّةَ: (وبالجُملةِ، لا خِلافَ بينَ المُسلِمينَ أنَّ مَن كان في دارِ الكُفرِ وقد آمَنَ وهو عاجِزٌ عنِ الهجرةِ، لا يَجِبُ عليه مِنَ الشَّرائِعِ ما يَعجِزُ عنها، بَل الوُجوبُ بحَسَبِ الإمكانِ، وكذلك ما لَم يَعلَمْ حُكمَه) [802] ((منهاج السنة النبوية)) (5/ 77). .
وقال الكاسانيُّ: (الذي أسلَمَ في دارِ الحَربِ مُنِعَ عنه العِلمُ لانعِدامِ سَبَبِ العِلمِ في حَقِّه، ولا وُجوبَ على مَن مُنِعَ عنه العِلمُ كما لا وُجوبَ على مَن مُنِعَ عنه القُدرةُ بمَنعِ سَبَبِها) [803] ((بدائع الصنائع)) (2/ 39). .
ولا يُعذَرُ بالجَهلِ مَن تَمَكَّنَ مِنَ العِلمِ وفرَّطَ فيه؛ قال القَرافيُّ: (القاعِدةُ الشَّرعيَّةُ دَلَّت على أنَّ كُلَّ جَهلٍ يُمكِنُ المُكلَّفَ دَفعُه لا يَكونُ حُجَّةً للجاهِلِ؛ فإنَّ اللَّهَ تعالى بَعث رُسُلَه إلى خَلقِه برَسائِلِه، وأوجَبَ عليهم كافَّةً أن يَعلَموها ثُمَّ يَعمَلوا بها، فالعِلمُ والعَمَلُ بها واجِبانِ، فمَن تَرَك التَّعَلُّمَ والعَمَلَ وبَقيَ جاهلًا فقَد عَصى مَعصيَتينِ لتَركِه واجِبَينِ، وإن عَلِم ولَم يَعمَلْ فقَد عَصى مَعصيةً واحِدةً بتَركِ العَمَلِ، ومَن عَلِمَ وعَمِلَ فقَد نَجا) [804] ((الفروق)) (4/ 264). .
وقال البَيضاويُّ: (العالمُ والجاهِلُ المُتَمَكِّنُ مِنَ العِلمِ سَواءٌ في التَّكليفِ) [805] ((تفسير البيضاوي)) (1/ 56). .
2- مَن نَشَأ بباديةٍ أو بُقعةٍ نائيةٍ:
قال ابنُ تَيميَّةَ: (اتَّفقَ الأئِمَّةُ على أنَّ مَن نَشَأ بباديةٍ بَعيدةٍ عن أهلِ العِلمِ والإيمانِ، وكان حَديثَ العَهدِ بالإسلامِ فأنكرَ شيئًا مِن هذه الأحكامِ الظَّاهرةِ المُتَواتِرةِ؛ فإنَّه لا يُحكَمُ بكُفرِه حَتَّى يَعرِفَ ما جاءَ به الرَّسولُ) [806] ((مجموع الفتاوى)) (11/ 407). .
وقال ابنُ حَزمٍ: (ومَن لَم يَبلُغْه البابُ مِن واجِباتِ الدِّينِ فإنَّه مَعذورٌ لا مَلامةَ عليه، وقد كان جَعفَرُ بنُ أبي طالبٍ وأصحابُه رَضِيَ اللهُ عنهم بأرضِ الحَبَشةِ، ورَسولُ اللهِ بالمَدينةِ، والقُرآنُ يَنزِلُ والشَّرائِعُ تُشرَعُ، فلا يَبلُغُ إلى جَعفَرٍ وأصحابِه أصلًا؛ لانقِطاعِ الطَّريقِ جُملةً مِنَ المَدينةِ إلى أرضِ الحَبَشةِ، وبَقُوا كذلك سِتَّ سِنينَ، فما ضَرَّهم ذلك في دينِهم شيئًا إذا عَمِلوا بالحَرامِ وتَرَكوا المَفروضَ) [807] ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (4/ 50). .
3- إذا كان الجاهِلُ حَديثَ عَهدٍ بالإسلامِ:
قال ابنُ تَيميَّةَ: (فإنَّ مَن نَشَأ بباديةٍ أو كان حَديثَ عَهدٍ بالإسلامِ، وفعَلَ شيئًا مِنَ المُحَرَّماتِ غيرَ عالمٍ بتَحريمِها؛ لَم يَأثَمْ ولَم يُحَدَّ، وإن لَم يَستَنِدْ في استِحلالِه إلى دَليلٍ شَرعيٍّ) [808] ((مجموع الفتاوى)) (20/ 252). .
4- إذا كان الجَهلُ مُتَعَلِّقًا بالمَسائِلِ الخَفيَّةِ التي يَخفى عِلمُها على كثيرٍ مِنَ المُسلِمينَ [809] وذلك لخَفاءِ دَليلِها على بَعضِ النَّاسِ، كما في مَسائِلِ القَدَرِ والإرجاءِ ونَحوِ ذلك مِمَّا قاله أهلُ الأهواءِ؛ فإنَّ بَعضَ أقوالِهم تَتَضَمَّنُ أُمورًا كُفريَّةً مِن رَدِّ أدِلَّةِ الكِتابِ والسُّنَّةِ المُتَواتِرةِ النَّبَويَّةِ، فيَكونُ القَولُ المُتَضَمِّنُ لرَدِّ بَعضِ النُّصوصِ كُفرًا، ولا يُحكَمُ على قائِلِه بالكُفرِ؛ لاحتِمالِ وُجودِ مانِعٍ، كالجَهلِ وعَدَمِ العِلمِ بنَفسِ النَّصِّ أو بدَلالَتِه؛ فإنَّ الشَّرائِعَ لا تَلزَمُ إلَّا بَعدَ بُلوغِها. يُنظر: ((منهاج التأسيس والتقديس)) لعبد اللطيف آل الشيخ (ص: 101). ، أمَّا الجَهلُ بما هو مَعلومٌ مِنَ الدِّينِ بالضَّرورةِ، كالجَهلِ بوُجوبِ الصَّلاةِ والزَّكاةِ، والجَهلِ بحُرمةِ الزِّنا والرِّبا والظُّلمِ، ونَحوِ ذلك؛ فهذا لا يُعذَرُ به أحَدٌ مِمَّن عاشَ بينَ المُسلِمينَ؛ لأنَّه إمَّا ناشِئٌ عن تَقصيرٍ وتَفريطٍ، وإمَّا أنَّه دَعوى كاذِبةٌ فيَدَّعي الجَهلَ وهو يَعلَمُ [810] ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 83). .
5- الجَهلُ في مَوضِعِ الاجتِهادِ أوِ الاشتِباهِ، وفيما يَتَعَذَّرُ الاحتِرازُ عنه عادةً، كالجَهلِ بحُرمةِ بَعضِ أنواعِ البُيوعِ، وبَعضِ الأحوالِ العارِضةِ للإنسانِ في صَلاتِه أو في حَجِّه، ونَحوِ ذلك مِمَّا يَصعُبُ على عامَّةِ النَّاسِ الإحاطةُ به؛ فهذا النَّوعُ يَسقُطُ عنِ الجاهِلِ اللَّومُ والذَّمُّ [811]  يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (2/ 150)، ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 83). .
ومِن صُوَرِ الجَهلِ الذي يَتَعَذَّرُ الاحتِرازُ عنه عادةً: مَن أكلَ طَعامًا نَجِسًا يَظُنُّه طاهرًا فهذا جَهلٌ يُعفى عنه؛ لِما في تَكرُّرِ الفَحصِ عن ذلك مِنَ المَشَقَّةِ والكُلفةِ، وكذلك المياهُ النَّجِسةُ والأشرِبةُ النَّجِسةُ لا إثمَ على الجاهِلِ بها [812] ((الفروق)) للقرافي (2/ 150). .
الأدِلَّةُ على العُذرِ بالجَهلِ:
1- قَولُ الله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا [الإسراء: 15] .
2- قَولُ الله سبحانه: لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165] .
3- قَولُ الله عزَّ وجلَّ: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا [القصص: 59] .
وَجهُ الدَّلالةِ مِن هذه الآياتِ:
أنَّ اللَّهَ سُبحانَه بيَّن أنَّه لا يُعاقِبُ أحَدًا حَتَّى يَبلُغَه ما جاءَ به الرَّسولُ، ومَن عَلمَ أنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللهِ فآمَنَ بذلك، ولَم يَعلَمْ كثيرًا مِمَّا جاءَ به، لَم يُعَذِّبْه اللهُ على ما لَم يَبلُغْه؛ فإنَّه إذا لَم يُعَذِّبْه على تَركِ الإيمانِ إلَّا بَعدَ البُلوغِ؛ فإنَّه لا يُعَذِّبُه على بَعضِ شَرائِطِه إلَّا بَعدَ البَلاغِ أَولى وأَحرى [813] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (22/ 41). .
4- حديثُ المسيءِ صَلاتَه [814] لَفظُه: فعن أبي هُرَيرةَ رضِي اللهُ عنه: ((أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دخَل المسجِدَ، فدخَل رجُلٌ فصلَّى، فسلَّم على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فرَدَّ وقال: ارجِعْ فصلِّ؛ فإنَّك لم تُصلِّ، فرجَع يُصلِّي كما صلَّى، ثُمَّ جاء فسلَّم على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: ارجِعْ فصلِّ؛ فإنَّك لم تُصَلِّ، ثلاثًا، فقال: والذي بعَثك بالحقِّ ما أُحسِنُ غَيرَه، فعلِّمْني، فقال: إذا قمْتَ إلى الصَّلاةِ فكبِّرْ، ثُمَّ اقرأْ ما تيسَّر معَك مِن القرآنِ، ثُمَّ اركَعْ حتَّى تطمئِنَّ راكِعًا، ثُمَّ ارفَعْ حتَّى تعتدِلَ قائِمًا، ثُمَّ اسجُدْ حتَّى تطمئِنَّ ساجِدًا، ثُمَّ ارفَعْ حتَّى تطمئِنَّ جالِسًا، وافعَلْ ذلك في صلاتِك كُلِّها). أخرجه البخاري (757) واللفظ له، ومسلم (397). ، ووَجهُ الدَّلالةِ مِنه: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَلَّمَه الصَّلاةَ المُجزيةَ ولَم يَأمُرْه بإعادةِ ما صَلَّى قَبلَ ذلك، مَعَ قَولِ الرَّجُلِ: ما أُحسِنُ غيرَ هذا، وإنَّما أمرَه أن يُعيدَ تلك الصَّلاةَ؛ لأنَّ وقتَها باقٍ فهو مُخاطَبٌ بها [815] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (22/44)، ((الفتاوى الكبرى)) (2/20) كِلاهما لابنِ تيميَّةَ. .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (فهذا المُسيءُ الجاهِلُ إذ عَلمَ بوُجوبِ الطُّمَأنينةِ في أثناءِ الوقتِ فوجَبَت عليه الطُّمَأنينةُ حينَئِذٍ، ولَم تَجِبْ عليه قَبلَ ذلك؛ فلهذا أمره بالطُّمَأنينةِ في صَلاةِ ذلك الوقتِ دونَ ما قَبلَها) [816] ((الفتاوى الكبرى)) (2/ 21). .
5- حَديثُ المَرأةِ المُستَحاضةِ التي قالت: إنِّي امرَأةٌ أُستحاضُ حَيضةً كثيرةً شَديدةً، فما تَرى فيها؟ قَد مَنَعَتني مِنَ الصَّلاةِ والصَّومِ! فأمَرَها صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالصَّلاةِ زَمَنَ الاستِحاضةِ ولَم يَأمُرْها بالقَضاءِ [817] لَفظه: عن حَمنةَ بنتِ جَحشٍ قالت: كُنتُ أُستَحاضُ حَيضةً كَثيرةً شَديدةً، فأتَيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أستَفتيه وأُخبِرُه، فوَجَدتُه في بَيتِ أختي زَينَبَ بِنتِ جَحشٍ، فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي امرَأةٌ أُستَحاضُ حَيضةً كَثيرةً شَديدةً، فما تَرى فيها؟ قد مَنَعَتني الصَّلاةَ والصَّومَ! قالَ: "أَنعَتُ لك الكُرسُفَ؛ فإنَّه يُذهِبُ الدَّمَ"، قالَت: هو أَكثَرُ مِن ذلك، قال: "فاتَّخِذي ثَوبًا"، فقالت: هو أَكثَرُ مِن ذلك، قالت: إنَّما أَثُجُّ ثَجًّا! قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "سآمُرُك بأَمرَينِ أيَّهما فَعَلتِ أَجزَأَ عنك مِن الآخَرِ، وإن قَوِيتِ عليهما فأنت أعلَمُ"، فقال لها: "إنَّما هذا رَكضةٌ مِن رَكَضاتِ الشَّيطانِ، فتَحيَّضي سِتَّةَ أيَّامٍ أو سَبعةَ أيَّامٍ في عِلمِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، ثُمَّ اغتَسِلي، حتَّى إذا رَأيتِ أنَّكِ قد طَهُرتِ واستَتقَأتِ فصلِّي ثَلاثًا وعِشرينَ لَيلةً أو أربَعًا وعِشرينَ لَيلةً وأيَّامَها وصُومي، فإنَّ ذلك يُجزِئُك، وكذلك فافعَلي كلَّ شَهرٍ كما تَحيضُ النِّساءُ وكما يَطهُرنَ مِيقاتَ حَيضِهنَّ وطُهرِهنَّ، فإن قَوِيتِ على أن تُؤَخِّري الظُّهرَ وتُعَجِّلي العَصرَ فتَغسِلينَ فتَجمَعينِ بَينَ الصَّلاتَينِ الظُّهرِ والعَصرِ، وتُؤَخِّرينَ المَغرِبَ وتُعَجِّلينَ العِشاءَ، ثُمَّ تَغتَسِلينَ وتَجمَعينَ بَينَ الصَّلاتَينِ، فافعَلي، وتَغسِلينَ معَ الفَجرِ فافعَلي، وصومي إن قَدَرتِ على ذلك". قالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "وهذا أَعجَبُ الأمرَينِ إليَّ". أخرجه أبو داود (287) واللفظ له، والترمذي (128)، وابن ماجه (627). صحَّحه الإمام أحمد، والبخاري كما في ((سنن الترمذي)) (128)، والترمذي، وعبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الوسطى)) (1/216)، والنووي في ((المجموع)) (2/377). .
6- وعن عَدِيِّ بنِ حاتِمٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: يا رَسولَ اللهِ، ما الخيطُ الأبيَضُ مِنَ الخيطِ الأسودِ؟ أهما الخيطانِ؟ قال: ((إنَّك لعَريضُ القَفا إن أبصَرتَ الخيطَينِ! ثُمَّ قال: لا، بَل هو سَوادُ اللَّيلِ وبياضُ النَّهارِ)) [818] أخرجه البخاري (4510) واللفظ له، ومسلم (1090). . ولم يأمُرْه بالإعادةِ.
قال ابنُ القَيِّمِ: (الشَّريعةُ تَعذِرُ الجاهلَ، كما تَعذِرُ النَّاسيَ أو أعظَمَ. كما عَذَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المُسيءَ في صَلاتِه بجَهلِه بوُجوبِ الطُّمَأنينةِ، فلَم يَأمُرْه بإعادةِ ما مَضى، وعَذَرَ المُستَحاضةَ بجَهلِها بوُجوبِ الصَّلاةِ والصَّومِ عليها مَعَ الاستِحاضةِ، ولَم يَأمُرْها بإعادةِ ما مَضى، وعَذَرَ عَدِيَّ بنَ حاتِمٍ بأكلِه في رَمَضانَ حينَ تَبيَّنَ لَه الخيطانِ اللَّذانِ جَعَلَهما تَحتَ وِسادَتِه، ولَم يَأمُرْه بالإعادةِ، وعَذَرَ أبا ذرٍّ بجَهلِه بوُجوبِ الصَّلاةِ إذا عُدِم الماءُ، فأمَرَه بالتَّيَمُّمِ، ولَم يَأمُرْه بالإعادةِ [819] لَفظُه: عن أبي ذَرٍّ، قال: (اجتَمَعَت غُنَيمةٌ عِندَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا أبا ذَرٍّ، ابدُ فيها، فبَدَوتُ إلى الرَّبَذةِ، فكانت تُصيبُني الجَنابةُ، فأمكُثُ الخَمسَ والسِّتَّ، فأتيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: أبو ذَرٍّ! فسَكتُّ، فقال: ثَكِلَتك أُمُّك أبا ذَرٍّ! لأُمِّك الوَيلُ! فدَعا لي بجاريةٍ سَوداءَ، فجاءَت بعُسٍّ فيه ماءٌ، فسَتَرَتني بثَوبٍ، واستَتَرتُ بالرَّاحِلةِ، واغتَسَلتُ، فكأنِّي ألقَيتُ عنِّي جَبَلًا! فقال: الصَّعيدُ الطّيِّبُ وَضوءُ المُسلمِ ولَو إلى عَشرِ سِنينَ، فإذا وجَدتَ الماءَ فأمِسَّه جِلدَك؛ فإنَّ ذلك خيرٌ). أخرجه أبو داود (332) واللفظ له، والترمذي (124)، والنسائي (322) مختصرًا. صحَّحه الترمذي، وأبو حاتم كما في ((التلخيص الحبير)) (1/240)، وابن حبان في ((صحيحه)) (1311)، والحاكم في ((المستدرك)) (627)، والنووي في ((المجموع)) (1/94). [820] ((إعلام الموقعين)) (2/ 44). .
7- عن حُذيفةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يَدرُسُ الإسلامُ كما يَدرُسُ وَشْيُ الثَّوبِ، حَتَّى لا يُدرى ما صيامٌ ولا صَلاةٌ ولا نُسُكٌ ولا صَدَقةٌ! ويُسرَى على كِتابِ اللهِ في ليلةٍ فلا يَبقى في الأرضِ مِنه آيةٌ، وتَبَقى طَوائِفُ مِنَ النَّاسِ -الشَّيخُ الكبيرُ والعَجوزُ- يَقولونَ: أدرَكنا آباءَنا على هذه الكَلِمةِ: لا إلَهَ إلَّا اللهُ، فنَحنُ نَقولُها! فقال لَه صِلةُ: ما تُغني عنهم لا إلَهَ إلَّا اللهُ وهم لا يَدرونَ ما صَلاةٌ ولا صيامٌ ولا نُسُكٌ ولا صَدَقةٌ؟! فأعرَضَ عنه حُذيفةُ، ثُمَّ رَدَّها عليه ثَلاثًا، كُلَّ ذلك يُعرِضُ عنه حُذيفةُ، ثُمَّ أقبَلَ عليه في الثَّالثةِ فقال: يا صِلةُ، تُنجيهم مِنَ النَّارِ، ثَلاثًا)) [821] أخرجه ابن ماجه (4049) واللفظ له، والحاكم (8460)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (2028). صحَّحه الحاكم وقال: على شرط مسلم، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (4049)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (303)، وصحَّح إسناده البوصيري في ((زوائد ابن ماجه)) (4/94)، وشعيب الأرناؤوط على شرط مسلم في تخريج ((سير أعلام النبلاء)) (12/321). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
قَولُه: ((تُنجيهم مِنَ النَّارِ)) فيه أنَّهم مَعذرونَ بعَدَمِ العِلمِ بفرائِضِ الإسلامِ، وذلك في وَقتِ اندِراسِ الإسلامِ [822] ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (1/409). .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (كثيرٌ مِنَ النَّاسِ قَد يَنشَأُ في الأمكِنةِ والأزمِنةِ الذي يَندَرِسُ فيها كثيرٌ مِن عُلومِ النُّبوَّاتِ، حَتَّى لا يَبقى مَن يُبَلِّغُ ما بَعَثَ اللهُ به رَسولَه مِنَ الكِتابِ والحِكمةِ، فلا يَعلَمُ كثيرًا مِمَّا يَبعَثُ اللهُ به رَسولَه، ولا يَكونُ هناك مَن يُبَلِّغُه ذلك، ومِثلُ هذا لا يَكفُرُ) [823] ((مجموع الفتاوى)) (11/ 407). .
المَسألةُ العاشِرةُ: تَكليفُ الكفَّارِ بفُروعِ الإسلامِ [824] نَبَّهَ ابنُ بَرهانَ في ((الوُصول إلى الأُصول)) (1/91) على أنَّ تَرجَمةَ المَسألةِ بهذا التَّعبيرِ تُلبِسُ حَقيقَتُها؛ لأنَّ الصَّلاةَ غيرُ صَحيحةٍ مِنَ الكافِرِ، وهو مَنهيٌّ عن فِعلِها، فكيف يَكونُ مُخاطَبًا بها؟ قال: (والصَّوابُ في تَرجَمَتِها أن يُقالَ: يَجوزُ خِطابُ الكُفَّارِ بالتَّوصُّلِ إلى فُروعِ الإسلامِ). وقد سَبَقَ إمامُ الحَرَمينِ بالإشارةِ إلى ذلك في البُرهانِ (1/18) فقال: (إنَّ الكافِرَ في حالِ كُفرِه يَستَحيلُ أن يُخاطَبَ بإنشاءِ فُروعٍ على الصِّحَّةِ، وكذلك القَولُ فيما يَقَعُ آخِرًا مِنَ العَقائِدِ في حَقِّ مَن لَم يَصِحَّ عَقدُه في الأوائِلِ، وكذلك المُحدِثُ مُستَحيلٌ أن يُخاطَبَ بإنشاءِ الصَّلاةِ الصَّحيحةِ مَعَ بَقاءِ الحَدَثِ، ولَكِنَّ هؤلاء مُخاطَبونَ بالتَّوصُّلِ إلى ما يَقَعُ آخِرًا، ولا يَتَنَجَّزُ الأمرُ عليهم بإيقاعِ المَشروطِ قَبلَ وُقوعِ الشَّرطِ).
اتَّفقَ العُلَماءُ على أنَّ الكُفَّارَ مُخاطَبونَ بأُصولِ الشَّريعةِ، كالإيمانِ باللهِ ومَلائِكتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليَومِ الآخِرِ والقَدَرِ، وأنَّ تَركَهم لَها يوجِبُ تَخليدَهم في النَّارِ [825] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/73)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (2/449)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (1/264)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (2/676)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (2/88)، ((البحر المحيط)) للزركشي (2/ 117). ، ونَقَل الإجماعَ على ذلك الباجيُّ [826] قال الباجي: (لا خلاف بين الأمة أن ‌الكفار ‌مخاطبون بالإيمان) ((الإشارة)) (ص: 174). ، وابنُ جُزَيٍّ [827] قال ابن جزي: (لا خلاف أن ‌الكفار ‌مخاطبون بالإيمان) ((تقريب الوصول)) (ص: 171). .
وأمَّا الخِطابُ بفُروعِ الشَّريعةِ: فإنَّه يَنقَسِمُ إلى خِطابِ وَضعٍ، وخِطابِ تَكليفٍ؛ فأمَّا خِطابُ الوَضعِ وما يَتَعَلَّقُ بالمُعامَلاتِ والعُقوباتِ وغيرِها [828] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/73)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (2/454-462)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (2/88). فلا نِزاعَ في أنَّهم مُخاطَبونَ بها [829] نقل التفتازاني عن السرخسي: (لا خلاف في أن الكفار يخاطبون بالإيمان، والعقوبات، والمعاملات). ((التلويح)) (1/ 411). ويُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/75). .
فبَقيَ النِّزاعُ في كونِهم مُخاطَبينَ بالتَّكليفِ بأداءِ العِباداتِ أو لا، والرَّاجِحُ أنَّ الكُفَّارَ مُخاطَبونَ بفُروعِ الشَّريعةِ. وهو مَذهَبُ العِراقيِّينَ مِنَ الحَنَفيَّةِ [830] يُنظر: ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 194)، ((كشف الأسرار)) للنسفي (1/139)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (4/243)، ((التحرير)) لابن الهمام (ص: 223). ، وجُمهورِ المالِكيَّةِ [831] يُنظر: ((نفائس الأصول)) للقرافي (4/1576). ، وهو مَنقولٌ عن الشَّافِعيِّ [832] يُنظر: ((البرهان)) لإمام الحرمين (1/17)، ((تخريج الفروع على الأصول)) للزنجاني (ص: 97)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (2/450). ، ومَذهَبُ أكثَرِ الشَّافِعيَّةِ [833] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 80)، ((المحصول)) للرازي (2/237)، ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (1/341). وقد ذكر النووي في ((المجموع)) (3/4) تَفصيلًا لمَذهَبِ الشَّافِعيَّةِ في المَسألةِ، فقال: (وأمَّا الكافِرُ الأصليُّ: فاتَّفقَ أصحابُنا في كُتُبِ الفُروعِ على أنَّه لا يَجِبُ عليه الصَّلاةُ والزَّكاةُ والصَّومُ والحَجُّ وغَيرُها مِن فُروعِ الإسلامِ، وأمَّا في كُتُبِ الأُصولِ فقال جُمهورُهم: هو مُخاطَبٌ بالفُروعِ كما هو مُخاطَبٌ بأصلِ الإيمانِ. وقيلَ: لا يُخاطَبُ بالفُروعِ. وقيلَ: يُخاطَبُ بالمَنهيِّ عنه، كتَحريمِ الزِّنا والسَّرِقةِ والخَمرِ والرِّبا وأشباهِها دونَ المَأمورِ به كالصَّلاةِ. والصَّحيحُ الأوَّلُ، وليس هو مُخالفًا لقَولِهم في الفُروعِ؛ لأنَّ المُرادَ هنا غيرُ المُرادِ هناك، فمُرادُهم في كُتُبِ الفُروعِ: أنَّهم لا يُطالَبونَ بها في الدُّنيا مَعَ كُفرِهم، وإذا أسلَمَ أحَدُهم لَم يَلزَمْه قَضاءُ الماضي، ولَم يَتَعَرَّضوا لعُقوبةِ الآخِرةِ. ومُرادُهم في كُتُبِ الأُصولِ: أنَّهم يُعَذَّبونَ عليها في الآخِرةِ زيادةً على عَذابِ الكُفرِ، فيُعَذَّبونَ عليها وعلى الكُفرِ جَميعًا، لا على الكُفرِ وحدَه، ولَم يَتَعَرَّضوا للمُطالَبةِ في الدُّنيا، فذَكروا في الأُصولِ حُكمَ أحَدِ الطَّرَفينِ، وفي الفُروعِ حُكمَ الطَّرَفِ الآخَرِ. واللهُ أعلَمُ). ، وأصحُّ الرِّواياتِ عِندَ الحنابِلةِ [834] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (2/358)، ((التمهيد)) للكلوذاني (1/298)، ((الواضح)) لابن عقيل (3/132)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/205)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (1/501). ، وهو مَذهَبُ الزَّيديَّةِ [835] يُنظر: ((صفوة الاختيار)) للمنصور بالله (ص: 67)، ((نهاج الوصول)) لابن المرتضى (ص: 257). ، والمُعتَزِلةِ [836] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (1/299)، ((معراج المنهاج)) للجزري (1/142)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (3/1087). ، وحَكاه الباقِلَّانيُّ عن جُمهورِ الأُصوليِّينَ [837] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) (2/186). ، وعزاه ابنُ الحاجِبِ والنَّوويُّ إلى المُحَقِّقينَ [838] يُنظر: ((منتهى الوصول والأمل)) (ص: 30)، ((المجموع)) (3/4). .
ومَعنى خِطابِهم بالتَّكليفِ: تَعَلُّقُ الوعيدِ بالتَّركِ، واستِحقاقُ العِقابِ عليه في الآخِرةِ، وليس المُرادُ بذلك أنَّهم يُؤمَرونَ بفِعلِ العِبادةِ مَعَ الكُفرِ، ولا بقَضائِها بَعدَ الإسلامِ [839] يُنظر: ((شرح اللمع)) الشيرازي (1/277). .
ومِنَ الأدِلَّةِ على ذلك:
1- قَولُ اللهِ تعالى: يا أيها الناس اعبدوا ربكم [البقرة: 21] .
2- قَولُ اللهِ عزَّ وجَلَّ: ولله على الناس حج البيت [آل عمران: 97] .
وَجهُ الدَّلالةِ مِنَ الآيتينِ:
أنَّ هذه النُّصوصَ تَدُلُّ على لُزومِ شَرائِعِ الإسلامِ كُلِّها للكُفَّارِ كلُزومِها للمُؤمِنينَ؛ لأنَّ لَفظَ (النَّاسِ) عامٌّ يَتَناولُ المُسلِمَ والكافِرَ، والكُفَّارُ مِن جُملةِ النَّاسِ، فيَدخُلونَ في الخِطابِ؛ لأنَّ الدُّخولَ في الخِطابِ إنَّما يَكونُ بصَلاحِ اللَّفظِ للمُخاطَبِ في اللُّغةِ، فإذا صَلَحَ لَه وكان مُطلَقًا، وجَبَ أن يَكونَ داخِلًا فيه [840] يُنظر: ((الإحكام)) لابن حزم (5/109)، ((شرح اللمع)) للشيرازي (1/279)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (1/ 34). .
3- عُمومُ الآياتِ التي تَتَوعَّدُ المُشرِكينَ على تَركِ بَعضِ الفُروعِ، وهذا دَليلٌ على أنَّهم كُلِّفوا ببَعضِ الفُروعِ [841] يُنظر: ((نهاية السول)) الإسنوي (ص: 74). ، كقَولِ اللهِ سُبحانَه: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [المدثر: 42- 44] .
ففيها إخبارٌ عن عِقابِهم على تَركِ الصَّلاةِ، وتَركِ إطعامِ المَساكينِ، مَعَ ما استَحَقُّوا مِنَ العِقابِ على كُفرِهم؛ لأنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ أخبَرَ عنهم أنَّه عاقَبَهم يَومَ القيامةِ، وسُئِلوا عَمَّا عاقَبَهم لأجلِه فاعتَرَفوا بأنَّهم عوقِبوا على تَركِ إقامةِ الصَّلاةِ وإطعامِ الطَّعامِ، ولَم يُنقَلْ مِنَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ بذلك نَكيرٌ عليهم في قَولِهم؛ فدَلَّ ذلك على أنَّ الخِطابَ مُتَوجِّهٌ عليهم بالعِباداتِ، وأنَّهم يُعاقَبونَ على تَركِها في الآخِرةِ [842] يُنظر: ((الفصول في الأصول)) للجصاص (2/159)، ((العدة)) لأبي يعلى (2/360)، ((إحكام الفصول)) للباجي (1/230)، ((شرح اللمع)) للشيرازي (1/277)، ((التلخيص)) لإمام الحرمين (1/390)، ((الواضح)) لابن عقيل (3/134)، ((شف الأسرار)) للنسفي (1/139). .
4- لأنَّ مَن خوطِبَ بالإيمانِ خوطِبَ بالشَّرعيَّاتِ كالمُسلمِ، ولا يَلزَمُ عليه الحائِضُ؛ لأنَّها لا تُخاطَبُ بالصَّلاةِ، وهي مُخاطَبةٌ بالإيمانِ؛ لقَولِنا بالشَّرعيَّاتِ، والحائِضُ مُخاطَبةٌ بالشَّرعيَّاتِ مِن حَجٍّ وزَكاةٍ وغيرِ ذلك [843] يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (1/279). .
وقيلَ: إنَّ الكُفَّارَ غيرُ مُخاطَبينَ بفُروعِ الشَّريعةِ مُطلَقًا، وهو مَذهَبُ مَشايِخِ سَمَرقَندَ مِنَ الحَنَفيَّةِ [844] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/74)، ((بذل النظر)) للأسمندي (ص: 192)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (2/88)، ((فتح الغفار)) لابن نجيم (1/83). قال السَّمَرقَنديُّ: (وقال بَعضُ مَشايِخِ ديارِنا: إنَّهم غيرُ مُخاطَبينَ أصلًا، لا بالعِباداتِ ولا بالمُحَرَّماتِ، إلَّا ما قامَ دَليلٌ شَرعيٌّ عليه تَنصيصًا، أوِ استُثنيَ في عُهودِ أهلِ الذِّمَّةِ، كما في حُرمةِ الرِّبا، ووُجوبِ الحُدودِ والقِصاصِ، وغيرِها). ((ميزان الأصول)) (ص: 194). ، وهو مَذهَبُ بَعضِ الشَّافِعيَّةِ [845] يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (1/277)، ((المجموع)) للنووي (3/5). ، ورِوايةٌ عِندَ الحَنابلةِ [846] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (1/299)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (1/503). ، وحَكاه الباقِلَّانيُّ عن كثيرٍ مِنَ الفُقَهاءِ والمُتَكلِّمينَ [847] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) (2/186). .
وقيلَ: إنَّ الكُفَّارَ مُخاطَبونَ بالنَّواهي دونَ الأوامِرِ، وهو قَولُ بَعضِ الحَنَفيَّةِ [848] يُنظر: ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 194). ، وبَعضِ المُتَكلِّمينَ مِنَ الشَّافِعيَّةِ [849] يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (1/277)، ((المجموع)) للنووي (3/5). ، وهو رِوايةٌ عِندَ الحَنابلةِ [850] يُنظر: ((الواضح)) لابن عقيل (3/133)، ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/229)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/205)، ((التحبير)) للمرداوي (3/1149). .
وعليه يَصِحَّ انتِهاؤُهم عنِ المَنهيَّاتِ، ولا يَصِحُّ إقدامُهم على فِعلِ المَأموراتِ، فهم مُخاطَبونَ بتَركِ القَتلِ والزِّنا وغيرِها مِنَ النَّواهي، وغيرُ مُكلَّفينَ بالصَّومِ وغيرِه مِنَ الأوامِرِ [851] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (2/ 237)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (2/450)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (2/683). ويُنظر أيضًا: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/161). قال الزَّركشيُّ: (ذَهَبَ بَعضُ أصحابِنا إلى أنَّه لا خِلافَ في تَكليفِهم بالنَّواهي، وإنَّما الخِلافُ في تَكليفِهم بالأوامِرِ. قاله الشَّيخُ أبو حامِدٍ الإسْفرايينيُّ في كِتابِه "الأُصول" والبَنْدَنِيجيُّ). ((البحر المحيط)) (2/ 130). ويُنظر: ((تيسير الوصول) لابن إمام الكاملية (2/168). .
وقيلَ بالتَّوقُّفِ، وهو مَذهَبُ بَعضِ الأشعَريَّةِ [852] يُنظر: البحر المحيط (2/132). .

انظر أيضا: