موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الخامِسةُ: حُكمُ قَصدِ المُكلَّفِ إلى فِعلِ المانِعِ مِن أجلِ إسقاطِ الأحكامِ عن نَفسِه


المانِعُ يُؤَثِّرُ وُجودُه في عَدَمِ الحُكمِ، فإذا حَدَثَ المانِعُ انتَفى الحُكمُ، وقد يَلجَأُ بَعضُ المُكلَّفينَ إلى فِعلِ المانِعِ، ويَتَرَتَّبُ على ذلك إسقاطُ الحُكمِ في حَقِّه، فهل يَجوزُ للمُكَلَّفِ أن يَقصِدَ ذلك أو لا؟
للجَوابِ عن هذا السُّؤالِ يَحسُنُ تَقسيمُ المانِعِ إلى النَّوعينِ التَّاليينِ:
1- نَوعٌ داخِلٌ تَحتَ خِطابِ التَّكليفِ، سَواءٌ كان مَأمورًا به أو مَنهيًّا عنه أو مَأذونًا فيه، وهذا لا إشكالَ فيه مِن هذه الجِهةِ؛ كالاستِدانةِ المانِعةِ مِنِ انتهاضِ سَبَبِ الوُجوبِ بالتَّأثيرِ لوُجوبِ إخراجِ الزَّكاةِ، وإن وُجِدَ النِّصابُ؛ فهو مُتَوقِّفٌ على فَقدِ المانِعِ، وكذلك الكُفرُ المانِعُ مِن صِحَّةِ أداءِ الصَّلاةِ والزَّكاةِ أو مِن وُجوبِهما، ومِنَ الاعتِدادِ بما طَلَّقَ في حالِ كُفرِه، إلى غيرِ ذلك مِنَ الأُمورِ الشَّرعيَّةِ التي مَنَعَ مِنها الكُفرُ، وكذلك الإسلامُ مانِعٌ مِنِ انتِهاكِ حُرمةِ الدَّمِ والمالِ والعِرضِ إلَّا بحَقِّها [966]  يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (1/444). .
2- نَوعٌ داخِلٌ تَحتَ خِطابِ الوَضعِ مِن حيثُ هو كذلك؛ فليس للشَّارِعِ قَصدٌ في تَحصيلِه مِن حيثُ هو مانِعٌ، ولا في عَدَمِ تَحصيلِه؛ فإنَّ المُستَدينَ ليس مُخاطَبًا برَفعِ الدَّينِ إذا كان عِندَه نِصابٌ لتَجِبَ عليه الزَّكاةُ، كما أنَّ مالِكَ النِّصابِ غيرُ مُخاطَبٍ بتَحصيلِ الاستِدانةِ لتَسقُطَ عنه؛ لأنَّه مِن خِطابِ الوَضعِ لا مِن خِطابِ التَّكليفِ، وإنَّما مَقصودُ الشَّارِعِ فيه أنَّه إذا حَصَلَ ارتَفعَ مُقتَضى السَّبَبِ [967] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (1/445). .
وهذا النَّوعُ الثَّاني لمَّا لَم يَكُنْ للمُكلَّفِ قَصدٌ في تَحصيلِه ولا في عَدَمِ تَحصيلِه، فإذا تَوَجَّه إليه قَصدُ المُكلَّفِ مِن حيثُ إنَّه داخِلٌ تَحتَ خِطابِ التَّكليفِ؛ مَأمورًا به، أو مَنهيًّا عنه، أو مُخيَّرًا فيه- فحُكمُه ظاهِرٌ، كالرَّجُلِ يَكونُ بيَدِه النِّصابُ، لَكِنَّه يَستَدينُ لحاجَتِه إلى ذلك، فهذا لا إشكالَ فيه، وتَنبَني الأحكامُ على مُقتَضى حُصولِ المانِعِ [968]  يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (1/446). .
أمَّا إذا قَصَدَ المُكلَّفُ فِعلَ المانِعِ مِن حيثُ كونُه مانِعًا، قاصِدًا لإسقاطِ حُكمِ السَّبَبِ؛ فإنَّه لا يَجوزُ، والأدِلَّةُ على ذلك كثيرةٌ؛ منها:
1- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا... الآية [القلم:17] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الآيةَ تَضَمَّنَتِ الإخبارَ بعِقابِهم على قَصدِ التَّحيُّلِ لإسقاطِ حَقِّ المَساكينِ، بتَحَرِّيهمُ المانِعَ مِن إتيانِهم، وهو وقتُ الصُّبحِ الذي لا يُبَكِّرُ في مِثلِه المَساكينُ عادةً، والعِقابُ إنَّما يَكونُ لفِعلِ مُحَرَّمٍ [969] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (1/446). .
2- قَولُ اللهِ عزَّ وجَلَّ: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ [النِّسَاءِ: 12] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الآيةَ دَلَّت على قَضاءِ دُيون الميِّتِ، وتَنفيذِ وصاياه، بشَرطِ ألَّا يُقصَدَ بها الإضرارُ، فإذا أقَرَّ في مَرَضِه بدَينٍ لوارِثٍ، أو أوصى بأكثَرَ مِنَ الثُّلثِ قاصِدًا حِرمانَ الوارِثِ أو نَقصَه بَعضَ حَقِّه بإبداءِ هذا المانِعِ مِن تَمامِ حَقِّه؛ كان مُضارًّا، والإضرارُ مَمنوعٌ باتِّفاقٍ [970] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (1/449). .

انظر أيضا: