موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الرَّابعةُ: إطلاقاتُ الرُّخصةِ


لمَّا كانتِ الرُّخصةُ تَعني التَّخفيفَ والتَّسهيلَ والتَّيسيرَ، تَوسَّع الفُقَهاءُ وبَعضُ الأُصوليِّينَ في إطلاقِ الرُّخصةِ على ما كان فيه تَخفيفٌ ورَفعٌ للمَشَقَّةِ، فمِن هذه الإطلاقاتِ:
أوَّلًا: ما أُبيحَ مَعَ قيامِ السَّبَبِ المُحَرَّمِ: وهذه الإباحةُ لعُذرٍ مِنَ الأعذارِ، سَواءٌ كان الذي أُبيحَ فِعلُ مُحَرَّمٍ، كأكلِ المَيتةِ للمُضطَرِّ، أو شُربِ الخَمرِ لصاحِبِ غُصَّةٍ، أو كان المُباحُ تَركَ واجِبٍ، كالفِطرِ للمَريضِ والمُسافِرِ، ويُلاحَظُ أنَّ الدَّليلَ المُحَرِّمَ والموجِبَ قائِمٌ، ولَكِنْ لوُجودِ عُذرٍ مِنَ الأعذارِ أُبيحَ فِعلُ المُحَرَّمِ وتَركُ الواجِبِ مَعَ دَليلٍ قائِمٍ أيضًا يُثبتُ هذه الإباحةَ، وهذا هو ما يَنطَبقُ عليه اصطِلاحُ الرُّخصةِ عِندَ الأُصوليِّينَ [993] يُنظر: ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص:81)، ((أصول السرخسي)) (1/118). .
ثانيًا: تُطلَقُ الرُّخصةُ على ما استُثنيَ مِن أصلٍ كُلِّيٍّ يَقتَضي المَنعَ مُطلَقًا، مِن غيرِ اعتِبارِ كونِه لعُذرٍ شاقٍّ، فتُستَعمَلُ فيما شُرِعَ مِنَ العُقودِ استِثناءً مِن قَواعِدِ العُقودِ العامَّةِ، فيَدخُلُ فيه القَرضُ، ورَدُّ الصَّاعِ مِنَ الطَّعامِ في مَسألة المُصَرَّاةِ، وضَربُ الدِّيةِ على العاقِلةِ، وما أشبَهَ ذلك مِمَّا شُرِعَ للحاجةِ إليه [994] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (1/469)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (2/683). .
ثالثًا: ما وُضِعَ عن هذه الأُمَّةِ مِنَ التَّكاليفِ الغَليظةِ والأعمالِ الشَّاقَّةِ التي دَلَّ عليها قَولُ اللهِ تعالى: رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا [البقرة: 286] ، وقَولُ اللهِ سُبحانَه: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف: 157] ؛ فإنَّ الرُّخصةَ في اللُّغةِ راجِعةٌ إلى مَعنى اللِّينِ، فكان ما جاءَ في هذه المِلَّةِ السَّمحةِ مِنَ المُسامَحةِ واللِّينِ رُخصةً بالنِّسبةِ إلى ما حُمِّلَته الأُمَمُ السَّالفةُ مِنَ العَزائِمِ الشَّاقَّةِ [995] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/120)، ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/190)، ((الموافقات)) للشاطبي (1/469). .
رابعًا: ما كان مِنَ المَشروعاتِ تَوسِعةً على العِبادِ مُطلَقًا، مِمَّا هو راجِعٌ إلى نَيلِ حُظوظِهم وقَضاءِ أوطارِهم، فإذا كان المَقصودُ مِنَ التَّكليفِ أن يَمتَثِلَ المُكلَّفُ على الجُملةِ، فالإذنُ في نَيلِ الحَظِّ المَلحوظِ مِن جِهةِ العَبدِ رُخصةٌ، فيَدخُلُ في الرُّخصةِ على هذا الوَجهِ كُلُّ ما كان تَخفيفًا وتَوسِعةً على المُكلَّفِ، كإباحةِ الطَّعامِ والشَّرابِ، وغَيرِها مِنَ المُباحاتِ التي فيها حَظُّ العِبادِ، وتَشتَرِكُ المُباحاتُ مَعَ الرُّخصِ على هذا التَّرتيبِ، مِن حيثُ كانا مَعًا تَوسِعةً على العَبدِ، ورَفعَ حَرَجٍ عنه، وإثباتًا لحَظِّه [996] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (1/469)، ((تهذيب الفروق)) لابن حسين ضمن ((الفروق)) للقرافي (2/140). .

انظر أيضا: