موسوعة أصول الفقه

المسألةُ الثَّالثةُ: من شُروطِ المُجمِعينَ ألَّا يَكونُوا أصحابَ بِدعةٍ مُكَفِّرةٍ


فإن كان المجتهدُ كذلك فلا يُعتَدُّ بخِلافِه ولا وِفاقِه بإجماعِ العُلماءِ، ومِمَّن نَقَل ذلك: الآمِديُّ [794] قال: (وإن كان الثَّانيَ -أي الكافِرَ ببدعَتِه- فلا خِلافَ في أنَّه غَيرُ داخِلٍ في الإجماعِ؛ لعَدَمِ دُخولِه في مُسَمَّى الأُمَّةِ المَشهودِ لهم بالعِصمةِ، وإنْ لم يَعلَمْ هو كُفرَ نَفسِه). ((الإحكام)) (1/229). ، والزَّركَشيُّ [795] قال: (المُجتَهِدُ المُبتَدِعُ إذا كَفَّرناه ببِدعَتِه غَيرُ داخِلٍ في الإجماعِ بلا خِلافٍ؛ لعَدَمِ دُخولِه في مُسَمَّى الأُمَّةِ المَشهودِ لهم بالعِصمةِ). ((البحر المحيط)) (6/418). ، وشَمسُ الدِّينِ الأصفَهانيُّ [796] قال: (اعلَمْ أنَّ المُجتَهِدَ المُبتَدِعَ إن كان مُبتَدِعًا بما يوجِبُ الكُفرَ بصريحِه فلا نِزاعَ في أنَّه كافِرٌ، لم تُعتَبَرْ مُوافقَتُه في انعِقادِ الإجماعِ). ((بيان المختصر)) (1/548). ، وذلك كغُلاةِ الرَّافِضةِ الذينَ يَقولونَ: إنَّ جِبريلَ عليه السَّلامُ غَلِطَ في تَبليغِ الوَحيِ إلى مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [797] يُنظر: ((البرهان)) لإمام الحرمين (1/266)، ((المستصفى)) للغزالي (ص:145)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/42)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/238). .
واختَلفوا في صاحِبِ البدعةِ غَيرِ المُكَفِّرةِ:
والرَّاجِحُ: عَدَمُ الاعتِدادِ بخِلافِه، ومِمَّن اختارَه: الجَصَّاصُ [798] يُنظر: ((الفصول)) (3/293). ، والقاضي أبو يَعلى [799] يُنظر: ((العدة)) (4/1139). ، والسَّمَرقَنديُّ [800] يُنظر: ((ميزان الأصول)) (ص:492). ، وابنُ السَّاعاتيِّ [801] يُنظر: ((بديع النظام)) (1/268). .
قال الزَّركَشيُّ: (قال الأُستاذُ أبو مَنصورٍ: قال أهلُ السُّنَّةِ: لا يُعتَبَرُ في الإجماعِ وِفاقُ القدَريَّةِ، والخَوارِجِ، والرَّافِضةِ، ولا اعتِبارَ بخِلافِ هؤلاء المُبتَدِعةِ في الفِقهِ، وإن اعتُبرَ في الكَلامِ، هكذا رَوى أشهَبُ عن مالكٍ، ورَواه العَبَّاسُ بنُ الوليدِ عن الأوزاعيِّ، وأبو سُليمانَ الجُوزجانيُّ عن مُحَمَّدِ بنِ الحَسَنِ، وذَكَرَ أبو ثَورٍ في مَنثوراتِه أنَّ ذلك قَولُ أئِمَّةِ أهلِ الحَديثِ) [802] يُنظر: ((البحر المحيط)) (6/419). .
واستَدَلُّوا بالآتي:
1- أنَّ الاعتِدادَ بالإجماعِ على سَبيلِ الكَرامةِ لهذه الأُمَّةِ وللمُجتَهدِ. والمُبتَدِعُ ليسَ مِن أهلِ هذه الكَرامةِ، فلا يُقبَلُ قَولُه في إخبارِه؛ فالتَحَقَ بالكافِرِ [803] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (3/293، 294)، ((بديع النظام)) للساعاتي (1/269)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (3/95). .
2- أنَّه لا يُقَلَّدُ في الفتوى فلا يُعتَبَرُ خِلافُه، ولوُجوبِ التَّوقُّفِ في إخبارِه لقَولِ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنوا [الحجرات: 6] ؛ وذلك لأنَّه قد لا يَتَحاشى الكَذِبَ غالبًا لنُصرةِ مَذهَبِه [804] يُنظر: ((بديع النظام)) للساعاتي (1/269)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (3/95). .
3- أنَّ كونَ الإجماعِ مُلزِمًا إنَّما ثَبَتَ بأهليَّةِ أداءِ الشَّهادةِ، كما قال اللهُ تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] وبصِفةِ الأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ، كما قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران: 110] ، وأهليَّةُ أداءِ الشَّهادةِ تَثبُتُ بصِفةِ العَدالةِ، وكَذا الأمرُ بالمَعروفِ والنَّهيُ عن المُنكَرِ؛ لأنَّهما يوجِبانِ اتِّباعَ الآمِرِ والنَّاهي فيما يَأمُرُ ويَنهى؛ إذ لو لم يَلزَمِ الاتِّباعُ لا يَكونُ فيهما فائِدةٌ، وإنَّما يَلزَمُ اتِّباعُ العَدلِ المَرضيِّ فيما يَأمُرُ به ويَنهى عنه دونَ غَيرِه، والضَّالُّ المُبتَدِعُ ليس كذلك [805] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (3/293، 294)، ((العدة)) لأبي يعلى (4/1140)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/237). .
وقيل: يُعتَدُّ بخِلافِه، وهو اختيارُ إمامِ الحَرَمَينِ [806] يُنظر: ((البرهان)) (1/266). ، والغَزاليِّ [807] يُنظر: ((المستصفى)) (ص:145). ، وآخَرينَ [808] يُنظر: ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (2/105)، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/86). .

انظر أيضا: