موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الأُولى: من شُروطِ الإجماعِ أن يَكونَ الاتِّفاقُ مِن جَميعِ المُجتَهِدينَ


ويَتَفرَّعُ عن ذلك أمران:
أولًا: أنَّ الإجماعَ لا يَنعَقِدُ إن خالف واحِدٌ أو اثنانِ
وهو مَنقولٌ عن مالكٍ [823] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (4/644). ، وأصَحُّ الرِّوايَتَينِ عن أحمَدَ [824] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (4/1117)، ((الواضح)) لابن عقيل (5/135). ، وهو قَولُ عامَّةِ الحَنَفيَّةِ [825] يُنظر: ((مسائل الخلاف)) للصيمري (ص: 199)، ((أصول الفقه)) للمشي (ص: 161)، ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 493)، ((بذل النظر)) للأسمندي (ص: 539)، ((كشف الأسرار)) للبخاري (3/245). ، وعامَّةِ المالكيَّةِ [826] يُنظر: ((إحكام الفصول)) للباجي (1/467)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 336). ، وجُمهورِ الشَّافِعيَّةِ [827] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (6/2614)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (5/2131). ، وجُمهورِ الحَنابلةِ [828] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/53)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (2/403). ، وهو اختيارُ جُمهورِ الأُصوليِّينَ [829] يُنظر: ((التلخيص)) للجويني (3/61)، ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص:493)، ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/402). .
وذلك لما يَلي:
1- أنَّ العِصمةَ إنَّما هيَ للأُمَّةِ مُجتَمِعةً، وذلك مُستَفادٌ مِن الاستِغراقِ الوارِدِ في الآياتِ والأحاديثِ الدَّالَّةِ على حُجِّيَّةِ الإجماعِ، كلفظِ (المُؤمِنينَ) في قَولِه تعالى: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:115] ، وكما ورد موقوفًا على أبي مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((عليكم بالجماعةِ؛ فإنَّ اللهَ لا يجمَعُ أمَّةَ محمَّدٍ على ضلالةٍ)) [830] أخرجه ابن أبي عاصم في ((السنة)) (85)، والطبراني (17/240) (666). صحَّحه ابنُ حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/115)، وجَوَّد إسنادَه الألباني في تخريج ((كتاب السنة)) (85). ، ومُخالفةُ الواحِدِ تَقدَحُ في هذا الاستِغراقِ والعُمومِ، ويُصبحُ القَولُ قَولَ البَعضِ لا الكُلِّ [831] يُنظر: ((التلخيص)) للجويني (3/62)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (2/13)، ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 494)، ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/403). .
2- وُرودُ مُخالفةِ عَبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما للصَّحابةِ في بَعضِ مَسائِلِ المَواريثِ [832] مِنها مَسألةُ العَولِ: عن عَطاءٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ، قال: الفرائِضُ مِن سِتَّةٍ لا نُعيلُها. أخرجها الدارمي (3206) واللفظ له، وعبد الرزاق (19033)، وابن أبي شيبة (31839). صحَّحها ابنُ حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/122). ومِنها مَسألةُ: الغَرَّاوينِ أو العُمَريَّتينِ: عن عِكرِمةَ قال: أرسَلَني ابنُ عبَّاسٍ إلى زَيدِ بنِ ثابتٍ أسألُه عن زَوجٍ وأبَوينِ، فقال زَيدٌ: للزَّوجِ النِّصفُ، وللأُمِّ ثُلثُ ما بَقيَ، وللأبِ بَقيَّةُ المالِ. فقال ابنُ عبَّاسٍ: للأمِّ الثُّلثُ كامِلًا. لفظُ حَديثِ يزيدَ بنِ هارونَ، وفي رِوايةِ رَوحٍ: وللأُمِّ ثُلثُ ما بَقيَ، وهو السُّدُسُ، فأرسَل إليه ابنُ عبَّاسٍ: أفي كِتابِ اللهِ تَجِدُ هذا؟ قال: لا، ولكِن أكرَهُ أن أُفضِّلَ أُمًّا على أبٍ، قال: وكان ابنُ عبَّاسٍ يُعطي الأُمَّ الثُّلُثَ مِن جَميعِ المالِ. أخرجها عبد الرزاق (19020)، وابن أبي شيبة (31710)، والبيهقي (12436) واللَّفظُ له. صَحَّحه الألبانيُّ على شَرط البخاري في ((إرواء الغليل)) (6/123). ، ولم يُنكِرِ الصَّحابةُ عليه ذلك، ولو انعَقدَ الإجماعُ مَعَ مُخالفتِه لأنكَروا عليه لخَرقِه الإجماعَ، كما لا يُظَنُّ بالصَّحابيِّ مُخالفةُ الإجماعِ، فكان هذا مِنهم إجماعًا على أنَّ الإجماعَ لا يَنعَقِدُ إلَّا باجتِماعِ كُلِّ أهلِ الاجتِهادِ وَقتَ الإجماعِ [833] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (3/263)، ((المحصول)) للرازي (4/181-182)، ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/405- 411)، ((الإحكام)) للآمدي (1/236). .
3- أنَّ الحَقَّ يَحتَمِلُ أن يَكونَ مَعَ الأقَلِّ كما يَحتَمِلُ أن يَكونَ مَعَ الأكثَرِ؛ لأنَّ اجتِهادَ كُلِّ مُجتَهِدٍ يَحتَمِلُ الصَّوابَ والخَطَأَ، والمُحتَمَلُ لا يَكونُ حُجَّةً، وإنَّما زال هذا الاحتِمالُ في اتِّفاقِ الجَميعِ؛ للأدِلَّةِ الدَّالَّةِ على حُجِّيَّةِ قَولِ جَميعِ المُجتَهِدينَ مُجتَمِعينَ [834] يُنظر: ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص:496). .
ومِن أمثِلةِ ذلك: عَدَمُ انعِقادِ الإجماعِ في وُجوبِ الغُسلِ مِن التِقاءِ الختانَينِ لمُخالفةِ بَعضِ الصَّحابةِ، قال ابنُ عبدِ البَرِّ: (ذَكَر ابنُ خُواز بَندادٍ [835] محمد بن علي بن إسحاق بن خويز منداد ويقال خوازمنداد ويقال خواز بنداد. يُنظر: ((لسان الميزان)) لابن حجر العسقلاني (5/291). أنَّ إجماعَ الصَّحابةِ انعَقدَ على إيجابِ الغُسلِ مِن التِقاءِ الختانَينِ، وليسَ ذلك عِندَنا كذلك، ولكِنَّا نَقولُ: إنَّ الاختِلافَ في هذا ضَعيفٌ، وإنَّ الجُمهورَ -الذينَ هم الحُجَّةُ على مَن خالفهم مِن السَّلَفِ والخَلَفِ- انعَقدَ إجماعُهم على إيجابِ الغُسلِ مِن التِقاءِ الختانَينِ، ومُجاوَزةِ الخِتانِ الخِتانَ، وهو الحَقُّ إن شاءَ اللهُ، وكَيف يَجوزُ القَولُ بإجماعِ الصَّحابةِ في شَيءٍ مِن هذه المَسألةِ مَعَ ما ذَكَرناه في هذا البابِ، ومَعَ ما ذَكَرَه عَبدُ الرَّزَّاقِ عن ابنِ عُيَينةَ عن زَيدِ بنِ أسلَمَ عن عَطاءِ بنِ يَسارٍ عن زَيدِ بنِ خالِدٍ، قال سَمِعتُ خَمسةً مِن المُهاجِرينَ الأوَّلينَ -مِنهم عليُّ بنُ أبي طالِبٍ- فكُلُّهم قال: الماءُ مِن الماءِ) [836] يُنظر: ((التمهيد)) لابن عبد البر (15/35). .
وقيل: يَنعَقِدُ الإجماعُ مَعَ مُخالفةِ الواحِد والاثنَينِ، وهو قَولُ بَعضِ الحَنابلةِ [837] يُنظر: ((أصول الفقه)) لابن مفلح (2/404)، ((التحبير)) للمرداوي (4/1569). ، وهو اختيارُ أبي الحُسَينِ الخَيَّاطِ مِن المُعتَزِلةِ [838] يُنظر: ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري (2/29). ، وآخَرينَ [839] ومِنهم مُحَمَّدُ بنُ جَريرٍ الطَّبَريُّ، وأبو بَكرٍ الرَّازيُّ. يُنظر: ((الإحكام)) لابن حزم (4/ 145)، ((المحصول)) للرازي (4/181)، ((الإحكام)) للآمدي (1/235)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص:336)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/ 53). وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: (والجُمهورُ حُجَّةٌ على مَن شَذَّ مِنهم؛ لأنَّه لا يَجوزُ على جَميعِهم جَهلُ ما عَلِمَه الشَّاذُّ المُنفرِدُ). ((الاستِذكار)) (1/ 524). .
ثانيًا: أنَّ الاتِّفاقاتِ الخاصَّةَ بالبَعضِ سَواءٌ المُتَعَلِّقةُ بالأشخاصِ أو بالمَكانِ لا تُعتَبَرُ إجماعًا
أمَّا الأوَّلُ -وهو الاتِّفاقاتُ المُتَعَلِّقةُ بالأشخاصِ- فكاتِّفاقِ الخُلفاءِ الأربَعةِ [840] يُنظر: ((الواضح)) لابن عقيل (5/220)، ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/414)، ((الإحكام)) للآمدي (1/249)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/99). ، واتِّفاقِ الشَّيخَينِ [841] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (4/175)، ((الإحكام)) للآمدي (1/249)، ((بديع النظام)) للساعاتي (1/280)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/99)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (1/432). ، واتِّفاقِ أهلِ البَيتِ [842] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (3/277)، ((الواضح)) لابن عقيل (5/188)، ((الإحكام)) للآمدي (1/245)، ((المسودة)) لآل تيمية (ص:333)، ((البحر المحيط)) للزركشي (6/450). .
وأمَّا الثَّاني -وهو الاتِّفاقاتُ المُتَعَلِّقةُ بالمَكانِ- فكاتِّفاقِ أهلِ المَدينةِ [843] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (3/321)، ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري (2/34)، ((الإحكام)) لابن حزم (4/202)، ((التبصرة)) للشيرازي (ص:365)، ((المستصفى)) للغزالي (ص:147، 148). ، واتِّفاق أهلِ الحَرَمَينِ [844] يُنظر: ((التلخيص)) للجويني (3/113)، ((المستصفى)) للغزالي (ص:147، 148)، ((الإحكام)) للآمدي (1/244)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (6/2579، 2580)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (5/2062). ، واتِّفاقِ مُؤَسَّساتِ الاجتِهادِ الجَماعيِّ في الوقتِ المُعاصِرِ.
والنَّاظِرُ في هذه الاتِّفاقاتِ يَلحَظُ أنَّها خاصَّةٌ بأشخاصٍ أو بأماكِنَ مُعَيَّنةٍ، ولا تَشمَلُ كُلَّ الأُمَّةِ، ولا يَتَحَقَّقُ فيها تَعريفُ الإجماعِ الذي هو اتِّفاقُ مُجتَهِدي الأُمَّةِ في عَصرٍ مِن العُصورِ، ومِن ثَمَّ لم تَكُنْ هذه الاتِّفاقاتُ مِن قَبيلِ الإجماعِ الأُصوليِّ؛ لأنَّهم ليسوا كُلَّ الأُمَّةِ، ولأنَّ أدِلَّةَ الإجماعِ لا تتناوَلُهم وَحدَهم، نَحوُ اسمِ المُؤمِنِ واسمِ الأمَّةِ، فالخَطَأُ جائِزٌ عليهم كما هو جائِزٌ على غَيرِهم، ولأنَّ الأماكِنَ لا تُؤَثِّرُ في كونِ الأقوالِ حُجَّةً؛ إذ البقاعُ لا تَعصِمُ ساكِنيها [845] يُنظر: ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري (2/34)، ((العدة)) لأبي يعلى (4/1144)، ((البرهان)) للجويني (1/278). .

انظر أيضا: