موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الثَّانيةُ: شُروطُ حُكمِ الأصلِ


يُشتَرَطُ في حُكمِ الأَصلِ حتَّى يَصِحَّ القيَاسُ ما يَلِي:
الشَّرطُ الأوَّلُ: أن يَكونَ الحُكمُ الذي قُصِدت تَعديَتُه إلى الفرعِ ثابتًا في الأصلِ
فإذا لم يَكُنْ ثابتًا فيه بأن لم يُشرَعْ فيه ابتِداءً، أو شُرِعَ فيه لكِن نُسِخَ، لم يُمكِنِ القياسُ عليه؛ لأنَّ بناءَ حُكمِ الفَرعِ عليه مُتَوقِّفٌ على ثُبوتِه في الأصلِ [1107] يُنظر: ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (1/522)، ((المستصفى)) للغزالي (ص: 324)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (7/3183). .
الشَّرطُ الثَّاني: أن يَكونَ الحُكمُ الثَّابتُ فيه شَرعيًّا
لأنَّ الغَرَضَ مِن القياسِ الشَّرعيِّ إنَّما هو تَعريفُ الحُكمِ الشَّرعيِّ في الفَرعِ نَفيًا وإثباتًا، ويُحتَرَزُ بهذا الشَّرطِ عن الحُكمِ العَقليِّ واللُّغَويِّ؛ فإنَّه إذا لم يَكُنِ الحُكمُ في الأصلِ شَرعيًّا بأن كان قَضيَّةً لُغَويَّةً أو عَقليَّةً، فالحُكمُ المُتَعَدِّي إلى الفرعِ لا يَكونُ شَرعيًّا، فلا يَكونُ الغَرَضُ مِن القياسِ الشَّرعيِّ حاصِلًا [1108] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (3/194)، ((التحبير)) للمرداوي (7/3143). .
الشَّرطُ الثَّالثُ: أن يَكونَ الحُكمُ ثابتًا بطَريقٍ شَرعيٍّ
بأن يَكونَ طَريقُ مَعرِفتِه النَّصَّ؛ لأنَّ ما لا يَكونُ طَريقُ مَعرِفتِه شَرعيًّا لا يَكونُ حُكمًا شَرعيًّا.
وإذا لم يَكُنْ ثابتًا بالنَّصِّ فيُشتَرَطُ أن يَكونَ ثابتًا عن طَريقِ الإجماعِ، بأن يَكونَ مُجمَعًا عليه؛ لأنَّ الإجماعَ أصلٌ في إثباتِ الأحكامِ، فجازَ القياسُ على ما ثَبَتَ بالإجماعِ، ولأنَّه إذا جازَ القياسُ على ما ثَبَتَ بخَبَرِ الواحِدِ فلأن يَجوزَ على ما ثَبَتَ بالإجماعِ بطَريقِ الأَولى [1109] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/292)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2578). .
الشَّرطُ الرَّابعُ: ألَّا يَكونَ حُكمُ الأصلِ ثابتًا بالقياسِ على أصلٍ آخَرَ
فيَمتَنِعُ القياسُ على أصلٍ ثَبتَ عن طَريقِ القياسِ، فلا يَصِحُّ إثباتُ الأصلِ المَقيسِ عليه بقياسِه على أصلٍ آخَرَ، أي: لا يَصِحُّ أن يَكونَ فرعًا لأصلٍ آخَرَ، علَى القَولِ الرَّاجِحِ مِن أقْوالِ الأُصُوليِّين؛ لأنَّه تَطويلٌ بلا فائِدةٍ؛ فإنَّه لو كان ثابتًا بالقياسِ على أصلٍ آخَرَ، فالجامِعُ بَينَ الفرعِ وبَينَه لا يَخلو: إمَّا أن يَكونَ مَوجودًا في الأصلِ الأوَّلِ، أو يَكونَ مَفقودًا:
فإن كان مَوجودًا فليُقَسْ عليه. فرَدُّه إلى أصلٍ ثُمَّ رَدُّ الأصلِ إليه عَبَثٌ، وهو كمَن يَقيسُ الذُّرةَ على الأَرُزِّ بعِلَّةِ الطَّعمِ، ثُمَّ يَرُدُّ الأَرُزَّ إلى البُرِّ. فليَقِسِ الذُّرةَ على البُرِّ أوَّلًا؛ إذ ليسَ الأَرُزُّ بأن يُجعَلَ أصلًا أَولى مِن الذُّرةِ.
وإن كانت العِلَّةُ مَفقودةً في الأصلِ الأوَّلِ، مَوجودةً في المَسألةِ المُتَوسِّطةِ التي جَعَلها أصلًا لفَرعِه، كان ذلك باطِلًا [1110] يُنظر: ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري (2/268)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (2/136)، ((المستصفى)) للغزالي (ص:324)، ((شفاء الغليل)) للغزالي (ص: 636)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/293). .
الشَّرطُ الخامِسُ: ألَّا يَكونَ دليل حُكمُ الأصلِ شامِلًا لحُكمِ الفَرعِ
فيُشترَطُ ألا يَكونَ الدَّليلُ الدَّالُّ على حُكمِ الأصلِ دالًّا بعَينِه على حُكمِ الفَرعِ؛ لأنَّ دَليلَ الأصلِ لو كان مُتَناوِلًا للفرعِ، لكان الفرعُ ثابتًا بالنَّصِّ، واستُغنيَ عن القياسِ [1111] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/301). ويُنظر أيضًا: ((المحصول)) للرازي (5/361)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2579)، ((التحبير)) للمرداوي (7/3145). .
الشَّرطُ السَّادِسُ: ألَّا يَكونَ حُكمُ الأصلِ مُتَأخِّرًا عن حُكمِ الفَرعِ
إذ لو كان كذلك يَلزَمُ مِنه ثُبوتُ حُكمِ الفَرعِ قَبلَ ثُبوتِ العِلَّةِ؛ لتَأخُّرِ الأصلِ، وهو كقياسِ الوُضوءِ على التَّيَمُّمِ في اشتِراطِ النِّيَّةِ؛ لأنَّ التَّعَبُّدَ بالتَّيَمُّمِ إنَّما ورَدَ بَعدَ الهِجرةِ، والتَّعَبُّدَ بالوُضوءِ كان قَبلَه.
وهذا الشَّرطُ يَستَقيمُ إذا لم يَكُنْ للفرعِ دَليلٌ سِوى القياسِ على ذلك الأصلِ المُتَأخِّرِ؛ لأنَّه قَبلَ ذلك الأصلِ المُتَأخِّرِ: إن كان الحُكمُ ثابتًا في الفرعِ، مَعَ أنَّه لا دَليلَ عليه سِوى القياسِ عليه، لزِمَ تَكليفُ ما لا يُطاقُ.
وأمَّا إذا كان عليه دَليلٌ آخَرُ سِوى القياسِ عليه جازَ كَونُه مُتَأخِّرًا؛ لزَوالِ المَحذورِ المَذكورِ، وتَرادُفُ الأدِلَّةِ على المَدلولِ الواحِدِ جائِزٌ [1112] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (7/3188)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/303)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2580). ونَقَل الزَّركَشيُّ عن ابنِ الصَّبَّاغِ أنَّه مَنَعَ هذا الشَّرطَ، وجَوَّزَ أن يَكونَ الحُكمُ عليه أماراتٌ مُتَقدِّمةٌ ومُتَأخِّرةٌ، وللمُستَدِلِّ أن يَحتَجَّ بالمُتَقدِّمِ مِنها والمُتَأخِّرِ؛ فإنَّ الدَّليلَ يَجوزُ تَأخُّرُه عن ثُبوتِه؛ ولهذا فإنَّ مُعجِزاتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنها ما قارَنَ نُبوَّتَه، ومِنها ما تَأخَّرَ عنه، ويَجوزُ الاستِدلالُ على نُبوَّتِه بما نَزَل مِن القُرآنِ بالمَدينةِ، وكذا في الأحكامِ المَظنونةِ. يُنظر: ((البحر المحيط)) (7/139). .
الشَّرطُ السَّابعُ: أن يَكونَ حُكمُ الأصلِ مَعقولَ المَعنى
أي: تُدرَكُ عِلَّتُه؛ لأنَّ ما لا يُعقَلُ مَعناه لا يُمكِنُ القياسُ فيه؛ إذ القياسُ إنَّما هو تَعديةُ حُكمِ المَنصوصِ عليه مِن مَحَلٍّ إلى مَحَلٍّ بواسِطةِ تَعَدِّي المُقتَضي، وما لا يُعقَلُ مَعناه، كعَدَدِ رَكَعاتِ الصَّلواتِ، واختِصاصِها بالأوقاتِ، لا يوقَفُ فيه على المَعنى المُقتَضي، ولا يُعلَمُ تَعَدِّيه، فالقياسُ فيه مُحالٌ؛ لأنَّه لا يُمكِنُ تَعديةُ الحُكمِ فيه [1113] يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (2/825)، ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/256)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/301)، ((فواتح الرحموت)) لللكنوي (2/300). .
وإذا دارَ الحُكمُ بَينَ كونِه تَعبُّدًا أو مَعقولَ المَعنى، كان حَملُه على كونِه مَعقولَ المَعنى أَولى؛ لنُدرةِ التَّعَبُّدِ بالنِّسبةِ إلى الأحكامِ المَعقولةِ المَعنى [1114] يُنظر: ((إحكام الأحكام)) لابن دقيق العيد (1/75). .

انظر أيضا: