موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الثَّانيةُ: أسماءُ العِلَّةِ، والفَرقُ بَينَ العِلَّةِ والحِكمةِ والسَّبَبِ


أوَّلًا: أسماءُ العِلَّةِ
يَستَعمِلُ الفُقَهاءُ العِلَّةَ بأسماءٍ، مِثلُ: السَّبَبِ، والإشارةِ، والدَّاعي، والمُستَدعي، والباعِثِ، والحامِلِ، والمناطِ، والدَّليلِ، والمُقتَضي، والموجِبِ، والمُؤَثِّرِ، والأمارةِ، والعَلامةِ [1179] أمَّا تَسميةُ العِلَّةِ سَبَبًا؛ فلأنَّها طَريقٌ إلى مَعرِفةِ الحُكمِ، وهو يَثبُتُ عِندَ وُجودِها؛ لأنَّ المُثبِتَ لها هو الشَّارِعُ. وأمَّا تَسميَتُها أمارةً فظاهِرٌ؛ لأنَّ الأمارةَ: العَلامةُ، والعِلَّةُ الشَّرعيَّةُ عَلامةٌ على ثُبوتِ الحُكمِ. وأمَّا تَسميَتُها داعيًا ومُستَدعيًا؛ فلأنَّها تَدعو الشَّارِعَ إلى وضعِ الحُكمِ عِندَ وُجودِها، وتَستَدعي ذلك لمَصلحةِ المُكَلَّفِ في مَعاشِه ومَعادِه، وكذلك هيَ الباعِثُ له على ذلك. ومَعنى كَونِها مَناطًا فهو أنَّ الحُكمَ يُناطُ بها، أي: يُعَلَّقُ. ومَعنى كَونِها دَليلًا ظاهِرٌ، وهو أنَّها إذا وُجِدَت في مَحَلٍّ دَلَّت على ثُبوتِ الحُكمِ المُعَلَّقِ عليها فيه، كالإسكارِ في النَّبيذِ، والكَيلِ في الأَرُزِّ. ومَعنى كَونِها موجِبًا ومُؤَثِّرًا هو أنَّها توجِبُ مَعرِفةَ ثُبوتِ الحُكمِ، وتُؤَثِّرُ في مَعرِفتِه؛ للقَطعِ بأنَّ الموجِبَ له والمُؤَثِّرَ إنَّما هو الشَّارِعُ. يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/315). .
إلَّا أنَّ مَن سَمَّاها أمارةً وعَلامةً، ولم يَجعَلْها إلَّا مُجَرَّدَ ذلك، وسَلبَها التَّأثيرَ، فقَولُه باطِلٌ؛ لأنَّنا نَعلمُ أنَّ الحُكمَ في الأصلِ ثابتٌ بالنَّصِّ والإجماعِ، والنَّصُّ والإجماعُ دَليلٌ على الحُكمِ، فإذا كانت العِلَّةُ مُجَرَّدَ أمارةٍ وعَلامةٍ فأيُّ حاجةٍ إليها؟!
وقد يَكونُ مَن أطلقَ على العِلَّةِ اسمًا مِن هذه الأسماءِ فقد راعى بَعضَ أوصافِها الشَّهيرةِ أو المُمَيِّزةِ، كمَن سَمَّاها المَناطَ؛ لأنَّ الحُكمَ ناط بها، أي: تَعَلَّق، ومَن سَمَّاها المُقتَضى لاقتِضائِها الحُكمَ، ولكِنَّ بَعضًا مِن هذه التَّسمياتِ مُراعًى فيها مُخالفةُ المُعتَزِلةِ الذينَ يَقولونَ: إنَّ العِلَّةَ تُؤَثِّرُ في الحُكمِ بذاتِها. وقد بالغوا أحيانًا في رَدِّ بَعضِ هذه التَّسمياتِ، كما تَعسَّفوا في تَأويلِ بَعضِها مِمَّا ورَدَ استِعمالُه مِن قِبَلِ الذينَ استَعمَلوها مِن عُلماءِ هذا الفنِّ [1180] يُنظر: ((شفاء الغليل)) للغزالي (ص: 538)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/146)، ((المسائل المشتركة بين أصول الفقه وأصول الدين)) للعروسي (ص: 287). .
ويُعَبَّرُ عن العِلَّةِ بالمَعنى، وهذا مَشهورٌ في كلامِ السَّلَفِ؛ قال السُّغْناقيُّ: (السَّلَفُ لم يَستَعمِلوا لفظَ العِلَلِ، بَل استَعمَلوا المَعانيَ مَكانَ العِلَلِ) [1181] ((الكافي شرح البزدوي)) (1/168). .
ومِن التَّعبيرِ عنها بالمَناطِ قَولُ الغَزاليِّ: (اعلَمْ أنَّا نَعني بالعِلَّةِ في الشَّرعيَّاتِ: مَناطَ الحُكمِ) [1182] ((المستصفى)) (ص: 281). .
ثانيًا: الفرقُ بَينَ العِلَّةِ والحِكمةِ والسَّبَبِ
أنَّ العِلَّةَ: صِفةٌ توجِبُ أمرًا ما إيجابًا ضَروريًّا، فهيَ لا توجَدُ إلَّا ومَعلولُها مَوجودٌ، أي: أنَّها لا تُفارِقُ المَعلولَ البَتَّةَ، ككَونِ النَّارِ عِلَّةَ الإحراقِ، والثَّلجِ عِلَّةَ التَّبريدِ، فلا يوجَدُ أحَدُهما دونَ الثَّاني أصلًا، وليسَ أحَدُهما قَبلَ الثَّاني أصلًا ولا بَعدَه.
فالعِلَّةُ ما جَرى مُقارِنًا للشَّيءِ مَعَ تَأثيرِ الشَّيءِ فيه، وهيَ تَطَّرِدُ مَعَ الحُكمِ بكُلِّ حالٍ.
وأمَّا الحِكمةُ: فهيَ الباعِثُ على تَشريعِ الحُكمِ، والغايةُ البَعيدةُ المَقصودةُ مِنه، وهيَ المَصلحةُ التي قَصَدَ الشَّارِعُ بتَشريعِ الحُكمِ تَحقيقَها أو تَكميلَها، أو المَفسَدةُ التي قَصَدَ الشَّارِعُ بتَشريعِ الحُكمِ دَرأَها أو تَقليلَها، وقد تَكونُ الحِكمةُ ظاهرةً أو خَفيَّةً، كما أنَّها قد تَكونُ مُنضَبِطةً وقد تَكونُ غَيرَ مُنضَبطةٍ.
أمَّا العِلَّةُ فهيَ الوصفُ الظَّاهرُ المُنضَبِطُ المُعَرِّفُ للحُكمِ، وتَكونُ عادةً مَظِنَّةَ تَحقيقِ حِكمةِ تَشريعِ الحُكمِ.
غَيرَ أنَّه قد تَتَخَلَّفُ الحِكمةُ أحيانًا مَعَ وُجودِ العِلَّةِ، وذلك مِثلُ الشُّفعةِ؛ فقد شُرِعَت لحِكمةٍ، هيَ دَفعُ الضَّرَرِ عن الشَّفيعِ، وجُعِلَت عِلَّةُ ذلك هيَ الاشتِراكَ في المِلكِ، وقد يَكونُ أحيانًا الشَّريكُ الجَديدُ أحسَنَ دِينًا وأنفَعَ للشَّفيعِ، وبذلك تَتَخَلَّفُ الحِكمةُ، لكِن لمَّا وُجِدَت العِلَّةُ ثَبَتَت الشُّفعةُ ولم يُنظَرْ إلى الحِكمةِ.
وأمَّا السَّبَبُ: فما يوصِلُ إلى المُسَبَّبِ مَعَ جَوازِ المُفارَقةِ بَينَهما [1183] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (2/272). .
ومِثالُ ذلك: ضَربُ موسى عليه السَّلامُ البَحرَ بالعَصا صارَ سَبَبًا لصَيرورَتِه يَبَسًا، وضَربُه الحَجَرَ صارَ سَبَبًا لانفِجارِ العُيونِ مِنه، مِن غَيرِ أن يَكونَ ضَربُ العَصا مُؤَثِّرًا في تَجفيفِ البَحرِ، وتَفجُّرِ الماءِ مِن صَخرةٍ صَمَّاءَ.
وتَبَيَّنَ بهذه الأمثِلةِ جَوازُ المُفارَقةِ بَينَ السَّبَبِ والمُسَبَّبِ؛ يُبَيِّنُ ذلك: أنَّ العَصا بالضَّربِ في البَحرِ والحَجَرِ لم يَنقَلِبْ طَبعُه عَمَّا كان إلى شَيءٍ آخَرَ ليُؤَثِّرَ في يَبَسِ البَحرِ أو تَفجُّرِ الحَجَرِ بالعُيونِ، ولكِنَّه صارَ سَبَبًا بجَعلِ اللهِ تعالى ذلك سَبَبًا، فدَلَّ على أنَّ السَّبَبَ للشَّيءِ سَبَبٌ وإن لم يَكُنْ له تَأثيرٌ في إيجادِه بوَجهٍ ما.
وقد يوجَدُ السَّبَبُ، ومسبَّبُه غَيرُ مَوجودٍ، كالسَّحابةِ توجَدُ ولا مَطَرَ، وكالغَضَبِ الذي يُؤَدِّي إلى الانتِصارِ، فالغَضَبُ سَبَبُ الانتِصارِ، ولو شاءَ المُنتَصِرُ ألَّا يَنتَصِرَ لم يَنتَصِرْ، فليسَ السَّبَبُ موجِبًا للشَّيءِ المُسَبَّبِ مِنه ضَرورةً. ويَكونُ السَّبَبُ قَبلَ الفِعلِ المُتَسَبَّبِ مِنه ولا بُدَّ.
فالسَّبَبُ ما جَرى مُقارِنًا للشَّيءِ أو غَيرَ مُقارِنٍ، ولا تَأثيرَ للشَّيءِ فيه.
وقد يُسَمَّى السَّبَبُ عِلَّةً؛ لأنَّه يُتَوصَّلُ به إلى مَعرِفةِ الحُكمِ، كما يُتَنَبَّه بالعِلَّةِ على الحُكمِ، إلَّا أنَّ السَّبَبَ أعَمُّ في مَدلولِه مِن العِلَّةِ، فكُلُّ عِلَّةٍ سَبَبٌ، وليسَ كُلُّ سَبَبٍ عِلَّةً. فإذا كانت المُناسَبةُ بَينَ الوَصفِ ورَبطِ الحُكمِ به مِمَّا تُدرِكُه عُقولُنا، فيُسَمَّى الوَصفُ عِلَّةً وسَبَبًا، وأمَّا إذا كانت المُناسَبةُ مِمَّا لا تُدرِكُه عُقولُنا، فيُسَمَّى الوصفُ سَبَبًا فقَط.
ومِثالُ ذلك: عَقدُ البَيعِ الدَّالُّ على الرِّضا بنَقلِ المِلكيَّةِ يُسَمَّى عِلَّةً وسَبَبًا.
ويُقارِبُ السَّبَبُ الغَرَضَ، إلَّا أنَّ الغَرَضَ: أمرٌ يَقصِدُه الفاعِلُ بفِعلِه، ويَكونُ بَعدَ الفِعلِ ضَرورةً، فالغَرَضُ مِن الانتِصارِ إطفاءُ الغَضَبِ وإزالتُه، وإزالةُ الشَّيءِ هيَ شَيءٌ آخَرُ غَيرُ وُجودِه، فإزالةُ الغَضَبِ غَيرُ الغَضَبِ. والغَضَبُ هو السَّبَبُ في الانتِصارِ، وإزالةُ الغَضَبِ هو الغَرَضُ في الانتِصارِ [1184] يُنظر: ((الإحكام)) لابن حزم (8/99)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (2/272 وما بعدها)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/149)، ((أصول الفقه)) لوهبة الزحيلي (1/651). .

انظر أيضا: