موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ العاشِرةُ: تَعليلُ الحُكمِ بأكثَرَ مِن عِلَّةٍ


المُرادُ بتَعليلِ الحُكمِ بأكثَرَ مِن عِلَّةٍ: تعَدُّدُ العِلَلِ الشَّرعيَّةِ لحُكمٍ واحِدٍ في شَخصٍ واحِدٍ، أي: يَكونُ تَعليلُ الحُكمِ الواحِدِ بعِلَلٍ تَستَقِلُّ كُلُّ واحِدةٍ مِنها -لو قُدِّرَت مُنفرِدةً- في اقتِضاءِ الحُكمِ [1491] يُنظر: ((التلخيص)) لإمام الحرمين (3/281)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3469). .
مِثالُه: المَرأةُ يَجتَمِعُ فيها الصَّومُ والإحرامُ والعِدَّةُ، فكُلُّ سَبَبٍ مِن هذه الأسبابِ -لو قُدِّرَ مُنفرِدًا- تعَلَّق به اقتِضاءُ تَحريمِ الوطءِ، فإذا اجتَمَعَت فالحُكمُ ثابتٌ بها جَميعًا [1492] يُنظر: ((التلخيص)) لإمام الحرمين (3/282)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/219). .
حُكمُ تَعليلِ الحُكمِ بأكثَرَ مِن عِلَّةٍ:
يَجوزُ تَعليلُ الحُكمِ الواحِدِ بأكثَرَ مِن عِلَّةٍ واحِدةٍ مُطلقًا. وهو مَنقولٌ عن أحمَدَ [1493] يُنظر: ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/72). ، وبه قال جُمهورُ الأُصوليِّينَ [1494] يُنظر: ((البرهان)) لإمام الحرمين (2/37)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (4/45)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/220)، ((الموافقات)) للشاطبي (2/532). ، ونُسِبَ إلى أكثَرِ الفُقَهاءِ [1495] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3470). .
الدَّليلُ على جَوازِ تَعليلِ الحُكمِ بأكثَرَ مِن عِلَّةٍ:
1- أنَّه واقِعٌ، والوُقوعُ دَليلُ الجَوازِ؛ فإنَّ تَعليلَ الحُكمِ الواحِدِ بأكثَرَ مِن عِلَّةٍ قد وقَعَ في أحكامِ الشَّريعةِ، وذلك كتَعليلِ الحَدَثِ بالبَولِ والغائِطِ والمَذْيِ؛ فإنَّ الحَدَثَ يَثبُتُ بكُلٍّ مِنها، وتَعليلِ تَحريمِ وطءِ المَرأةِ بالصَّومِ والإحرامِ والاعتِدادِ مِن غَيرِه، أو تَحريمِ الوَطءِ بالعِدَّةِ والرِّدَّةِ، وتَعليلِ وُجوبِ القَتلِ بالرِّدَّةِ والجِنايةِ؛ فإنَّ كُلًّا مِن الارتِدادِ والجِنايةِ عِلَّةٌ مُستَقِلَّةٌ في إراقةِ دَمِه، وتَعليلِ تَحريمِ الاستِجمارِ بالرَّوثِ النَّجِسِ لنَجاسَتِه، وكَونِه طَعامَ إخوانِنا مِن الجِنِّ، وأشباهُ ذلك كُلُّه جائِزٌ، ولا مانِعَ مِنه عَقلًا ولا شَرعًا، وقد وقَعَ شَرعًا؛ فلا وَجهَ لمَنعِه [1496] يُنظر: ((شفاء الغليل)) للغزالي (ص: 514)، ((مختصر منتهى السول والأمل)) لابن الحاجب (2/1055)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/340)، ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 343)، ((الردود والنقود)) للبابرتي (2/496). .
2- أنَّ العِلَلَ الشَّرعيَّةَ بمَثابةِ الأدِلَّةِ والأماراتِ على الأحكامِ، ويَجوزُ أن يُستَدَلَّ على الحُكمِ الواحِدِ بأنواعٍ مِن الأدِلَّةِ مِن غَيرِ حَصرٍ، فيَجوزُ تَعليلُه بعِلَلٍ مِن غَيرِ حَصرٍ، ولأنَّ العِلَلَ لا تَنافيَ بَينَها وبَينَ مُوجِباتِها، فيَجوزُ تَعليلُ الحُكمِ الواحِدِ بها [1497] يُنظر: ((الوصول)) لابن برهان (2/265). .
3- أنَّ العِلَلَ إذا اجتَمَعَت في الشَّخصِ الواحِدِ، كالقَتلِ والرِّدَّةِ والزِّنا؛ فإمَّا أن يُقالَ [1498] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3475). قال الإسنَويُّ: (اختَلف القائِلونَ بالجَوازِ إذا اجتَمَعَت: فقيل: كُلُّ واحِدةٍ عِلَّةٌ مُستَقِلَّةٌ، ورَجَّحَه ابنُ الحاجِبِ، وقيل: المَجموعُ عِلَّةٌ واحِدةٌ، وقيل: العِلَّةُ واحِدةٌ لا بعَينِها). ((نهاية السول)) (ص: 343). :
إنَّ الحُكمَ لا يَثبُتُ فيه أصلًا، وهو باطِلٌ قَطعًا.
أو يَثبُتُ بواحِدةٍ مُعَيَّنةٍ مِنها، وهو أيضًا باطِلٌ؛ لأنَّه يَلزَمُ التَّرجيحُ مِن غَيرِ مُرَجِّحٍ.
أو بواحِدةٍ لا بعَينِها، وهو أيضًا باطِلٌ؛ لأنَّها غَيرُ مُتَعَيِّنةٍ، وما لا تَعَيُّنَ له لا وُجودَ له في نَفسِه، وما لا وُجودَ له لا يَصلُحُ أن يَكونَ عِلَّةً.
أو بمَجموعِها، وهو أيضًا باطِلٌ؛ لأنَّه حينَئِذٍ يَكونُ كُلُّ واحِدةٍ مِنها جُزءَ العِلَّةِ، وليسَ الكَلامُ فيه.
فيَتَعَيَّنُ أن يَكونَ الحُكمُ مُعَلَّلًا بكُلِّ واحِدةٍ مِنها.
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:
1- إذا أحدَثَ أحداثًا، ثُمَّ نَوى حالةَ الوُضوءِ رَفعَ بَعضِها: ففيه وُجوهٌ؛ مِنها: تَكفي نيَّتُه تلك عن جَميعِ الأحداثِ؛ لأنَّ الحَدَثَ نَفسَه -كالنَّومِ ونَحوِه- لا يَرتَفِعُ، وإنَّما يَرتَفِعُ حُكمُه، وهو واحِدٌ وإن تَعَدَّدَت أسبابُه، والوَجهُ الثَّاني: لا يَكفي مُطلقًا. والثَّالثُ: إن نَوى الأوَّلَ صَحَّ وإلَّا فلا، والرَّابعُ: عَكسُه، والخامِسُ: إن نَفى غَيرَ المَنَويِّ لم يَصِحَّ، وإلَّا فيَصِحُّ [1499] يُنظر: ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 481). .
2- إذا اجتَمَعَت أنواعٌ مِن الخِيارِ، كخيارِ المَجلِسِ، والشَّرطِ، والعَيبِ والرُّؤيةِ، ففسَخَ العاقِدُ، فيُنظَرُ: إن صَرَّح بالفَسخِ بجَميعِها انفسَخَ بالجَميعِ، وإن صَرَّح بالبَعضِ انفسَخَ به، وإن أطلقَ فيَنفسِخُ بالجَميعِ؛ لأنَّه ليسَ بَعضُها أَولى مِن بَعضٍ [1500] يُنظر: ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 483). .
3- أنَّ المَرأةَ إذا كانت جُنُبًا فحاضَت، ثُمَّ اغتَسَلَت، وكانت قد حَلَفَت أنَّها لا تَغتَسِلُ عن الجَنابةِ: فالعِبرةُ بالنِّيَّةِ؛ فإن نَوت الاغتِسالَ عنهما تَكونُ مُغتَسِلةً عنهما وتَحنَثُ، وإن نَوت عن الحَيضِ وحدَه لم تَحنَثْ؛ لأنَّها لم تَغتَسِلْ عن الجَنابةِ، وإن كان غُسلُها مُجزيًا عنهما مَعًا [1501] يُنظر: ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 483). .
وقيل: لا يَجوزُ تَعليلُ الحُكمِ الواحِدِ بأكثَرَ مِن عِلَّةٍ واحِدةٍ مُطلقًا. وممَّن قال به الصَّيرَفيُّ [1502] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/223). ، وإمامُ الحَرَمَينِ [1503] يُنظر: ((البرهان)) (2/43). ، والآمِديُّ [1504] يُنظر: ((الإحكام)) (3/236). .
وقيل: يَجوزُ في العِلَلِ المنصوصةِ دونَ المُستَنبَطةِ. وهو قَولُ ابنِ فُورَكٍ [1505] يُنظر: ((البرهان)) لإمام الحرمين (2/37)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2474). ، والغَزاليِّ [1506] يُنظر: ((المستصفى)) (ص: 337)، وقد عَبَّرَ الغَزاليُّ في بدايةِ المَسألةِ بالجَوازِ مُطلقًا، ثُمَّ قال في آخِرِ المَسألةِ: والحاصِلُ أنَّ كُلَّ تَعليلٍ يَفتَقِرُ إلى السَّبرِ، فمِن ضَرورَتِه اتِّحادُ العِلَّةِ وإلَّا انقَطَعَ شَهادةُ الحُكمِ للعِلَّةِ، وما لا يَفتَقِرُ إلى السَّبرِ كالمُؤَثِّرِ فوُجودُ عِلَّةٍ أُخرى لا يَضُرُّ. ، والرَّازيِّ [1507] يُنظر: ((المحصول)) (5/271، 277). ، والقَرافيِّ [1508] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) (ص: 404)، ((نفائس الأصول)) (8/3457). ، وابنِ قُدامةَ [1509] يُنظر: ((روضة الناظر)) (2/292). .
وقيل: يَجوزُ في العِلَلِ المُستَنبَطةِ دونَ المنصوصةِ. واختارهُ بَعضُ الأُصوليِّينَ [1510] يُنظر: ((مختصر منتهى السول والأمل)) لابن الحاجب (2/1054)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3470). .

انظر أيضا: