موسوعة أصول الفقه

الفَرعُ الثَّامِنُ: أقسامُ القياسِ باعتِبارِ طَريقِ إثباتِ العِلَّةِ المُستَنبَطةِ


يَنقَسِمُ القياسُ بهذا الاعتِبارِ إلى أربَعةِ أقسامٍ: قياسُ الإخالةِ، وقياسُ الشَّبَهِ، وقياسُ السَّبرِ، وقياسُ الطَّردِ.
وذلك لأنَّ طَريقَ إثباتِ العِلَّةِ المُستَنبَطةِ: إمَّا المُناسَبةُ، أو الشَّبَهُ، أو السَّبرُ والتَّقسيمُ، أو الطَّردُ أو العَكسُ، فالأوَّلُ يُسَمَّى: قياسَ الإخالةِ، والثَّاني: قياسَ الشَّبَهِ، والثَّالِثُ: قياسَ السَّبرِ، والرَّابعُ: قياسَ الطَّردِ [1614] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/4)، ((نهاية الوصول)) (8/3569)، ((الفائق)) (2/322) كلاهما لصفي الدين الهندي، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/224)، ((التحبير)) للمرداوي (7/3462). .
الأوَّلُ: قياسُ الإخالةِ
الإخالةُ: إبداءُ المُناسَبةِ بَينَ الوَصفِ والحُكمِ مِن غَيرِ اعتِبارِ ظُهورِ التَّأثيرِ [1615] يُنظر: ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (4/54). .
والإخالةُ مُرادِفةٌ للمُناسَبةِ [1616] يُنظر: ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (3/110)، ((الردود والنقود)) للبابرتي (2/536). ، وقد سَبَقَ بَيانُ مَعنى المُناسَبةِ وتَقسيماتِها في مَسالِكِ العِلَّةِ.
الثَّاني: قياسُ الشَّبَهِ
وهو إلحاقُ فَرعٍ بأصلٍ بوَصفٍ تُظَنُّ فيه المُناسَبةُ مِن غَيرِ اطِّلاعٍ عليها، بَعدَ البَحثِ التَّامِّ مِمَّن هو أهلٌ للاطِّلاعِ عليها، وقد أُلِف مِن الشَّارِعِ الالتِفاتُ إليه في بَعضِ الأحكامِ [1617] يُنظر: ((قياس الشبه)) لمحمود عبد الرحمن (ص: 232). .
وقيل: هو الجَمعُ بَينَ الأصلِ والفَرعِ بوَصفٍ يوهمُ اشتِمالَه على حِكمةِ الحُكمِ مِن جَلبِ المَصلَحةِ، أو دَفعِ المَفسَدةِ [1618] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/242) وقال: (... وذلك أنَّ الأوصافَ تَنقَسِمُ ثَلاثةَ أقسامٍ: قِسمٌ يُعلَمُ اشتِمالُه على المُناسَبةِ لوُقوفِنا عليها بنورِ البَصيرةِ، كمُناسَبةِ الشِّدَّةِ للتَّحريمِ. وقِسمٌ لا يُتَوهَّمُ فيه مُناسَبةٌ أصلًا؛ لعَدَمِ الوُقوفِ عليها بَعدَ البَحثِ التَّامِّ، مَعَ إلفِنا مِن الشَّارِعِ أنَّه لا يلتَفتُ إليه في حُكمٍ ما، كالطُّولِ والقِصَرِ، والسَّوادِ والبَياضِ، وكَونِ المائِعِ لا تُبنى عليه القَناطِرُ. وقِسمٌ ثالثٌ بَينِ القِسمَينِ الأوَّلينِ، وهو ما يُتَوهَّمُ اشتِمالُه على مَصلحةِ الحُكمِ، ويُظَنُّ أنَّه مَظِنَّتُها وقالبُها مِن غَيرِ اطِّلاعٍ على عَينِ المَصلَحةِ، مَعَ عَهدِنا اعتِبارَ الشَّارِعِ له في بَعضِ الأحكامِ، كالجَمعِ بَينَ مَسحِ الرَّأسِ ومَسحِ الخُفِّ في نَفيِ التَّكرارِ، بوصفِ كَونِه مَسحًا، والجَمعِ بَينَه وبَينَ الأعضاءِ المَغسولةِ في التَّكرارِ، بكَونِه أصلًا في الطَّهارةِ، فهذا قياسُ الشَّبَهِ. فالقِسمُ الأوَّلُ: قياسُ العِلَّةِ، وهو صحيحٌ. والقِسمُ الثَّاني: باطِلٌ. والثَّالثُ: الشَّبَهُ. وهو مُختَلَفٌ فيه). .
وقيل: هو أن يَتَرَدَّدَ الفَرعُ بَينَ أصلَينِ: حاظِرٍ ومُبيحٍ، ويَكونَ شَبَهُه بأحَدِهما أكثَرَ، نَحوُ أن يُشبِهَ المُبيحَ في ثَلاثةِ أوصافٍ، ويُشبِهَ الحاظِرَ في أربَعةٍ، فنُلحِقَه بأشبَهِهما به [1619] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/241). .
وأُضيف القياسُ إلى الشَّبَهِ؛ لأنَّ المُعتَمَدَ فيه قوَّةُ شَبَهِ الفَرعِ بالأصلِ [1620] يُنظر: ((شرح الورقات)) لابن الفركاح (ص: 332). .
مِثالُ قياسِ الشَّبَهِ: الأكلُ مِن الهَديِ الواجِبِ إذا بَلغَ مَحِلَّه:
فاختُلف الفُقَهاءُ في ذلك على ثَلاثةِ أقوالٍ:
القَولُ الأوَّلُ: لا يُؤكَلُ مِن الهَديِ الواجِبِ كُلِّه، ولَحمُه كُلُّه للمَساكينِ. وهو قَولُ الشَّافِعيَّةِ [1621] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (4/187)، ((بحر المذهب)) للروياني (5/209). .
القَولُ الثَّاني: يُؤكَلُ مِن كُلِّ الهَديِ الواجِبِ إلَّا جَزاءَ الصَّيدِ، ونَذرَ المَساكينِ، وفِديةَ الأذى. وهو قَولُ المالكيَّةِ [1622] يُنظر: ((المدونة الكبرى)) لمالك (1/410)، ((الكافي)) لابن عبد البر (1/403). .
القَولُ الثَّالثُ: لا يُؤكَلُ مِن الهَديِ الواجِبِ إلَّا هَديَ المُتعةِ، وهَديَ القِرانِ. وهو قَولُ الحَنَفيَّةِ [1623] يُنظر: ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (2/581)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (2/89). .
وحُجَّةُ الشَّافِعيَّةِ: تَشبيهُ جَميعِ أصنافِ الهَديِ الواجِبِ بالكَفَّارةِ.
وأمَّا مَن فرَّقَ فلأنَّه يَظهَرُ في الهَديِ مَعنَيانِ: أحَدُهما: أنَّه عِبادةٌ مُبتَدَأةٌ. والثَّاني: أنَّه كفَّارةٌ. وأحَدُ المَعنَيَينِ في بَعضِها أظهَرُ.
فمَن غَلَّبَ شَبَهَه بالعِبادةِ على شَبَهِه بالكَفَّارةِ في نَوعٍ مِن أنواعِ الهَديِ كهَديِ القِرانِ وهَديِ التَّمَتُّعِ، وبخاصَّةٍ عِندُ مَن يَقولُ: إنَّ التَّمَتُّعَ والقِرانَ أفضَلُ- لم يَشتَرِطْ ألَّا يَأكُلَ؛ لأنَّ هذا الهَديَ عِندَه هو فضيلةٌ لا كفَّارةٌ تَدفعُ العُقوبةَ.
ومَن غَلَّبَ شَبَهَه بالكَفَّارةِ قال: لا يَأكُلُه؛ لاتِّفاقِهم على أنَّه لا يَأكُلُ صاحِبُ الكَفَّارةِ مِن الكَفَّارةِ. ولمَّا كان هَديُ جَزاءِ الصَّيدِ وفِديةُ الأذى ظاهِرٌ مِن أمرِهما أنَّهما كفَّارةٌ، لم يَختَلِفْ هؤلاء الفُقَهاءُ في أنَّه لا يَأكُلُ مِنها [1624] يُنظر: ((بداية المجتهد)) لابن رشد (2/142). .
الثَّالثُ: قياسُ السَّبرِ
وهو ما يَكونُ طَريقُ إثباتِ العِلَّةِ المُستَنبَطةِ فيه السَّبرَ والتَّقسيمَ [1625] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/4)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/224). .
وقد سَبَقَ بَيانُ مَعنى السَّبرِ والتَّقسيمِ وتَقسيماتِه وأمثِلتِه في مَسالِكِ العِلَّةِ.
الرَّابعُ: قياسُ الطَّردِ
وهو الحُكمُ الذي لم يُعلَمُ كونُه مُناسِبًا ولا مُستَلزِمًا للمُناسِبِ [1626] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2390). .
وقد سَبَقَ بَيانُ مَعنى الطَّردِ وبَيانُ أمثِلتِه في مَسالِكِ العِلَّةِ.
الفرقُ بَينَ قياسِ المَعنى، والطَّردِ، وقياسِ الشَّبَهِ:
أوَّلًا: مِن حَيثُ الإجمالُ
قياسُ المَعنى تَحقيقٌ، وقياسٌ الشَّبَهِ تَقريبٌ، وقياسُ الطَّردِ تَحَكُّمٌ.
ثانيًا: مِن حَيثُ التَّفصيلُ
قياسُ المَعنى: ما يُناسِبُ الحُكمَ ويَستَدعيه، ويُؤَثِّرُ فيه ويَقتَضيه، وهو كتَعليقِ التَّخفيفِ بما يوجِبُ التَّخفيفَ، وتَعليقِ العُقوباتِ بالجِناياتِ.
وأمَّا الطَّردُ فعلى عَكسِ هذا؛ فإنَّه تَعليقُ الحُكمِ بما لا يُناسِبُ الحُكمَ، ولا يُشعِرُ به ولا يَقتَضيه.
وأمَّا قياسُ الشَّبَهِ فإنَّه يَكونُ في فرعٍ يَتَجاذَبُه أصلانِ، فيُلحَقُ بأحَدِهما بنَوعِ شَبَهٍ مُقَرِّبٍ، مِن غَيرِ تَعَرُّضٍ لبَيانِ المَعنى. والمُرادُ بالمُقَرِّبِ: شَبَهٌ يُقَرِّبُ الفَرعَ مِن الأصلِ في الحُكمِ المَطلوبِ.
فالفَرقُ بَينَه وبَينَ قياسِ العِلَّةِ: أنَّ الشَّبَهَ يَكونُ الجَمعُ فيه بَينَ الفرعِ والأصلِ بوَصفٍ مَعَ الاعتِرافِ بأنَّ ذلك الوصفَ ليسَ عِلَّةً للحُكمِ، بخِلافِ قياسِ العِلَّةِ؛ فإنَّه جَمعٌ بما هو عِلَّةُ الحُكمِ.
ولذلك عَرَّف بَعضُ الأُصوليِّينَ الشَّبَهَ بأنَّه: الوصفُ الذي لا تَظهَرُ فيه المُناسَبةُ بَعدَ البَحثِ التَّامِّ، ولكِن أُلِفَ مِن الشَّارِعِ الالتِفاتُ إليه في بَعضِ الأحكامِ، فهو دونَ المُناسِبِ، وفوقَ الطَّرديِّ، ولأجلِ شَبَهِه بكُلٍّ مِنهما سُمِّيَ الشَّبَهَ.
فهو يُشبِهُ المُناسِبَ مِن حَيثُ التِفاتُ الشَّارِعِ إليه، ويُشبِهُ الطَّرديَّ مِن حَيثُ إنَّه غَيرُ مُناسِبٍ، ويَتَمَيَّزُ عنه بأنَّ الطَّرديَّ وُجودُه كالعَدَمِ. ويَتَمَيَّزُ عن المُناسِبِ الذَّاتيِّ بأنَّ المُناسَبةَ فيه عَقليَّةٌ وإن لم يَرِدْ شَرعٌ، كالإسكارِ للتَّحريمِ؛ فإنَّ كونَه مُزيلًا للعَقلِ الضَّروريِّ للإنسانِ، وكَونَه مُناسِبًا للمَنعِ مِنه مِمَّا لا يُحتاجُ في العِلمِ به إلى وُرودِ الشَّرعِ. بخِلافِ الشَّبَهِ؛ فإنَّ مُناسَبَتَه لا تُعلمُ بالنَّظَرِ في ذاتِه، بَل تَحتاجُ إلى وُرودِ الشَّرعِ [1627] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (2/168)، ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/243)، ((تحفة المسؤول)) للرهوني (4/117)، ((الردود والنقود)) للبابرتي (2/557). .

انظر أيضا: