موسوعة أصول الفقه

الفَرعُ الرَّابعُ: استِصحابُ الحُكمِ الثَّابتِ بالإجماعِ في مَحَلِّ الخِلافِ


صَورتُه: أن يَتَّفِقَ المُجتَهِدونَ على حُكمٍ، ثُمَّ تَتَغَيَّرَ الصِّفةُ التي وقَعَ عليها الإجماعُ ويَخلُفَها صِفةٌ أُخرى، فهَل يُستَصحَبُ الإجماعُ السَّابقُ ويُستَدَلُّ به بَعدَ تَغَيُّرِ الصِّفةِ، أو يُمنَعُ استِصحابُ الإجماعِ السَّابقِ لتَغَيُّرِ صِفةِ الإجماعِ [2336] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص:160)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3956)، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/425)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/151). .
ومِثالُه: أنَّ الإجماعَ انعَقدَ على صِحَّةِ صَلاةِ المُتَيَمِّمِ حالَ عَدَمِ الماءِ، فإذا رَأى الماءَ أثناءَ صَلاتِه هَل يَستَصحِبُ الإجماعَ السَّابقَ ويَستَمِرُّ في صَلاتِه، أو يَقطَعُها لتَغَيُّرِ الصِّفةِ حَيثُ وَجَدَ الماءَ وليسَ مَعدومًا كَما في حالةِ الإجماعِ.
ومِثالُه أيضًا: أنَّ مِلكَ المُسلمِ لمالِه ثابتٌ بالإجماعِ، فإذا ارتَدَّ اختَلفوا في زَوالِه، هَل يُستَصحَبُ السَّابقُ أو لا. وكذلك إذا وقَعَتِ النَّجاسةُ في الماءِ ولم تُغَيِّرْه، وقد أجمَعنا على طَهارَتِه قَبلَ وُقوعِها، فهَل تُستَصحَبُ الطَّهارةُ السَّابقةُ [2337] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (4/1265)، ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (1/ 527)، ((المستصفى)) للغزالي (ص:160)، ((التحقيق والبيان)) للأبياري (4/185)، ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/450). ؟
والمُختارُ: أنَّ استِصحابَ الإجماعِ في مَحَلِّ النِّزاع ليس بحُجَّةٍ، وأنَّه يَجِبُ البَحثُ في المَسألةِ عن دَليلٍ آخَرَ.
وهو مَذهَبُ جُمهورِ الحَنَفيَّةِ، كالسَّرَخْسيِّ [2338]  يُنظر: ((أصول السرخسي)) (2/ 116)، ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (2/ 459). ، وبَعضِ المالِكيَّةِ، ومِنهمُ ابنُ العَرَبيِّ [2339]  يُنظر: ((المحصول)) (ص: 130). ، والأبياريُّ [2340] يُنظر: ((التحقيق والبيان)) (4/185). ، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ، كابنِ الدَّهَّانِ [2341] يُنظر: ((تقويم النظر)) (4/ 445). ، والغَزاليِّ [2342] يُنظر: ((المستصفى)) (ص:160). . وبَعضِ الحَنابِلةِ، واختارَه أبو يَعلى [2343] يُنظر: ((العدة)) (4/1265). ، وابنُ عَقيلٍ [2344] يُنظر: ((الواضح)) (2/315، 316). ، وهو مَذهَبُ الأكثَرينَ [2345] يُنظر: ((قواعد الأصول ومعاقد الفصول)) لصفي الدين البغدادي (ص141). ويُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/449، 450)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3956)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/156)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/104)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (4/1435)، ((التحبير)) للمرداوي (8/3763). .
قال ابنُ السُّبكيِّ: (فهذا ليس بحُجَّةٍ عِندَ كافَّةِ المُحَقِّقينَ) [2346] ((الإبهاج)) (6/2611). .
واستَدَلُّوا على أنَّه ليس بحُجَّةٍ بما يَلي:
1- أنَّ مَوضِعَ الإجماعِ مُخالِفٌ لمَوضِعِ النِّزاعِ، فلا يَصِحُّ استِصحابُ الاحتِجاجِ بالإجماعِ فيه، كما لو وقَعَ الخِلافُ في مَسألةٍ لا يَجوزُ الاحتِجاجُ فيها بالإجماعِ في مَسألةٍ أُخرى، وحينَئِذٍ لزِمَ أن يُستَدَلَّ على دَوامِ الصِّحَّةِ بدَليلٍ آخَرَ سِوى الإجماعِ، إمَّا بتَوقيفٍ، وإمَّا بأن تُقاسَ حالةُ الوُجودِ على حالةِ العَدَمِ أو بغَيرِ ذلك، وهذا يَتَعَلَّقُ بفنِّ الفِقهِ، وهو خارِجٌ عن فنِّ الأُصولِ، وإنَّما المَقصودُ أنَّه لا يَصِحُّ استِصحابُ دَليلٍ مَعَ العِلمِ بنَفيِه [2347] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (4/1266)، ((التبصرة)) للشيرازي (ص:526)، ((المستصفى)) للغزالي (ص:160، 161)، ((التحقيق والبيان)) للأبياري (4/186). .
2- أنَّ الإجماعَ وإن كان حُجَّةً لكِنَّه غَيرُ مَوجودٍ في مَوضِعِ الخِلافِ، وما كان حُجَّةً لا يَصِحُّ الاحتِجاجُ به في المَوضِعِ الذي لا يوجَدُ فيه، كألفاظِ صاحِبِ الشَّرعِ إذا تَناولَت مَوضِعًا خاصًّا لم يَجُزِ الاحتِجاجُ بها في المَوضِعِ الذي لا تَتَناولُه، فكذلك هاهنا [2348] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص:527)، ((الواضح)) لابن عقيل (2/316). .
3- أنَّ الاحتِجاجَ باستِصحابِ الإجماعِ يُؤَدِّي إلى التَّكافُؤِ والتَّعارُضِ، وذلك أنَّه ما مِن أحَدٍ يَستَصحِبُ الإجماعَ في مَوضِعِ الخِلافِ في صِحَّةِ فِعلٍ وسُقوطِ فَرضٍ إلَّا ولخَصمِه أن يَستَصحِبَ حالَ الإجماعِ في اشتِغالِ ذِمَّتِه بالشَّرعِ وبَقاءِ العِبادةِ، فيَتَساويانِ في استِصحابِ حالِ الإجماعِ فيَتَكافآنِ، وبَيانُه: أنَّ مَن قال في المُتَيَمِّمِ إذا رَأى الماءَ في صَلاتِه: إنَّ صَلاتَه لا تَبطُلُ؛ لأنَّا أجمَعنا على صِحَّةِ صَلاتِه في انعِقادِ إحرامِه، ولا يَجوزُ إبطالُ ما أجمَعوا عليه إلَّا بدَليلٍ، قيل له: قد أجمَعنا على اشتِغالِ ذِمَّتِه بفرضِ الصَّلاةِ، فلا يَجوزُ إسقاطُ ما أجمَعوا عليه إلَّا بدَليلٍ، ولا يَكونُ التَّعَلُّقُ بأحَدِ الإجماعَينِ بأَولى مِنَ التَّعَلُّقِ بالإجماعِ الآخَرِ، وما أدَّى إلى مِثلِ هذا كان باطِلًا [2349] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص:527)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (4/1436)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2612)، ((البحر المحيط)) للزركشي (8/21). .
وقيل: إنَّ استِصحابَ الإجماعِ في مَحَلِّ النِّزاعِ حُجَّةٌ، وهو اختيارُ الآمِديِّ [2350] يُنظر: ((الإحكام)) (4/136). ، وأبي إسحاقَ بنِ شاقُلَّا [2351] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/449). ، وآخَرينَ [2352] يُنظر: ((أصول الفقه)) لابن مفلح (4/1435)، ((البحر المحيط)) للزركشي (8/20)، ((التحبير)) للمرداوي (8/3763). .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (التَّحقيقُ أنَّ هذا دَليلٌ مِن جِنسِ استِصحابِ البَراءةِ، ولكِن لا يَجوزُ الاستِدلالُ به إلَّا بَعدَ مَعرِفةِ المُزيلِ، ولا يَجوزُ الاستِدلالُ به لمَن لم يَعرِفِ الأدِلَّةَ النَّاقِلةَ، كما لا يَجوزُ الاستِدلالُ بالاستِصحابِ لمَن لم يَعرِفِ الأدِلَّةَ النَّاقِلةَ) [2353] ((إعلام الموقعين)) (2/164). .

انظر أيضا: