موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الثَّالثُ: عَدالةُ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم


الصَّحابةُ كُلُّهم عُدولٌ [2449] قال الغَزاليُّ: (العَدالةُ عِبارةٌ عنِ استِقامةِ السِّيرةِ والدِّينِ، ويَرجِعُ حاصِلُها إلى هَيئةٍ راسِخةٍ في النَّفسِ تَحمِلُ على مُلازَمةِ التَّقوى والمُروءةِ جَميعًا حتَّى تَحصُلَ ثِقةُ النُّفوسِ بصِدقِه). ((المستصفى)) (ص: 125). وقال السُّيوطيُّ في تَعريفِ العَدالةِ: (حَدَّها الأصحابُ بأنَّها مَلكةٌ، أي: هَيئةٌ راسِخةٌ في النَّفسِ، تَمنَعُ مِنَ اقتِرافِ كَبيرةٍ أو صَغيرةٍ دالَّةٍ على الخِسَّةِ، أو مُباحٍ يُخِلُّ بالمُروءةِ، وهذه أحسَنُ عِبارةٍ في حَدِّها). ((الأشباه والنظائر)) (ص: 384). ويُنظر: ((نزهة النظر)) لابن حجر (ص: 58). وقال العَلائيُّ: (وبهذا يَتَبَيَّنُ أنَّه ليسَ المَعنيُّ بعَدالةِ كُلِّ واحِدٍ مِنَ الصَّحابةِ رَضِيَ الله عنهم أنَّ العِصمةَ له ثابتةٌ والمَعصيةَ عليه مُستَحيلةٌ. ولكِنَّ المَعنيَّ بهذا أنَّ رِوايَتَه مَقبولةٌ وقَولَه مُصَدَّقٌ، ولا يَحتاجُ إلى تَزكيةٍ كما يَحتاجُ غَيرُه إليها؛ لأنَّ استِصحابَ الحالِ لا يُفيدُ إلَّا ذلك). ((تحقيق منيف الرتبة)) (ص:86). وقال المَرداويُّ: (ليسَ المُرادُ بكَونِهم عُدولًا العِصمةَ لهم، واستِحالةَ المَعصيةِ عليهم، إنَّما المُرادُ ألَّا نَتَكَلَّفَ البَحثَ عن عَدالتِهم، ولا طَلَبَ التَّزكيةِ فيهم). ((التحبير)) (4/1994). عِندَ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، فلا يُسألُ عن عَدالةِ أحَدِهم؛ لكَونِهم مُعَدَّلينِ بنُصوصِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، وإجماعِ مَن يُعتَدُّ به [2450] يُنظر: ((التلخيص)) لإمام الحرمين (2/373)، ((التحقيق والبيان)) للأبياري (2/702)، ((مقدمة ابن الصلاح)) (ص: 294). .
قال ابنُ حَزمٍ: (كُلُّهم عَدلٌ، إمامٌ، فاضِلٌ، رَضيٌّ، فَرضٌ علينا تَوقيرُهم وتَعظيمُهم، وأن نَستَغفِرَ لهم ونُحِبَّهم) [2451]  ((الإحكام في أصول الأحكام)) لابن حزم (5/89). .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ القُرآنِ
1- عُمومُ قَولِ اللهِ تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110] .
2- عُمومُ قَولِ اللهِ سُبحانَه: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143]
وَجهُ الدَّلالةِ مِنَ الآيَتَينِ:
 هو ثَناءُ اللهِ عليهم واستِشهادُهم على غَيرِهم، وهو وإن كان عامًّا إلَّا أنَّه وارِدٌ في الصَّحابةِ؛ فهم أوَّلُ المُخاطَبينَ بذلك [2452] يُنظر: ((الكفاية)) للخطيب البغدادي (ص:46)، ((المستصفى)) للغزالي (ص:130)، ((الإحكام)) للآمدي (2/91)، ((مقدمة ابن الصلاح)) (ص:294)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (2/384). .
3- ثَناءُ اللهِ تعالى عليهم في عَدَدٍ مِنَ الآياتِ الخاصَّةِ بهم، مِنها قَولُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح: 18] ، وقَولُه تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة: 100] ، وقَولُه تعالى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الواقعة: 11] ، وقَولُه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 64] ، وقَولُه تعالى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قِبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 8-9] .
وَجهُ الدَّلالةِ مِنَ الآياتِ السَّابقةِ:
أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ أثنى عليهم، ولا يُثني عليهم إلَّا وهم عُدولٌ، فلا يَحتاجُ أحَدٌ مِنهم مَعَ تَعديلِ اللَّهِ تعالى لهمُ المُطَّلِعِ على بَواطِنِهم إلى تَعديلِ أحَدٍ مِنَ الخَلقِ لهم [2453] يُنظر: ((الكفاية)) للخطيب البغدادي (ص:46، 47)، ((المستصفى)) للغزالي (ص:130)، ((مقدمة ابن الصلاح)) (ص:294)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/181)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (2/384). .
وقد نَزَلت هذه الآياتُ في الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، والمُرادُ بقَولِ اللهِ تعالى: الصَّادِقُونَ: همُ المُهاجِرونَ، الْمُفْلِحُونَ: همُ الأنصارُ [2454]  قال ذلك في خُطبَتِه للأنصارِ يَومَ السَّقيفةِ. يُنظر: ((العواصم من القواصم)) لابن العربي (ص: 62). .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ
ورَدَت أحاديثُ كَثيرةٌ ناطِقةٌ بالثَّناءِ على الصَّحابةِ والإطنابِ في فَضلِهم ومَناقِبِهم؛ مِنها:
1- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا تَسُبُّوا أصحابي، فوالذي نَفسي بيَدِه لو أنَّ أحَدَكُم أنفَقَ مِثلَ أحُدٍ ذَهَبًا ما أدرَكَ مُدَّ أحَدِهم ولا نَصيفَه)) [2455]  أخرجه مسلم (2540). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الحَديثَ يَدُلُّ دَلالةً صَريحةً على النَّهيِ عن سَبِّ أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والوَصفُ لهم بغَيرِ العَدالةِ سَبٌّ لهم؛ فدَلَّ ذلك على عَدالتِهم [2456]  يُنظر: ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (2/474)، ((عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم)) لناصر الشيخ (2/809). .
2- عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((خَيرُ النَّاسِ قَرني، ثُمَّ الذينَ يَلونَهم، ثُمَّ الذينَ يَلونَهم، ثُمَّ يَجيءُ مِن بَعدِهم قَومٌ تَسبِقُ شَهادَتُهم أيمانَهم، وأيمانُهم شَهادَتَهم)) [2457]  أخرجه البخاري (6429)، واللَّفظُ له، ومسلم (2533). وعن عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ الله عنهما، يَقولُ: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((خَيرُ أُمَّتي قَرني، ثُمَّ الذينَ يَلونَهم، ثُمَّ الذينَ يَلونَهم -قال عِمرانُ: فلا أدري: أذَكَرَ بَعدَ قَرنِه قَرنَينِ أو ثَلاثًا- ثُمَّ إنَّ بَعدَكُم قَومًا يَشهَدونَ ولا يُستَشهَدونَ، ويَخونونَ ولا يُؤتَمَنونَ، ويَنذِرونَ ولا يَفونَ، ويَظهَرُ فيهمُ السِّمَنُ)). أخرجه البخاري (3650)، واللَّفظُ له، ومسلم (2535). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ (الخَيرَ) هنا اسمُ جِنسٍ مُضافٌ، أو صِفةُ (أفعَلَ) مُضافةٌ، فيَعُمُّ جَميعَ أنواعِ الخَيرِ. فمَتى جُعِل أحَدٌ مِنَ الصَّحابةِ في التَّعديلِ كمَنَ بَعدَه، حتَّى يُنظَرَ في عَدالتِه، ويُبحَثَ عنها، لم يَكُنْ خَيرًا مِمَّن بَعدَه مُطلَقًا [2458]  يُنظر: ((تحقيق منيف الرتبة)) للعلائي (ص: 84)، ((فواتح الرحموت)) للأنصاري (2/195). .
قال النَّوويُّ: (اتَّفقَ العُلماءُ على أنَّ خَيرَ القُرونِ قَرنُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والمُرادُ أصحابُه) [2459]  يُنظر: ((شرح مسلم)) (16/84). .
إلى غَيرِ ذلك مِنَ الأحاديثِ التي تَدُلُّ على عَدالتِهم، وقد شَهدَ لهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلا يَحتاجونَ إلى شَهادةِ غَيرِه [2460] يُنظر: ((الكفاية)) للخطيب البغدادي (ص:47-48)، ((المستصفى)) للغزالي (ص:130)، ((الإحكام)) للآمدي (2/91)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/181-183)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (2/384). .
ثالثًا: الإجماعُ
الإجماعُ قائِمٌ على عَدالةِ الصَّحابةِ، وقد نَقَله غَيرُ واحِدٍ، ومِنهمُ ابنُ الصَّلاحِ [2461] قال: (إنَّ الأُمَّةَ مُجمِعةٌ على تَعديلِ جَميعِ الصَّحابةِ، ومَن لابَسَ الفِتَنَ مِنهم فكذلك بإجماعِ العُلماءِ الذينَ يُعتَدُّ بهم في الإجماعِ؛ إحسانًا للظَّنِّ بهم، ونَظَرًا إلى ما تمَهَّد لهم مِنَ المَآثِرِ، وكأنَّ اللَّهَ سُبحانَه وتعالى أتاحَ الإجماعَ على ذلك لكَونِهم نَقَلةَ الشَّريعةِ، واللهُ أعلمُ). ((مقدمة ابن الصلاح)) (ص: 295). ، والنَّوَويُّ [2462] قال: (الصَّحابةُ كُلُّهم عُدولٌ؛ مَن لابَسَ الفِتَن وغَيرَهم، بإجماعِ مَن يُعتَدُّ به). ((التقريب والتيسير)) (ص:92). .
رابعًا: أنَّ فيما اشتَهَرَ وتَواتَرَ مِن صَلاحِهم، وطاعَتِهم للهِ ورَسولِه، وحالِهم في الهِجرةِ والجِهادِ، وبَذلِهم أنفُسَهم وأموالَهم في سَبيلِ اللهِ تعالى- غايةَ التَّعديلِ لهم [2463] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/183)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (2/384). .
قال الأبياريُّ: (مَعرِفةُ أحوالِهم في الجِهادِ، وبَذلِ المُهَجِ والأموالِ، ومُقاطَعةِ الآباءِ والإخوانِ، وهِجرةِ المَساكِنِ والأوطانِ في طاعةِ اللهِ وطاعةِ رَسولِه: مِن أوضَحِ الأدِلَّةِ على العَدالةِ، واستِقامةِ الحالِ) [2464]  ((التحقيق والبيان في شرح البرهان)) (2/702). .
وأيضًا فلا أعدَلَ مِمَّنِ ارتَضاه اللهُ تعالى لصُحبةِ نَبيِّه ونُصرَتِه، ولا تَزكيةَ أفضَلُ مِن ذلك، ولا تَعديلَ أكمَلُ مِنه [2465] يُنظر: ((الاستيعاب)) لابن عبد البر (1/1). .
لا تَلازُمَ بَينَ العَدالةِ والعِصمةِ:
يوجَدُ فَرقٌ بَينَ العَدالةِ والعِصمةِ، وليسَ مَعنى عَدالةِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم أنَّهم مَعصومونَ مِنَ المَعاصي، أو مِنَ السَّهوِ أوِ الغَلطِ، وإنَّما المُرادُ قَبولُ رِواياتِهم مِن غَيرِ تَكَلُّفِ بَحثٍ عن أسبابِ العَدالةِ، وطَلَبِ التَّزكيةِ؛ لأنَّهم سَلِموا مِنَ الفُسوقِ والكَذِبِ على اللهِ عَزَّ وجَلَّ [2466]  يُنظر: ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (2/477)، ((دفاع عن السنة)) لأبي شهبة (ص: 92). .
قال الشَّافِعيُّ: (لو كان العَدلُ مَن لم يُذنِبْ لم تَجِدْ عَدلًا، ولو كان كُلُّ ذَنبٍ لا يَمنَعُ مِنَ العَدالةِ لم تَجِدْ مَجروحًا، ولكِن مَن تَرَكَ الكَبائِرَ وكانت مَحاسِنُه أكثَرَ مِن مَساوِئِه، فهو عَدلٌ) [2467]  يُنظر: ((العواصم والقواصم)) لابن الوزير (1/323). وحكاه النووي بمعناه في ((روضة الطالبين)) (8/203). .
وقال الأبياريُّ: (لسنا نَعني بعَدالةِ كُلِّ واحِدٍ مِنَ الصَّحابةِ أنَّ العِصمةَ ثابتةٌ له، والمَعصيةَ مُستَحيلةٌ، وإنَّما نُريدُ أنَّ الرِّوايةَ مِنه مَقبولةٌ مِن غَيرِ تَكَلُّفِ بَحثٍ عن أسبابِ العَدالةِ، وطَلَبِ التَّزكيةِ، إلَّا أن يَثبُتَ ارتِكابُ ما يَقدَحُ في العَدالةِ، ولم يَثبُتْ ذلك، والحَمدُ للَّهِ) [2468]  ((التحقيق والبيان)) (2/709). .

انظر أيضا: