موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الخامِسةُ: تَقسيمُ المُفرَدِ باعتِبارِ احتِمالِ المَعنى


اللَّفظُ الذي يُفيدُ مَعنًى: إمَّا ألَّا يَحتَمِلَ غَيرَه؛ فهو: النَّصُّ، وإمَّا أن يَحتَمِلَ غَيرَه فيَحتَمِلُ مَعنَيَينِ فأكثَرَ، فإن تَساويَا فهو المُجمَلُ، وإن لَم يَتَساويَا فالرَّاجِحُ هو الظَّاهرُ، والمَرجوحُ هو المُؤَوَّلُ [65] يُنظر: ((شرح المعالم في أصول الفقه)) لابن التلمساني (1/ 167). ، وفيما يَلي بَيانُها:
1- النَّصُّ: وهو اللَّفظُ الذي يُفيدُ مَعنًى، بحَيثُ لا يَحتَمِلُ غَيرَه، وسُمِّي بذلك لظُهورِه، يُقالُ: نَصَّ عُنُقَه: إذا رَفعَه وأظهَرَه، ويُقالُ: مِنَصَّةُ العَروسِ: للكُرسيِّ الذي تَظهَرُ عليه [66] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (1/140-141). .
2- الظَّاهِرُ: وهو ما احتَمَلَ مَعنيَينِ إلَّا أنَّ أحَدَهما أحَقُّ وأظهَرُ باللَّفظِ مِنَ الآخَرِ [67] يُنظر: ((رسالة العكبري)) (ص: 64). ، وهو وإن شارَكَ النَّصَّ في الظُّهورِ لَكِنَّه اختَصَّ به؛ لبُلوغِه أقصى مَراتِبِ الظُّهورِ، وإنِ احتَمَلَ غَيرَه احتِمالًا، سَواءٌ سُمِّيَ مجمَلًا، وإن كان احتِمالًا مَرجوحًا سُمِّيَ بالنِّسبةِ إلى الرَّاجِحِ ظاهرًا، وإلى المَرجوحِ مُؤَوَّلًا [68] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (1/141). .
3- المُجمَلُ: هو ما لا يُنبِئُ عنِ المُرادِ بنَفسِه، ويَحتاجُ إلى قَرينةٍ تُفسِّرُه، أو لا يُعرَفُ مَعناه مِن لَفظِه [69] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (1/142)، ((التمهيد)) للكلوذاني (1/9). .
ومِثالُه: قَولُ اللهِ تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام: 141] ؛ فإنَّه مُجمَلٌ في جِنسِ الحَقِّ، وفي قَدرِه، ويَحتاجُ إلى دَليلٍ يُفسِّرُه ويُبَيِّنُ مَعناه [70] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (1/142). .
وقيلَ: ما احتَمَلَ أمرَينِ لا مَزيَّةَ لأحَدِهما على الآخَرِ. وذلك مِثلُ: الألفاظِ المُشتَرَكةِ، كلَفظةِ "العَينِ": المُشتَركةِ بَينَ "الذَّهَبِ" و"العَينِ النَّاظِرةِ" وغَيرِهما. و"القُرءِ" للحَيضِ والطُّهرِ، وكالشَّفَقِ للبَياضِ والحُمرةِ [71] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/517)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/999). .
4- المُؤَوَّلُ: هو حَملُ ظاهرٍ على مُحتَمَلٍ مَرجوحٍ بدَليلٍ يُصَيِّرُه راجِحًا [72] يُنظر: ((التحبير)) للمرداوي (6/2692)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (3/461). . أي: حَملُ ظاهرٍ بدَليلٍ يَصيرُ الحَملُ راجِحًا على مَدلولِه الظَّاهرِ، فيُسَمَّى تَأويلًا صحيحًا؛ فإنَّ تَركَ الظَّاهرِ لا لدَليلٍ مُحَقَّقٍ، بَل لشُبَهٍ تَخَيَّلُ للسَّامِعِ أنَّها دَليلٌ، وعِندَ التَّحقيقِ تَضمَحِلُّ: يُسَمَّى تَأويلًا فاسِدًا، ورُبَّما قيلَ: تَأويلًا بَعيدًا [73] يُنظر: ((الذخر الحرير)) للبعلي (ص: 575). .
وَجهُ الاشتِراكِ بَينَ النَّصِّ والظَّاهرِ:
النَّصُّ والظَّاهرُ يَشتَرِكانِ في رُجحانِ الإفادةِ، إلَّا أنَّ النَّصَّ راجِحٌ لا يَحتَمِلُ غَيرَه. والظَّاهرُ راجِحٌ يَحتَمِلُ غَيرَه. والقَدرُ المُشتَرَكُ بَينَهما مِنَ الرُّجحانِ يُسَمَّى المُحكَمَ؛ لإحكامِ عِبارَتِه وإتقانِه، فالمُحكَمُ جِنسٌ لنَوعَينِ: النَّصِّ، والظَّاهرِ [74] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (1/231)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/51)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (1/141)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (3/552). .
وَجهُ الاشتِراكِ بَينَ المُجمَلِ والمُؤَوَّلِ:
المُجمَلُ والمُؤَوَّلُ بَينَهما قدرٌ مُشتَرَكٌ، وهو عَدَمُ الاستِقلالِ بالإفادةِ إلَّا بضَميمةٍ، فهما يَشتَرِكانِ في أنَّ كُلًّا مِنهما يُفيدُ مَعناه إفادةً غَيرَ راجِحةٍ، إلَّا أنَّ المُؤَوَّلَ مَرجوحٌ، والمُجمَلَ ليس مَرجوحًا بَل مُساويًا. والقدرُ المُشتَرَكُ بَينَهما مِن عَدَمِ الرُّجحانِ يُسَمَّى بالمُتَشابِهِ؛ فالمُتَشابِهُ جِنسٌ لنَوعَينِ: المُجمَلِ، والمُؤَوَّلِ [75] يُنظر: ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (1/168)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (1/142)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (3/552). .
بَيانُ ما هو نَصٌّ، وظاهِرٌ، ومُجمَلٌ، ومُؤَوَّلٌ في الأقسامِ الأربَعةِ السَّابِقةِ:
الأقسامُ الثَّلاثةُ الأولى - وهيَ: المُتَّحِدُ اللَّفظِ والمَعنى، والمُتَعَدِّدُ اللَّفظِ والمَعنى، والمُتَعَدِّدُ اللَّفظِ دونَ المَعنى- نُصوصٌ؛ لأنَّ لكُلِّ لَفظٍ منها مَعنًى مُعَيَّنًا لا يَحتَمِلُ غَيرَه، وهذا هو المَعنيُّ بالنَّصِّ، وقد يُطلَقُ (النَّصُّ) على ما يَدُلُّ على مَعنًى قَطعًا، ويَحتَمِلُ غَيرَه، مِثلُ صِيَغِ العُمومِ في الجُموعِ؛ فإنَّه لا بُدَّ لها مِن ثَلاثةٍ، ويَحتَمِلُ الزِّيادةَ [76] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (3/550). .
وأمَّا القِسمُ الرَّابِعُ، وهو مُتَّحِدُ اللَّفظِ مُتَعَدِّدُ المَعنى، بأقسامِه كالمُشتَركِ، والمَنقولِ عنه وإليه، والحَقيقةِ والمَجازِ، فلا يَخلو:
إمَّا أن تَكونَ دَلالَتُه على كُلِّ واحِدٍ مِنَ المَعاني على السَّويَّةِ، فهذا هو المُجمَلُ، مِثلُ: (القُرءِ) بالنِّسبةِ إلى الطُّهرِ والحَيضِ.
وإن كانت دَلالَتُه على بَعضِ المَعاني أرجَحَ؛ فالطَّرَفُ الرَّاجِحُ (ظاهِرٌ)، والمَرجوحُ (مُؤَوَّلٌ)؛ لأنَّه يَؤولُ إلى الظُّهورِ عِندَ مُساعَدةِ الدَّليلِ له [77] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (1/230)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (3/552). .

انظر أيضا: