موسوعة أصول الفقه

المَبحَثُ الثَّالِثُ: هَل يُشتَرَطُ كَونُ المُشتَقِّ حَقيقةً -دَوامُ أصلِه- وهو بَقاءُ المُشتَقِّ مِنه؟


والمُرادُ أنَّ دَوامَ ما منه الاشتِقاقُ، أي: بَقاءَ مَعنى المُشتَقِّ مِنه: هَل هو شَرطٌ في إطلاقِ اسمِ المُشتَقِّ بطَريقِ الحَقيقةِ أم لا؟
ومَحَلُّ الخِلاف في المَسألةِ إنَّما هو في صِدقِ الاسمِ فقَط، أي: هَل يُسَمَّى مَن ضَرَبَ أمسِ الآنَ بضارِبٍ؟ وهو أمرٌ راجِعٌ إلى اللُّغةِ، وليس النِّزاعُ في نِسبةِ المَعنى، أعني: في أنَّ زَيدًا الضَّارِبَ أمسِ هَل هو الآنَ ضارِبٌ؟ فإنَّ ذلك لا يَقولُه عاقِلٌ.
وإطلاقُ الاسمِ المُشتَقِّ باعتِبارِ الحالِ [91] قال ابنُ السُّبكيِّ: (اعلَمْ أنَّا لا نَعني بالحالِ حالَ نُطقِنا، بَل حالَ اتِّصافِه بالمُشتَقِّ مِنه. فإذا قُلتَ: (اقتُلوا المُشرِكينَ) فمَعناه: الأمرُ بقَتلِ مَنِ اتَّصَف بالشِّركِ وإن لَم يَكُن وقتَ قَولِك: (اقتُلوا المُشرِكينَ) مُتَّصِفًا به. وقد خَفِي ذلك على بَعضِ الفُضَلاءِ فظَنَّ أنَّه لا يَشمَلُ مَن يَأتي بَعدَ ذلك إلَّا مَجازًا). ((الإبهاج)) (3/599). وقد ذَكرَ القَرافيُّ قَولَهم بأنَّ نُصوصَ الكِتابِ والسُّنَّةِ لا تَتَناولُ الكائِنَ في زَمانِنا إلَّا بطَريقِ المَجازِ، مِثلُ قَولِ اللهِ تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 5] ، وقَولِ اللهِ تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة: 38] ، وقَولِ اللهِ تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي [النور: 2] ؛ لأنَّ هذه المُشتَقَّاتِ لا تَتَناولُ على وَجهِ الحَقيقةِ إلَّا مَن كان مُتَّصِفًا بها وقتَ نُزولِها، وأمَّا مِن بَعدِ ذلك فهيَ مَجازٌ. ثُمَّ قال القَرافيُّ: (وهو خِلافُ الإجماعِ، بَل أجمَعَ العُلَماءُ على أنَّ هذه الألفاظَ حَقائِقُ في هذه المَعاني). ((نفائس الأصول)) (2/665). حَقيقةٌ بالإجماعِ، كَتَسميةِ الخَمرِ خَمرًا، وباعتِبارِ المُستَقبَلِ مَجازٌ بالإجماعِ، كَتَسميةِ العِنَبِ والعَصيرِ خَمرًا، وأمَّا إطلاقُه باعتِبارِ الماضي، كَإطلاقِ الضَّارِبِ على مَن صَدَرَ منه الضَّربُ وانتَهى، ففيه خِلافٌ [92] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (3/585)، ((تحفة المسئول)) للرهوني (1/375)، ((البحر المحيط)) للزركشي (2/338). . وقدِ اختَلَف الأُصوليُّونَ في ذلك على مَذاهبَ ثَلاثةٍ:
أصَحُّها: أنَّه يُشتَرَطُ لكَونِ المُشتَقِّ حَقيقةً دَوامُ أصلِه، وهو بَقاءُ المُشتَقِّ مِنه، بمَعنى أنَّ صِدقَ المُشتَقِّ حَقيقةً مَشروطٌ ببَقاءِ مَعنى المُشتَقِّ مِنه. وهو قَولُ الجُمهورِ [93] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (3/585)، ((البحر المحيط)) للزركشي (2/338)، ((الدرر اللوامع)) للكوراني (2/35). ، ومِنهمُ الرَّازيُّ [94] يُنظر: ((المحصول)) (1/240). ، والبَيضاويُّ [95] يُنظر: ((المنهاج)) (ص: 83). ، والإسنَويُّ [96] يُنظر: ((التمهيد)) (ص: 153). .
وذلك لأنَّ المُشتَقَّ يَصدُقُ نَفيُه عِندَ زَوالِ المُشتَقِّ مِنه، فيُقالُ: زيدٌ ليس بضارِبٍ؛ لأنَّه بَعدَ انقِضاءِ الضَّربِ يَصدُقُ عليه أنَّه ليس بضارِبٍ في الحالِ، فيَصدُقُ أنَّه ليس بضارِبٍ مُطلَقًا؛ لأنَّ المُقَيَّدَ أخَصُّ مِنَ المُطلَقِ، وصِدقُ الأخَصِّ مُستَلزِمٌ لصِدقِ الأعَمِّ؛ إذ إنَّ قَولَنا: (ليس بضارِبٍ) جُزءٌ لقَولِنا: (ليس بضارِبٍ في الحالِ)، ومَتى صَدَقَ الكُلُّ صَدَقَ الجُزءُ، فيَصدُقُ أنَّه ليس بضارِبٍ.
وإذا صَدَقَ نَفيُه فلا يَصدُقُ إيجابُه، وهو (زَيدٌ ضارِبٌ)؛ لأنَّهما مُتَناقِضانِ، وإذا صَدَقَ أحَدُ النَّقيضَينِ لا يَصدُقُ الآخَرُ [97] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (3/585)، ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 99)، ((تيسير الوصول)) لابن إمام الكاملية (2/256)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (1/455). .
وقيلَ: ذلك غَيرُ مُشتَرَطٍ مُطلَقًا. وهو قَولُ بَعضِ المُعتَزِلةِ، كأبي عَليٍّ، وابنِه أبي هاشِمٍ [98] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (1/240)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (3/586)، ((البحر المحيط)) للزركشي (2/338)، ((تيسير الوصول)) لابن إمام الكاملية (2/255)، ((فواتح الرحموت)) للأنصاري (1/155). .
وقيلَ: بالتَّفصيلِ، وهو أنَّ مَعنى المُشتَقِّ مِنه إن كان مُمكِنًا بَقاؤُه، كالقيامِ والقُعودِ، اشتُرِطَ بَقاؤُه في كَونِ المُشتَقِّ حَقيقةً، وإلَّا فلا، كما في المَصادِرِ السَّيَّالةِ التي لا تَجتَمِعُ أجزاؤُها في الوُجودِ، نَحوُ: التَّكَلُّمِ والتَّحَرُّكِ. وهو قَولُ بَعضِ الأُصوليِّينَ [99] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (1/54)، ((نهاية الأصول)) لصفي الدين الهندي (1/167)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (1/244)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (1/72). ، واختارَه أبو الخَطَّابِ مِنَ الحَنابِلةِ [100] يُنظر: ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 567)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (1/120). .
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:
1- أنَّ الشَّافِعيَّةَ لمَّا قالوا بكَراهةِ السِّواكِ للصَّائِمِ بَعدَ الزَّوالِ مُستَدِلِّينَ بقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطيَبُ عِندَ اللهِ مِن ريحِ المِسكِ)) [101] أخرجه البخاري (1904) من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ومسلم (1151) من حديثِ أبي هرَيرةَ وأبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنهما. اختَلَفوا في أنَّ كَراهةَ السِّواكِ للصَّائِمِ هَل تَنتَهي بالغُروبِ، أم تَبقى إلى الفِطرِ؟ فالأكثَرونَ على الأوَّلِ، ومِنهم مَن قال بالثَّاني، والخِلافُ مَبنيٌّ على المَسألةِ [102] يُنظر: ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 157). .
2- إذا قال الكافِرُ: أنا مُسلِمٌ. هَل يُحكَمُ بإسلامِه أم لا؟
فيه اختِلافٌ؛ فإن جَعَلناه حَقيقةً في الحالِ كان مُؤمِنًا، وإلَّا فلا؛ لأنَّه لَو قال: أنا أُسلِمُ بَعدَ ذلك. لَم يُلزَمْ بالإسلامِ، ووَجهُ عَدَمِ إسلامِه مُطلَقًا: أنَّه قد يُسَمِّي دينَه الذي هو عليه إسلامًا [103] يُنظر: ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 155). .
3- لَو عُزِلَ القاضي فقال: امرَأةُ القاضي طالِقٌ. هَل يَقَعُ طَلاقُه؟
فيه وجهانِ عِندَ الشَّافِعيَّةِ [104] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (3/602)، ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 155)، وقال: (المَسألةُ لها التِفاتٌ إلى قَواعِدَ: أحَدُها: ما ذَكَرناه، والثَّانيةُ: المُفرَدُ المُحَلَّى بأل هَل يَعُمُّ أم لا؟ والثَّالِثةُ: المُتَكَلِّمُ هَل يَدخُلُ في عُمومِ كَلامِه أم لا؟ والرَّابِعةُ: إقامةُ الظَّاهرِ مَقامَ المُضمَرِ). .

انظر أيضا: