موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ التَّاسِعُ: الجَمعُ بَينَ الحَقيقةِ والمَجازِ


أي: استِعمالُ اللَّفظِ الواحِدِ في مَعنَيَيه: الحَقيقيِّ والمَجازيِّ، فيَكونُ حَقيقةً مِن وجهٍ، مَجازًا مِن وجهٍ آخَرَ، مِثلُ: أن يُطلَقَ لفظُ (النِّكاحِ)، ويُرادَ به العَقدُ والوطءُ جَميعًا [335] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (2/703)، ((البحر المحيط)) للزركشي (2/399). .
وقدِ اختَلَف فيه الأُصوليُّونَ، والرَّاجِحُ: أنَّه يَجوزُ استِعمالُ اللَّفظِ في حَقيقَتِه ومَجازِه مَعًا، فيَجوزُ أن يَكونَ اللَّفظُ الواحِدُ مُتَناوِلًا لمَوضِعِ الحَقيقةِ والمَجازِ؛ فيَكونَ حَقيقةً مِن وَجهٍ، مَجازًا مِن وجهٍ آخَرَ. وهو مَنقولٌ عنِ الشَّافِعيِّ [336] يُنظر: ((البرهان)) لإمام الحرمين (1/121)، ((المحصول)) للرازي (1/268)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (3/659). قال الزَّركَشيُّ: (وأمَّا الشَّافِعيُّ فجَرى على مِنوالٍ واحِدٍ، فجَوَّز استِعمالَ اللَّفظِ في حَقيقَتِه ومَجازِه، وحَملَه عِندَ الإطلاقِ عليهما. وأخرج ابنُ الرِّفعةِ نَصَّه على ذلك في "الأُمِّ" عِندَ الكَلامِ فيما إذا عُقِدَ لرَجُلَينِ على امرَأةٍ، ولَم يُعلَمِ السَّابِقُ مِنهما، ذَكَرَ ذلك في بابِ الوصيَّةِ مِن "المطلب". وقال إمامُ الحَرَمَينِ وابنُ القُشَيريِّ: إنَّه ظاهرُ اختيارِ الشَّافِعيِّ؛ فإنَّه قال في مُفاوضةٍ له في آيةِ اللَّمسِ: هيَ مَحمولةٌ على الجَسِّ باليَدِ حَقيقةً، وعلى الوِقاعِ مَجازًا. قُلتُ: وكذلك نَصُّه في قَولِه تعالى: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [النساء: 43] ؛ فإنَّه احتَجَّ به على جَوازِ العُبورِ في المَسجِدِ؛ لقَولِه: إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ [النساء: 43] ، وقال: أرادَ مَواضِعَ الصَّلاةِ، وحُمِلَ اللَّفظُ على الصَّلاةِ وعلى مَواضِعِها، ودَلَّ على الصَّلاةِ قَولُه: حَتَّى تَعْلَمُوا [النساء: 43] ، وعلى مَواضِعِها قَولُه: إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ فحُمِلَ اللَّفظُ على حَقيقَتِه ومَجازِه). ((البحر المحيط)) (2/ 400). ، وهو مَذهَبُ جُمهورِ الشَّافِعيَّةِ [337] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (2/399)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (2/828). ، وبه قال أبو يوسُفَ ومُحَمَّدٌ مِنَ الحَنَفيَّةِ [338] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (1/79). .
الأدِلَّةُ:
1- حَديثُ الأعرابيِّ الذي بالَ في طائِفةِ المَسجِدِ، فزَجَرَه النَّاسُ، فنَهاهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلَمَّا قَضى بولَه أمَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذَنوبٍ مِن ماءٍ فأُهريقَ عليه، وذلك بالرِّوايةِ التي ورَدَ فيها قَولُه: ((صُبُّوا عليه ذَنوبًا [339] الذَّنوبُ: الدَّلوُ العَظيمةُ، وقيلَ: لا يُسَمَّى ذَنوبًا إلَّا إذا كان فيها ماءٌ. يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (3/ 125). مِن ماءٍ)) [340] أخرجها أبو داود (380)، والبزار (7679)، والبيهقي (4297) باختلافٍ يسيرٍ، ولَفظُ أبي داود: عن أبي هرَيرةَ أنَّ أعرابيًّا دَخَلَ المَسجِدَ، ورَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جالِسٌ، فصَلَّى -قال ابنُ عَبدةَ:- رَكعَتَينِ، ثُمَّ قال: اللهُمَّ ارحَمني ومُحَمَّدًا ولا تَرحَمْ مَعنا أحَدًا، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لقد تحجَّرتَ واسِعًا! ثُمَّ لم يَلبَثْ أن بالَ في ناحيةِ المَسجِدِ، فأسرَعَ النَّاسُ إليه، فنَهاهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقال: إنَّما بُعِثتُم مُيَسِّرينَ ولَم تُبعَثوا مُعَسِّرينَ، صُبُّوا عليه سَجْلًا مِن ماءٍ، أو قال: ذَنوبًا مِن ماءٍ. صَحَّحه ابنُ المُلَقِّنِ في ((البدر المنير)) (1/524)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (380)، وصَحَّحَ إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (380). وأصلُه في صحيح البخاري (6128) دونَ لَفظ: "صُبُّوا"، ولَفظُه: عن أبي هرَيرةَ أنَّ أعرابيًّا بالَ في المَسجِدِ، فثارَ إليه النَّاسُ ليَقَعوا به، فقال لهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: دَعوه، وأهريقوا على بَولِه ذَنوبًا مِن ماءٍ -أو سَجْلًا مِن ماءٍ-؛ فإنَّما بُعِثتُم مُيَسِّرينَ ولَم تُبعَثوا مُعَسِّرينَ. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ صيغةَ الأمرِ تَوجَّهَت إلى صَبِّ الذَّنوبِ، والقَدرُ الذي يَغمُرُ النَّجاسةَ واجِبٌ في إزالَتِها، فتَناوُلُ الصِّيغةِ له استِعمالٌ للَّفظِ في حَقيقَتِه، وهو الوُجوبُ. والزَّائِدُ على ذلك القَدرِ مُستَحَبٌّ، فتَناوُلُ الصِّيغةِ له استِعمالٌ لها في النَّدبِ، وهو مَجازٌ فيه. فقدِ استُعمِلَت صيغةُ الأمرِ في حَقيقَتِها ومَجازِها، وهذا بناءً على زيادةِ الذَّنوبِ على القَدرِ الواجِبِ [341] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (3/683)، ((البحر المحيط)) للزركشي (2/406). .
2- أنَّه لا تَدافُعَ بَينَ الإرادَتَينِ اللَّتَينِ تَتَناولانِ اللَّفظَ بوضعِ الحَقيقةِ والمَجازِ؛ فجازَ اجتِماعُهما؛ ليكونَ اللَّفظُ مُتَناوِلًا لهما جَميعًا.
يُبَيِّنُ صِحَّةَ هَذا: أنَّ قَولَ اللهِ تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [النساء: 92] مُتَناوِلٌ للرَّقَبةِ الحَقيقيَّةِ ولغَيرِها مِنَ الأعضاءِ على طَريقِ المَجازِ. وكذلك قَولُ القائِلِ: اشتَرَيتُ كَذا وكَذا رَأسًا مِنَ الغَنَمِ؛ فيَتَناولُ الرَّأسَ الذي هو العُضوُ المَخصوصُ، وسائِرُ الأعضاءِ.
ويُبَيِّنُ صِحَّةَ هَذا: اشتِهارُ قَولِهم: (ما لَنا طَعامٌ إلَّا الأسودانِ) أي: التَّمرُ والماءُ، وهو حَقيقةٌ في أحَدِهما، مَجازٌ في الآخَرِ [342] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (2/704). .
وقيلَ: لا يَجوزُ استِعمالُ اللَّفظِ في حَقيقَتِه ومَجازِه مَعًا مُطلَقًا. وهو مَذهَبُ جُمهورِ الحَنَفيَّةِ [343] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (1/76)، ((أصول السرخسي)) (1/173). ، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ [344] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (2/400). ، وحَكاه الجُوَينيُّ عنِ الباقِلَّانيِّ [345] يُنظر: ((البرهان)) (1/121). ، وصَحَّحه الأبياريُّ [346] يُنظر: ((التحقيق والبيان)) (1/912). .
وقيلَ: غَيرُ ذلك [347] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (2/403). .

انظر أيضا: