موسوعة أصول الفقه

المسألةُ الثَّانيةُ: أسماءُ المندوبِ


الأسماءُ التي ورَدَت للمَندوبِ عِندَ الأُصوليِّينَ مُتَعَدِّدةٌ؛ مِنها: السُّنَّةُ، والنَّفلُ، والتَّطَوُّعُ، والمُستَحَبُّ، والأَولى، والمُرَغَّبُ فيه، والفضيلةُ، والإحسانُ [399] يُنظر: ((الفوائد السنية)) للبرماوي (1/227)، ((التحبير)) للمرداوي (2/980)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (1/403). .
والعَلاقةُ بينَ هذه الأسماء التَّرادُفُ، فكُلُّها تُطلَقُ على المَندوبِ، ولا فرقَ بينَها؛ فقَدِ اختَلَفتِ الألفاظُ، والمَعنى واحِدٌ. وهو قَولُ جُمهورِ الأُصوليِّينَ [400] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/354)، ((البحر المحيط)) للزركشي (1/377). .
ويَدُلُّ على ذلك: أنَّه إذا كان حَقيقةُ السُّنَّةِ هي ما وُضِعَ ليُحتَذى به على سَبيلِ الاستِحبابِ، فالتَّطَوُّعُ والمَندوبُ إليه والمُستَحَبُّ واحِدٌ في المَعنى؛ لأنَّ الجَميعَ وُضِعَ بالشَّرعِ لتُحتَذى على سَبيلِ الاستِحبابِ، راتِبًا كان في وقتٍ أو غيرَ راتِبٍ.
وإذا كان الشَّرعُ قَد وَضَعَ الجَميعَ إمَّا بلَفظٍ عامٍّ أو بلَفظٍ خاصٍّ، كقَولِ اللهِ تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ‌خَيْرًا ‌يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7-8] ، وقَولِه تعالى: ‌وَافْعَلُوا ‌الْخَيْرَ [الحج: 77] ، فوجب التَّسويةُ بينَ الجَميعِ في إطلاقِ الاسمِ [401] يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (1/288). .
وقيلَ: العَلاقةُ بينَها التَّبايُنُ؛ فليست هذه الأسماءُ مُتَرادِفةً، واختَلَف القائِلونَ به في وَجهِ التَّفريقِ بينَ هذه الأسماءِ على وُجوهٍ مُتَعَدِّدةٍ، يُمكِنُ حَصرُها في الاتِّجاهاتِ التَّاليةِ:
الاتِّجاهُ الأوَّلُ: أنَّ هذه الأسماءَ لا تُطلَقُ على المَندوبِ، ولا تَدُلُّ عليه، ولا يُطلَقُ على المَندوبِ إلَّا لَفظُ السُّنَّةِ. [402] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (1/377)، ((التحبير)) للمرداوي (2/985). .
وقد سُئِلَ الشِّيرازيُّ عن قَولِ الفُقَهاءِ: "إنَّه سُنَّةٌ وفضيلةٌ ونَفلٌ وهَيئةٌ"، فقال: (هذه عامِّيَّةٌ في الفِقهِ، وما يَجوزُ أن يُقالَ إلَّا فَرضٌ وسُنَّةٌ لا غيرُ). وسُئِلَ أبو العَبَّاسِ الجُرجانيُّ، فقال: (هذه ألقابٌ لا أصلَ لَها، ولا نَعرِفُها في الشَّرعِ) [403] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (1/379)، ((التحبير)) للمرداوي (2/984). .
الاتِّجاهُ الثَّاني: أنَّ السُّنَّةَ: ما فعَلَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. والمُستَحَبُّ: ما أمَرَ به، سَواءٌ فَعَله أو لَم يَفعَلْه، أو فَعَله ولَم يُداوِمْ عليه. وقال بهذا بَعضُ الشَّافِعيَّةِ [404] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (1/378)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (1/228). .
الاتِّجاهُ الثَّالِثُ: أنَّ السُّنَّةَ: ما استُحِبَّ فِعلُه وكُره تَركُه. والتَّطَوُّعُ: ما استُحِبَّ فِعلُه ولَم يُكرَهْ تَركُه. وبه قال الحَليميُّ مِنَ الشَّافِعيَّةِ [405] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (1/378). .
الاتِّجاهُ الرَّابعُ: أنَّ المَندوباتِ على قِسمَينِ:
الأوَّلُ: الهيئةُ: وهي ما يَتَهيَّأُ بها فِعلُ العِبادةِ.
الثَّاني: السُّنَّةُ: ما كانت في أفعالِها الرَّاتِبةِ فيها.
وهذا التَّقسيمُ لأبي حامِدٍ الإسْفَرايِينيِّ مِنَ الشَّافِعيَّةِ؛ ولذلك جَعَلَ التَّسميةَ وغَسلَ الكفَّينِ في الوُضوءِ مِنَ الهيئاتِ، وذَكرَ أنَّ الصَّلاةَ فيها سُنَّةٌ وهيئةٌ، وجَعَلَ مِن هيئاتِها رَفعَ اليَدينِ [406] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (1/379). .
وهَكذا عِندَ الشَّافِعيَّةِ في بابِ الصَّلاةِ تَنقَسِمُ السُّنَنُ إلى نَوعينِ: أبعاضٌ، وهيئاتٌ؛ فالأبعاضُ يُجبَرُ تَركُها بسُجودِ السَّهوِ، أمَّا الهيئاتُ فلا يُطالَبُ تارِكُها بسُجودِ السَّهوِ [407] يُنظر: ((الفوائد السنية)) للبرماوي (1/228). .
الاتِّجاهُ الخامِسُ: أنَّ المَندوبَ ثَلاثةُ أقسامٍ:
الأوَّلُ: ما ارتَفعَت رُتبَتُه في الأمرِ، وبالَغَ الشَّرعُ في التَّخصيصِ مِنه، وعَظَّمَ أجرَه، وهذا يُسَمَّى سُنَّةً.
الثَّاني: ما كان في أوَّلِ هذه المَراتِبِ، وهو ما يَقِلُّ أجرُه، وهذا يُسَمَّى نافِلةً وتَطَوُّعًا.
الثَّالثُ: ما يَتَوسَّطُ في الأجرِ بينَ هَذينِ، وهذا يُسَمَّى فضيلةً ومُرَغَّبًا فيه.
وهذا التَّقسيمُ قال به المالكيَّةُ [408] يُنظر: ((إيضاح المحصول)) للمازري (ص: 241)، ((تقريب الوصول)) لابن جزي (ص: 170). ، والحنابِلةُ [409] يُنظر: ((التحبير)) للمرداوي (2/980)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (1/404). .
الاتِّجاهُ السَّادِسُ: أنَّ المَندوبَ ثَلاثةُ أقسامٍ
الأوَّلُ: سُنَّةٌ: وهي ما واظَبَ عليها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
الثَّاني: مُستَحَبٌّ: وهو ما فعَلَه مَرَّةً أو مَرَّتينِ، وألحَقَ بَعضُ الأُصوليِّينَ به ما أمَرَ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولَم يُنقَلْ أنَّه فعَلَه.
الثَّالثُ: تَطَوُّعٌ: وهو ما لَم يَرِدْ فيه بخُصوصِه نَقلٌ، بَل يَفعَلُه الإنسانُ ابتِداءً، كالنَّوافِلِ المُطلَقةِ.
وهذا التَّقسيمُ لبَعضِ الشَّافِعيَّةِ، كالقاضي حُسينٍ، والبَغَويِّ [410] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (1/378)، ((حاشية الشيخ زكريا الأنصاري)) (1/236). .
الاتِّجاهُ السَّابعُ: وهو اتِّجاهُ الحَنَفيَّةِ فالأقسامُ عِندَهم على النَّحوِ التَّالي:
القسمُ الأوَّلُ: السُّنَّةُ: وهي ما كان فِعلُه أَولى مِن تَركِه، مَعَ عَدَمِ المَنعِ مِنَ التَّركِ، وكان طَريقةً مسلوكةً في الدِّينِ [411] يُنظر: ((التوضيح)) لصدر الشريعة (2/247). .
والسُّنَّةُ عِندَ الحَنَفيَّةِ على مَرتَبَتينِ:
المَرتَبةُ الأولى: سُنَّةُ الهَديِ، وهي ما واظَبَ عليها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن غيرِ افتِراضٍ ولا وُجوبٍ، وكان فِعلُه مُكمِّلًا ومُتَمِّمًا للواجِباتِ الدِّينيَّةِ.
والإضافةُ هنا بيانيَّةٌ، أي سُنَّةٌ هي هَديٌ. ومِثالُها: الأذانُ، والإقامةُ، وصَلاةُ الجَماعةِ، والسُّنَنُ المُؤَكَّدةُ.
حُكمُها: مَن أتى بها يَستَحِقُّ الثَّوابَ، وتَركُها يوجِبُ إساءةً، ولَكِنْ لا يُعاقَبُ بتَركِها؛ لأنَّها ليست بفريضةٍ، ولا واجِبةٍ. لَكِن لا يَنبَغي تَركُها للجَميعِ.
المَرتَبةُ الثَّانيةُ: سُنَّةُ الزَّوائِدِ، وهي ما فعَلَه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ الأُمورِ العاديَّةِ التي صَدَرَت مِنه باعتِبارِه بَشَرًا، ولَم يَكُنْ لَها صِلةٌ بالتَّبليغِ عن رَبِّه، وبيانِ شَرعِه. ومِثالُها: سائِرُ أفعالِه مِنَ المَشيِ والقيامِ والقُعودِ واللُّبسِ والأكلِ.
حُكمُها: مَن فعَلَها يَستَحِقُّ الثَّوابَ إذا قَصَدَ به الاقتِداءَ برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا يُطالَبُ العَبدُ بإقامَتِها، ولا يَأثَمُ بتَركِها، ولا يَصيرُ مُسيئًا، ولَكِنَّ الأفضَلَ للمُكَلَّفِ أن يَأتيَ بها؛ ولذلك قالوا: أخذُها حَسَنٌ، وتَركُها لا بَأسَ به. أي: لا يَتَعَلَّقُ به كراهةٌ ولا إساءةٌ [412] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (2/310)، ((التوضيح)) لصدر الشريعة (2/249)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (2/149). .
القسمُ الثَّاني: النَّفلُ: وهو ما كان فِعلُه أَولى مِن تَركِه، مَعَ عَدَمِ المَنعِ مِنَ التَّركِ، ولَم يَكُنْ طَريقةً مسلوكةً في الدِّينِ. فهو المَشروعُ زيادةً على الفرائِضِ والواجِباتِ والسُّنَنِ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَم يواظِبْ عليه.
فالنَّوافِلُ مِنَ العِباداتِ زَوائِدُ مَشروعةٌ لَنا لا علينا، والتَّطَوُّعاتُ كذلك؛ فإنَّ التَّطَوُّعَ: اسمٌ لِما يَتَبَرَّعُ به المَرءُ مِن عِندِه، ويَكونُ مُحسِنًا في ذلك، ولا يَكونُ مَلومًا على تَركِه، فهو والنَّفلُ سَواءٌ. مِثالُه: صَلاةُ رَكعَتينِ أو أربَعِ رَكعاتٍ مِن غيرِ الفرضِ والسُّنَّةِ المُؤَكَّدةِ.
حُكمُه: يُثابُ المُكلَّفُ على فِعلِه، ولا يُعاقَبُ على تَركِه؛ لأنَّ النَّوافِلَ جُعِلَت زيادةً لَه لا عليه، بخِلافِ السُّنَّةِ؛ فإنَّها طَريقةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فمِن حيثُ كان سَبيلُها الإحياءَ كانت حَقًّا علينا، فعُوتِبنا على تَركِها.
وهذا حُكمُ النَّفلِ ابتِداءً قَبلَ الشُّروعِ، أمَّا بَعدَ الشُّروعِ فالنَّافِلةُ تَصيرُ فرضًا بالشُّروعِ فيها عِندَ الحَنَفيَّةِ؛ فلَو أفسَدَها المُكلَّفُ يَجِبُ عليه القَضاءُ، ويُعاقَبُ على تَركِها بَعدَ أن لَم يَكُنْ كذلك قَبلَ الشُّروعِ فيها [413] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/115)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (2/311). .
نَوعُ الخِلافِ في المَسألةِ:
عِندَ التَّحقيقِ في الخِلافِ الوارِدِ في المَسألةِ نَجِدُ أنَّه خِلافٌ لَفظيٌّ، أي: يَعودُ إلى اللَّفظِ والتَّسميةِ؛ لأنَّ الجَميعَ مُتَّفِقونَ على أنَّ ما طَلَبَه الشَّارِعُ طَلَبًا غيرَ جازِمٍ فهو مَندوبٌ، وأنَّ بَعضَ المَندوباتِ آكَدُ مِنَ البَعضِ الآخَرِ بحَسبِ الدَّلالةِ الدَّالَّةِ على طَلَبِها. ومِمَّن نَصَّ على أنَّ الخِلافَ في المَسألةِ لَفظيٌّ: ابنُ السُّبكيِّ [414] يُنظر: ((جمع الجوامع)) (ص: 14). ، وزكَريَّا الأنصاريُّ [415] يُنظر: ((غاية الوصول)) (ص: 11). .

انظر أيضا: