موسوعة أصول الفقه

الفرعُ الثَّالِثُ: أقسامُ التَّأويلِ


التَّأويلُ في نَفسِه يَنقَسِمُ إلى أربَعةِ أقسامٍ:
1- التَّأويلُ القَريبُ. 2- التَّأويلُ المُتَوسِّطُ. 3- التَّأويلُ البَعيدُ. 4- التَّأويلُ المُتَعَذِّرُ [410] يُنظر: ((تفسير النصوص)) للصالح (1/389). .
وبمَعرِفةِ هذه الأقسامِ يَتَبَيَّنُ ما هو مَقبولٌ مِنَ التَّأويلِ مِمَّا هو مَردودٌ [411] يُنظر: ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (2/35). .
القِسمُ الأوَّلُ: التَّأويلُ القَريبُ، أي: قَريبٌ مِنَ الفهمِ، فيَتَرَجَّحُ بأدنى مُرَجِّحٍ.
وهو ما احتَمَلَه اللَّفظُ احتمالًا قَويًّا، فأمكَنَ مَعرِفتُه بقَليلٍ مِنَ التَّأمُّلِ اعتِمادًا على أدنى دَليلٍ [412] يُنظر: ((تأويل النصوص)) للذوادي (ص: 206). .
أي: أنَّ هذا التَّأويلَ يَقرُبُ فيه الاحتِمالُ، ويَضعُفُ فيه الظُّهورُ، حتَّى إنَّه لا يَفتَقِرُ إلى دَليلٍ قَويٍّ، بَل يَكفي فيه الدَّليلُ القَريبُ، وغالِبًا ما يُعرَفُ بمُجَرَّدِ التَّأمُّلِ [413] يُنظر: ((تأويل النصوص)) للذوادي (ص: 210). .
قال الغَزاليُّ: (الاحتِمالُ تارةً يَقرُبُ، وتارةً يَبعُدُ؛ فإن قَرُب كَفى في إثباتِه دَليلٌ قَريبٌ، وإن لَم يَكُنْ بالِغًا في القوَّةِ) [414] ((المستصفى)) (ص: 196). .
مِثالُه: قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة: 6] .
فالظَّاهرُ اللُّغَويُّ للنَّصِّ يُفيدُ وُجوبَ الوُضوءِ بَعدَ القيامِ إلى الصَّلاةِ، وهذا يَتَعارَضُ مَعَ كَونِ الوُضوءِ شَرطًا في صِحَّةِ الصَّلاةِ يُقدَّمُ عليها، فلا يَستَقيمُ المَعنى إلَّا بتَأويلِ لفظِ القيامِ في قَولِ اللهِ تعالى: إِذَا قُمْتُمْ، فيُصرَفُ مِن مَعناه الحَقيقيِّ إلى مَعنًى مَجازيٍّ مُحتَمَلٍ، وهو العَزمُ على القيامِ لا القيامُ نَفسُه، ويُصبِحُ المَعنى: إذا أرَدتُمُ القيامَ إلى الصَّلاةِ، أو عَزَمتُم على القيامِ إلى الصَّلاةِ [415] يُنظر: ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (3/462)، ((تفسير النصوص)) للصالح (1/390)، ((تأويل النصوص)) للذوادي (ص: 207). .
القِسمُ الثَّاني: التَّأويلُ المُتَوسِّطُ: وهو ما كان الاحتِمالُ فيه بَينَ دَرَجَتَيِ القوَّةِ والضَّعفِ، أوِ القُربِ والبُعدِ، ويَكفي في تَرجيحِه الدَّليلُ المُناسِبُ له في الدَّرَجةِ [416] يُنظر: ((تأويل النصوص)) للذوادي (ص: 207). .
قال ابنُ قُدامةَ: (الاحتِمالُ يَقرُبُ تارةً، ويَبعُدُ أُخرى، وقد يَكونُ الاحتِمالُ بَعيدًا جدًّا فيَحتاجُ إلى دَليلٍ في غايةِ القوَّةِ، وقد يَكونُ قَريبًا فيَكفيه أدنى دَليلٍ، وقد يَتَوسَّطُ بَينَ الدَّرَجَتَينِ، فيَحتاجُ دَليلًا مُتَوسِّطًا) [417] ((روضة الناظر)) (1/508). .
فتوسُّطُ التَّأويلِ إذًا مَنوطٌ بتَوسُّطِ الاحتِمالِ الذي يَكفي فيه الدَّليلُ المُتَوسِّطُ في القوَّةِ [418] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (3/54)، ((تأويل النصوص)) للذوادي (ص: 207). .
ويُمكِنُ التَّمثيلُ له بالمَسائِلِ التي يُصرَفُ فيها اللَّفظُ عن ظاهرِه، ولا يَكونُ الاحتِمالُ فيه قَويًّا قوَّتَه في التَّأويلِ القَريبِ، ولا ضَعيفًا ضَعْفَه في التَّأويلِ البَعيدِ.
ومِن أمثِلةِ ذلك: قَولُ اللهِ تعالى: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الحج: 36] .
فقدِ اختَلَف الفُقَهاءُ في حُكمِ الأكلِ مِن هَديِ التَّطَوُّعِ، على مَذهَبَينِ:
المَذهَبُ الأوَّلُ: وهو مَذهَبُ الجُمهورِ؛ حَيثُ قالوا: إنَّ الأكلَ مِنَ الهَديِ ليس بواجِبٍ، بَل هو مَندوبٌ، والأمرُ الوارِدُ في قَولِ اللهِ تعالى: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا مَصروفٌ مِنَ الوُجوبِ إلى النَّدبِ، والقَرينةُ الصَّارِفةُ هيَ أنَّ الآيةَ قد جاءَت مُبطِلةً لِما كان عليه العَرَبُ في جاهليَّتِهم؛ حَيثُ إنَّهم كانوا لا يَأكُلونَ مِنَ النُّسُكِ، فأذِنَ اللهُ سُبحانَه في الأكلِ، ونَدَبَ إليه؛ لِما فيه مِن مُخالَفتِهم [419] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (3/1360)، ((تأويل النصوص)) للذوادي (ص: 211). .
قال النَّوويُّ: (أجمَعَ العُلَماءُ على أنَّ الأكلَ مِن هَديِ التَّطَوُّعِ وأضحِيَّتِه سُنَّةٌ ليس بواجِبٍ) [420] ((شرح مسلم)) (8/192). .
والمَذهَبُ الثَّاني: هو مَذهَبُ ابنِ حَزمٍ؛ فقد ذَهَبَ إلى أنَّ الأكلَ واجِبٌ؛ لأنَّه مَأمورٌ به في الآيةِ، والأمرُ يَقتَضي الوُجوبَ، ولا صارِفَ له [421] يُنظر: ((المحلى)) (5/312). ؛ لأنَّ نَقلَ الأمرِ عنِ الوُجوبِ إلى النَّدبِ لا مَدخَلَ للعَقلِ فيه، وإنَّما يُؤخَذُ مِن نَصٍّ آخَرَ أو إجماعٍ فقَط [422] يُنظر: ((الإحكام)) (3/140). .
القِسمُ الثَّالِثُ: التَّأويلُ البَعيدُ، أي: بَعيدٌ عنِ الفهمِ، فيَحتاجُ إلى دَليلٍ أقوى ليَتَرَجَّحَ به الاحتِمالُ، ولا يَتَرَجَّحُ بما ليس بقَويٍّ.
ويُمكِنُ تَعريفُه بأنَّه ما ضَعُف فيه الاحتِمالُ، وغَلَبَ فيه المَعنى الرَّاجِحُ، واحتاجَ إلى دَليلٍ غايةٍ في القوَّةِ، ولَم يُعرَفْ إلَّا بمَزيدٍ مِنَ التَّأمُّلِ [423] يُنظر: ((تأويل النصوص)) للذوادي (ص: 214). .
قال الغَزاليُّ: (الاحتِمالُ تارةً يَقرُبُ، وتارةً يَبعُدُ... وإن كان بَعيدًا افتَقَرَ إلى دَليلٍ قَويٍّ يَجبُرُ بُعدَه؛ حتَّى يَكونَ رُكوبُ ذلك الاحتِمالِ البَعيدِ أغلَبَ على الظَّنِّ مِن مُخالَفةِ ذلك الدَّليلِ) [424] ((المستصفى)) (ص: 196). .
وقال ابنُ قُدامةَ: (قد يَكونُ الاحتِمالُ بَعيدًا جِدًّا، فيَحتاجُ إلى دَليلٍ في غايةِ القوَّةِ) [425] ((روضة الناظر)) (1/508). .
مِثالُه: ما ذَهَبَ إليه بَعضُهم بوُجوبِ مَسحِ الرِّجلَينِ في الوُضوءِ لا غَسلِهما في قَولِ اللهِ تعالى: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة: 6] ، واحتَجُّوا بقِراءةِ الجَرِّ وَأْرَجُلِكُمْ عَطفًا على رُؤُوسِكُمْ وهيَ قِراءةٌ صحيحةٌ.
ورَدَّ الجُمهورُ هذا التَّأويلَ البَعيدَ؛ لِما ثَبَتَ في الصِّحاحِ مِن مُداومةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على غَسلِ الرِّجلَينِ، ولَم يَثبُتِ المَسحُ عنه مِن وَجهٍ صحيحٍ، وأمرَ بالغَسلِ في أحاديثَ كَثيرةٍ، وثَبَتَت به آثارٌ عنِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، وقِراءةُ النَّصبِ وَأْرجُلَكُم صَريحةٌ في عَطفِ الأرجُلِ على الأيدي، وغَير ذلك مِنَ الأدِلَّةِ [426] يُنظر: ((تفسير النصوص)) للصالح (1/391)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (2/106). قال ابنُ كَثيرٍ: (جاءَت هذه القِراءةُ بالخَفضِ إمَّا على المُجاوَرةِ وتَناسُبِ الكَلامِ، كما في قَولِ العَرَبِ: "جُحرُ ضَبٍّ خَرِبٍ"، وكقَولِه تعالى: عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٍ وَإِسْتَبْرَقٌ [الإنسان: 21] ، وهذا سائِغٌ ذائِعٌ، في لُغةِ العَرَبِ شائِعٌ. ومِنهم مَن قال: هيَ مَحمولةٌ على مَسحِ القدَمَينِ إذا كان عليهما الخُفَّانِ، قاله أبو عَبدِ اللَّهِ الشَّافِعيُّ رَحِمَه اللهُ. ومِنهم مَن قال: هيَ دالَّةٌ على مَسحِ الرِّجلَينِ، ولَكِنَّ المُرادَ بذلك الغَسلُ الخَفيفُ، كما ورَدَت به السُّنَّةُ. وعلى كُلِّ تَقديرٍ فالواجِبُ غَسلُ الرِّجلَينِ فَرضًا). ((تفسير ابن كثير)) (3/ 53). .
القِسمُ الرَّابِعُ: التَّأويلُ المُتَعَذِّرُ: وهو ما لا يَحتَمِلُه اللَّفظُ أصلًا، فلا يُدَلُّ عليه بأيِّ نَوعٍ مِن أنواعِ الدَّلالةِ، فيَكونُ مَردودًا لا مقبولًا [427] يُنظر: ((تأويل النصوص) للذوادي (ص: 221). .
مِثالُه: تَأويلُ الباطِنيَّةِ قَولَ اللهِ تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [النساء: 23] بأنَّ المُرادَ بالأُمَّهاتِ: العُلَماءُ، وتَحرُمُ مُخالَفتُهم وانتِهاكُ حُرمَتِهم [428] يُنظر: ((تأويل النصوص) للذوادي (ص: 222). !

انظر أيضا: