المَطلَبُ السَّادِسُ: نُصوصٌ اختُلِف في كَونِها مُجمَلةً
ورَدَت بَعضُ النُّصوصِ الشَّرعيَّةِ ادُّعيَ فيها الإجمالُ، وهيَ لَيسَت كذلك عِندَ الجُمهورِ، منها ما يَلي:
النَّصُّ الأوَّلُ: قَولُ اللهِ تعالى:
وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة: 6] .
وقدِ اختَلَف الأُصوليُّونَ في كَونِ هذه الآيةِ مُجمَلةً أو لا:
والرَّاجِحُ: أنَّه ليس في الآيةِ إجمالٌ. وهو قَولُ جُمهورِ الأُصوليِّينَ
[480] يُنظر: ((القواعد والفوائد الأصولية)) (ص: 195)، ((الغيث الهامع)) لأبي زرعة العراقي (ص: 354). .
قال ابنُ اللَّحَّامِ: (الذي عليه المُحَقِّقونَ مِنَ الأُصوليِّينَ مِن أصحابِنا وغَيرِهم أنَّ الآيةَ غَيرُ مُجمَلةٍ)
[481] ((القواعد والفوائد الأصولية)) (ص: 195). .
لَكِنَّهمُ اختَلَفوا في مَدلولِ الباءِ على ثَلاثةِ أقوالٍ:
الأوَّلُ: أنَّها للإلصاقِ باعتِبارِ أصلِ وَضعِها، أي: إلصاقِ المَسحِ بالرَّأسِ، فمَن يَمسَحُ بَعضَ الرَّأسِ ومَن يَستَوعِبُه بالمَسحِ كِلاهما مُلصِقٌ للمَسحِ برَأسِه. وعلى ذلك فالآيةُ تُفيدُ القَدْرَ المُشتَرَكَ بَينَ الكُلِّ والبَعضِ؛ لأنَّ لَفظَ المَسحِ مُستَعمَلٌ في مَسحِ الكُلِّ بالِاتِّفاقِ، وفي مَسحِ البَعضِ، كما يُقالُ: (مَسَحتُ يَدي بالمِنديلِ)، و(مَسَحتُ يَدي برَأسِ اليَتيمِ)، وإن كان إنَّما مَسحَها ببَعضِ الرَّأسِ، والأصلُ عَدَمُ الاشتِراكِ، فوجَبَ جَعلُه حَقيقةً في القَدرِ المُشتَرَكِ بَينَ مَسحِ الكُلِّ ومَسحِ البَعضِ فقَط، وذلك هو مُماسَّةُ جُزءٍ مِنَ اليَدِ جُزءًا مِنَ الرَّأسِ؛ فثَبَتَ أنَّ اللَّفظَ ما دَلَّ إلَّا عليه، فكان الآتي به عاملًا باللَّفظِ، وحينَئِذٍ لا يَتَحَقَّقُ الإجمالُ، ويَكفي في العَمَلِ به مَسحُ أقَلِّ جُزءٍ مِنَ الرَّأسِ.
وهذا القَولُ حَكاه الرَّازيُّ، والآمِديُّ، والهنديُّ عنِ الشَّافِعيِّ، واختارَه جَماعةٌ مِنَ الأُصوليِّينَ
[482] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (2/567)، ((المحصول)) للرازي (3/165)، ((الإحكام)) للآمدي (3/14)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (5/1821)، ((دراسات لأسلوب القرآن الكريم)) لمحمد عضيمة (2/4). .
الثَّاني: أنَّ الباءَ للِاستِعانةِ. وهذا القَولُ اختارَه الزَّركَشيُّ، فالفِعلُ (مَسح) يَتَعَدَّى إلى المُزالِ عنه بنَفسِه، وإلى المُزيلِ بالباءِ، فيَكونُ التَّقديرُ: فامسَحوا أيديَكُم برؤوسِكم، وهو قَولُ بَعضِ الأُصوليِّينَ
[483] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/43)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 104)، ((البرهان)) للزركشي (4/257)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (2/ 200). قال ابن هشام ((مغني اللبيب)) (ص: 143): (وقيلَ: هيَ في آيةِ الوُضوءِ للِاستِعانةِ، وإنَّ في الكَلامِ حَذفًا وقَلبًا؛ فإنَّ مَسَح يَتَعَدَّى إلى المُزالِ عنه بنَفسِه، وإلى المُزيلِ بالباء، فالأصلُ: امسَحوا رؤوسَكم بالماءِ). .
الثَّالِثُ: أنَّها للتَّبعيضِ. أي: أنَّها تَأتي بمَعنى (مِن)، وهو قَولُ الشَّافِعيَّةِ
[484] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 237)، ((البرهان)) لإمام الحرمين (1/49)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (5/1821). .
وقيلَ: إنَّ الآيةَ مِن قَبيلِ المُجمَلِ الذي يَتَوقَّفُ بَيانُه على التَّفسيرِ؛ لأنَّها تَحتَمِلُ مَسحَ جَميعِ الرَّأسِ، وتَحتَمِلُ مَسحَ بَعضِه، وليس في النَّصِّ قَرينةٌ تُرَجِّحُ أحَدَ الاحتِمالَينِ على الآخَرِ، ثُمَّ ورَدَ البَيانُ مِنَ السُّنَّةِ. وهو قَولُ أكثَرِ الحَنَفيَّةِ
[485] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (1/83)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (1/167)، ((فواتح الرحموت)) للأنصاري (2/42). .
النَّصُّ الثَّاني: قَولُ اللهِ تعالى:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [النساء: 23] .
وقدِ اختَلَف الأُصوليُّونَ في كَونِ هذه الآيةِ مُجمَلةً أو لا:
والرَّاجِحُ: أنَّه لا إجمالَ فيها، بَل هيَ مُبَيَّنةٌ، وهذا يُقالُ في كُلِّ تَحريمٍ أو تَحليلٍ يُضافُ إلى الأعيانِ. وهو مَذهَبُ جُمهورِ الأُصوليِّينَ
[486] يُنظر: ((إيضاح المحصول)) للمازري (ص: 232). ، مِنهمُ الشِّيرازيُّ
[487] يُنظر: ((التبصرة)) (ص: 201). ، وإمامُ الحَرَمَينِ
[488] يُنظر: ((التلخيص)) (1/206). ، والغَزاليُّ
[489] يُنظر: ((المستصفى)) (ص187). ، وصَحَّحه السَّمعانيُّ
[490] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) (1/292). .
قال التِّلِمسانيُّ: (المُحَقِّقونَ يَرَونَ أنَّه ليس بمُجمَلٍ)
[491] ((مفتاح الوصول)) (ص: 462). .
واستَدَلُّوا على ذلك بأنَّ الأعيانَ لا تَتَّصِفُ بالتَّحريمِ، وإنَّما يَحرُمُ فِعلُ ما يَتَعَلَّقُ بالعَينِ، فالتَّحريُم إذا أُطلِقَ في مِثلِ هذا فُهِمَ منه تَحريمُ الأفعالِ في اللُّغةِ، والدَّليلُ على ذلك أنَّه لَمَّا أباحَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الانتِفاعَ بإهابِ المَيتةِ، قيلَ له: إنَّها مَيتةٌ، فقال:
((إنَّما حَرَّمَ أكلَها)) [492] أخرجه البخاري (1492)، ومسلم (363) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، ولَفظُ البخاريِّ: عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: وجَدَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شاةً مَيتةً أُعطِيَتها مَولاةٌ لمَيمونةَ مِنَ الصَّدَقةِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هَلَّا انتَفعتُم بجِلدِها! قالوا: إنَّها مَيتةٌ، قال: إنَّما حَرُمَ أكلُها. ، فدَلَّ على أنَّهم فَهِموا مِن تَحريمِ المَيتةِ تَحريمَ الانتِفاعِ بها، ويَدُلُّ على ذلك أنَّ رجلًا لَو قال لغَيرِه: أبَحتُ لَك طَعامي، أو حَرَّمتُ عليك طَعامي. فَهِم المُخاطَبُ منه تَحريمَ الانتِفاعِ به والتَّصَرُّفِ فيه، وما فُهمَ المُرادُ مِن لَفظِه في اللُّغةِ لَم يَكُنْ مُجمَلًا كَسائِرِ الظَّواهرِ
[493] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 201)، ((المستصفى)) للغزالي (ص: 187)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (5/1814)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (4/1267). .
وقيلَ: إنَّ في الآيةِ إجمالًا، فلا يَجوزُ الاحتِجاجُ بها. وهو مَذهَبُ بَعضِ الحَنَفيَّةِ
[494] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/195)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (2/106)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (1/166). ، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ
[495] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 201)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/292). .