موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الثَّانيةُ: البَيانُ بالمَفهومِ


المُرادُ بالمَفهومِ هنا ما يُقابِلُ المَنطوقَ مِنَ الدَّلالاتِ، ومَعنى دَلالةِ المَفهومِ: ما دَلَّ عليه اللَّفظُ، لا في مَحَلِّ النُّطقِ، بَل في مَحَلِّ السُّكوتِ، أي: أنَّه يَكونُ حُكمًا لغَيرِ المَذكورِ وحالًا مِن أحوالِه [560] يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (1/329)، ((البيان بالترك)) لمحمود عبد الرحمن (ص: 50). .
والبَيانُ بمَفهومِ القَولِ: قد يَكونُ تَنبيهًا، أي: بالدَّلالةِ والتَّنبيهِ على الحُكمِ مِن غَيرِ نَصٍّ، ومِن أمثِلَتِه:
1- قَولُ اللهِ تعالى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء: 23] ، فيَدُلُّ على أنَّ الضَّربَ أَولى بالمَنعِ [561] يُنظر: ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (1/316)، ((اللمع)) للشيرازي (ص: 53)، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (1/329). .
2- قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لفاطِمةَ بنتِ أبي حُبَيشٍ في دَمِ الاستِحاضةِ: ((إنَّما ذلِكِ عِرقٌ وليس بالحَيضةِ)) [562] أخرجه البخاري (306)، ومسلم (333) من حديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. ، فدَلَّ على وُجوبِ اعتِبار خُروجِ دَمِ العِرقِ في نَقضِ الطَّهارةِ [563] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (2/37)، ((العدة)) لأبي يعلى (1/125). .
وقد يَكونُ البَيانُ بالمَفهومِ دليلًا، ومِثالُه: عن أنَسِ بنِ مالِكٍ: أنَّ أبا بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه كَتَبَ له هذا الكِتابَ لمَّا وجَّهَه إلى البَحرينِ: بسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ، هذه فريضةُ الصَّدَقةِ التي فرَضَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على المُسلِمينَ، والتي أمَرَ اللهُ بها رَسولَه ... إلى أن قال: ((وفي صَدَقةِ الغَنَمِ في سائِمَتِها إذا كانت أربَعينَ إلى عِشرينَ ومِائةٍ: شاةٌ)) [564] أخرجه البخاري (1454). .
فقَولُه: ((في سائِمَتِها)) دَليلٌ على أنَّه لا زَكاةَ في المَعلوفةِ، وهذا بَيانٌ بالمَفهومِ لا بالمَنطوقِ [565] يُنظر: ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (1/322)، ((اللمع)) للشيرازي (ص: 53). .
الدَّليلُ على جَوازِ البَيانِ بالمَفهومِ:
عن يَعلى بن أُمَيَّةَ، قال: قُلتُ لعُمَرَ بنِ الخَطَّابِ: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء: 101] فقد أمِنَ النَّاسُ؟ فقال: عَجِبتُ مِمَّا عَجِبتَ مِنه، فسَألتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: ((صَدَقةٌ تَصَدَّق اللهُ بها عليكُم؛ فاقبَلوا صَدَقَتَه)) [566] أخرجه مسلم (686). .
فتَعَجُّبُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه وسُؤالُه رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنِ الآيةِ إنَّما هو مِن ناحيةِ الاستِدلالِ بالمَفهومِ.
وعنِ الأعمَشِ، قال: سَمِعتُ أبا وائِلٍ يُحَدِّثُ عن عَبدِ اللَّهِ، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كَلِمةً، وقُلتُ أُخرى، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن ماتَ وهو يَجعَلُ للَّهِ نِدًّا دَخَلَ النَّارَ)) قال عَبدُ اللَّهِ: وأنا أقولُ: مَن ماتَ وهو لا يَجعَلُ للهِ نِدًّا أدخَلَه اللَّهُ الجَنَّةَ [567] أخرجه البخاري (6683) باختِلافٍ يَسيرٍ، ولَفظُه: عنِ الأعمَشِ، عن شَقيقٍ، عن عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كَلِمةً، وقُلتُ أُخرى: مَن ماتَ يَجعَلُ للهِ نِدًّا أُدخِلَ النَّارَ، وقُلتُ أُخرى: مَن ماتَ لا يَجعَلُ للهِ نِدًّا أُدخِلَ الجَنَّةَ. .
ولَم يَقُلْ عَبدُ اللَّهِ بنُ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه هذا إلَّا مِن ناحيةِ الاستِدلالِ بالمَفهومِ.
وهذا إذا كان الحُكمُ مُعَلَّقًا على صِفةٍ في جِنسٍ، فأمَّا إذا عُلِّقَ الحُكمُ على مُجَرَّدِ الاسمِ، مِثلُ أن تَقولَ: في الغَنَمِ زَكاةٌ؛ فإنَّ ذلك لا يَدُلُّ على نَفي الزَّكاةِ عَمَّا عَدا الغَنَمَ [568] يُنظر: ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (1/323). .
وقيلَ: إنَّ دَليلَ الخِطابِ لا يَدُلُّ على أنَّ ما عَداه بخِلافِه؛ ولذلك لا يَجوزُ البَيانُ به [569] يُنظر: ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (1/322). .

انظر أيضا: