موسوعة أصول الفقه

الفرعُ السَّابِعُ: هَل يَجِبُ كَونُ المُبَيَّنِ كالمُبَيِّنِ في القوَّةِ؟


البَيانُ: إمَّا أن يَكونَ أقوى مِنَ المُبَيَّنِ، أو مُساويًا له، أو أضعَفَ منه في الدَّلالةِ، ولا خِلافَ في جَوازِ البَيانِ بالأقوى.
وإنَّما اختَلَف الأُصوليُّونَ في أنَّه هَل يَجوزُ أن يَكونَ البَيانُ مُساويًا للمُبَيَّنِ، أو يَكونَ أدنى مِنه؛ أو لا بُدَّ أن يَكونَ أقوى مِنه [654] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) (2/685)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (3/1259). ؟
والرَّاجِحُ: أنَّ البَيانَ لا يَجِبُ أن يَكونَ كالمُبيَّنِ في القوَّةِ، بَل يَجوزُ البَيانُ بالأدنى، فيُقبَلُ المَظنونُ في بَيانِ المَعلومِ، كما يَجوزُ البَيانُ بالمُساوي وبالأقوى مُطلَقًا، أي: سَواءٌ كان بَيانًا لمُجمَلٍ أو لغَيرِه، وهو مَذهَبُ جُمهورِ الأُصوليِّينَ [655] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (2/288)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (5/1889)، ((البحر المحيط)) للزركشي (5/103)، ((شرح مختصر أصول الفقه)) للجراعي (3/64)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (3/450)، ((فواتح الرحموت)) للأنصاري (2/57). ، واختارَه ابنُ قُدامةَ [656] يُنظر: ((روضة الناظر)) (1/533). ، وصَفيُّ الدِّينِ الهِنديُّ [657] يُنظر: ((نهاية الوصول)) (5/1890). ، والطُّوفيُّ [658] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) (2/685). .
الأدِلَّةُ:
1- الوُقوعُ؛ فإنَّ كَثيرًا مِن مجمَلاتِ القُرآنِ مُبَيَّنٌ بالمَظنونِ، نَحوُ قَولِ اللهِ تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام: 141] ؛ فإنَّه مُبَيَّنٌ بقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((فيما سَقَتِ السَّماءُ والعُيونُ أو كان عَثَريًّا العُشرُ، وما سُقيَ بالنَّضحِ نِصفُ العُشرِ)) [659] أخرجه البخاري (1483) عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما. ، وقَبِلوا حَديثَ المُغيرةِ في المَسحِ [660] عنِ المُغيرةِ بنِ شُعبةَ، أنَّه كان مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سَفرٍ، وأنَّه ذَهَبَ لحاجةٍ له، وأنَّ مُغيرةَ جَعَلَ يَصُبُّ الماءَ عليه وهو يَتَوضَّأُ، فغَسَلَ وجهَه ويَدَيه، ومَسَحَ برَأسِه، ومَسَحَ على الخُفَّينِ. أخرجه البخاري (182) واللَّفظُ له، ومسلم (274). في بَيانِ قَولِ اللهِ تعالى: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة: 6] ، وكَذا الأخبارُ التي ورَدَت في صِفةِ الصَّلاةِ؛ فإنَّها أخبارُ آحادٍ، وقَبِلَتِ الأُمَّةُ ذلك [661] يُنظر: ((روضة الناظر)) (1/533)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (5/1891)، ((شرح الكب المنير)) لابن النجار (3/125). .
2- أنَّه يَجوزُ تَخصيصُ مَقطوعِ المَتنِ -نَحوُ القُرآنِ والسُّنَّةِ المُتَواتِرةِ- وتَقييدُه بمَظنونِ المَتنِ -كخَبَر الواحِدِ والقياسِ- مَعَ ما بَينَهما مِنَ المُنافاةِ، فلأن يَجوزَ بَيانُ المَقطوعِ بالمَظنونِ مَعَ عَدَمِ المُنافاةِ بطَريقِ الأَولى [662] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (3/184)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (5/1891). .
3- أنَّ المُبَيِّنَ أوضَحُ مِنَ المُبَيَّنِ في الدَّلالةِ على المُرادِ، فوجَبَ العَمَلُ بالواضِحِ وإن كان أدنى مِنَ المُبَيَّنِ أو مُساويًا له، أي أنَّ الإتيانَ بما يوضِّحُ المُجمَلَ وإن كان أضعَفَ منه مِن حَيثُ الثُّبوتُ؛ لرُجحانِه بوُضوحِ دَلالَتِه [663] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (3/1260). .
وقيلَ: يَجِبُ أن يَكونَ المُبَيِّنُ أقوى دَلالةً مِنَ المُبَيَّنِ، فلا يَجوزُ بالأدنى ولا بالمُساوي مُطلَقًا، أي: سَواءٌ كان بَيانًا لمُجمَلٍ أو لغَيرِه، وهو قَولُ ابنِ الحاجِبِ [664] يُنظر: ((مختصر منتهى السول والأمل)) (2/888). .
وقيلَ: إن كان المُبَيَّنُ لَفظًا مَعلومًا وجَبَ أن يَكونَ بَيانُه مِثلَه أو مُساويًا له، ولا يَجوزُ أن يَكونَ المُبَيِّنُ أدنى مِنَ المُبَيَّنِ. وهو قَولُ الكَرخيِّ [665] يُنظر: ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري (1/313). .
وقيلَ بالتَّفصيلِ، وهو أنَّه إن كان بَيانًا لمُجمَلٍ، فيَجوزُ أن يَكونَ أقوى أو مُساويًا أو أدنى مِنَ المُبَيَّنِ، وإن كان بَيانًا لعامٍّ بأن خَصَّصَه، أو بَيانًا لمُطلَقٍ بأن قَيَّدَه، فيَجِبُ أن يَكونَ المُبَيِّنُ أقوى مِنَ المُبَيَّنِ، وهو العامُّ والمُطلَقُ، فلا بُدَّ أن يَكونَ المُخَصِّصُ والمُقَيِّدُ في دَلالَتِه أقوى مِن دَلالةِ العامِّ على صورةِ التَّخصيصِ، ومِن دَلالةِ المُقَيَّدِ على صورةِ التَّقييدِ؛ لأنَّه إن كان مُساويًا لَزِمَ الوقفُ، وإن كان مَرجوحًا امتَنَعَ تَقديمُه على الرَّاجِحِ. وهو قَولُ الآمِديِّ [666] يُنظر: ((الإحكام)) (3/31). .

انظر أيضا: