موسوعة أصول الفقه

الفرعُ السَّادِسُ: حُكمُ تَأخيرِ البَيانِ عن وقتِ الخِطابِ إلى وقتِ الحاجةِ


الخِطابُ المُحتاجُ إلى البَيانِ ضَربانِ:
1- ما له ظاهِرٌ قدِ استُعمِلَ في خِلافِه.
2- ما لا ظاهِرَ له، كالأسماءِ المُتَواطِئةِ والمُشتَرَكةِ.
والأوَّلُ أقسامٌ: أحَدُها: تَأخيرُ بَيانِ التَّخصيصِ. وثانيها: تَأخيرُ بَيانِ النَّسخِ. وثالِثُها: تَأخيرُ بَيانِ الأسماءِ الشَّرعيَّةِ. ورابِعُها: تَأخيرُ بَيانِ اسمِ النَّكِرةِ إذ أرادَ به شَيئًا مُعَيَّنًا.
وقدِ اختَلَف الأُصوليُّونَ في هذه الأقسامِ؛ فمِنهم مَن أجازَها مُطلَقًا، ومِنهم مَن مَنَعَ منها مُطلَقًا، ومِنهم مَن فصَّلَ بَينَ هذه الأقسامِ [625] يُنظر: ((بذل النظر)) للأسمندي (ص: 291)، ((المحصول)) للرازي (3/187)، ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (2/6)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/108)، ((الآراء الشاذة في أصول الفقه)) لعبد العزيز النملة (2/827). .
مِثالُ هذه المَسألةِ: أن يَقولَ اللهُ تعالى مَثَلًا في شَهرِ رَمَضانَ: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 5] .
فوقتُ الخِطابِ هو رَمَضانُ، ووَقتُ الحاجةِ هو أوَّلُ صَفَرٍ، فهَل يَجوزُ تَأخيرُ البَيانِ مِن رَمَضانَ إلى أوَّلِ صَفَرٍ، أو لا يَجوزُ تَأخيرُه؟ فيه الخِلافُ [626] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (4/356). .
وقدِ اختَلَف الأُصوليُّونَ في هذه المَسألةِ، وفيما يَلي بَيانُ مَنهَجِهم ومَنهَجِ الحَنَفيَّةِ فيها:
أوَّلًا: مَنهَجُ الجُمهورِ: اختَلَفوا على أقوالٍ:
والرَّاجِحُ: أنَّه يَجوزُ تَأخيرُ البَيانِ عن وقتِ الخِطابِ مُطلَقًا. وهو مَنقولٌ عن مالِكٍ [627] يُنظر: ((المقدمة)) لابن القصار (ص: 118)، ((إحكام الفصول)) للباجي (1/309). ، ورِوايةٌ عن أحمَدَ [628] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (3/725)، ((الواضح)) لابن عقيل (4/87). ، وهو قَولُ أكثَرِ المالِكيَّةِ [629] يُنظر: ((إحكام الفصول)) للباجي (1/309)، ((إيضاح المحصول)) للمازري (ص: 142)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (4/354). ، وجُمهورِ الشَّافِعيَّةِ [630] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (3/32)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (5/1597). ، وأكثَرِ الحَنابِلةِ [631] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (2/290)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1026)، ((التحبير)) للمرداوي (6/2820). .
قال الشَّوكانيُّ بَعدَ ذِكرِ المَذاهِبِ في المَسألةِ: (... وأنت إذا تَتَبَّعتَ مَوارِدَ هذه الشَّريعةِ المُطَهَّرةِ وجَدتَها قاضيةً بجَوازِ تَأخيرِ البَيانِ عن وقتِ الخِطابِ قَضاءً ظاهرًا واضحًا لا يُنكِرُه مَن له أدنى خِبرةٍ بها ومُمارَسةٍ لها، وليس على هذه المَذاهبِ المُخالِفةِ لِما قاله المُجَوِّزونَ أثارةٌ مِن عِلمٍ) [632] ((إرشاد الفحول)) (2/30). .
الأدِلَّةُ:
1- قَولُ اللهِ تعالى: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة: 18-19] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللَّهَ تعالى أمَر النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَتَّبِعَ قُرآنَه ويَسمَعَه، وأخبَرَ أن يُبَيِّنَه فيما بَعدُ؛ لأنَّ ثُمَّ تَقتَضي مُهلةً وفصلًا، فدَلَّ ذلك على أنَّ التَّفصيلَ والبَيانَ يَجوزُ أن يَتَأخَّرَ عنِ الخِطابِ [633] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (3/726)، ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 208)، ((الواضح)) لابن عقيل (4/89)، ((جامع الأسرار)) للكاكي (3/821). .
2- أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعَثَ مُعاذَ بنَ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنه إلى اليَمَنِ، فقال له: ((إنَّك سَتَأتي قَومًا أهلَ كِتابٍ، فإذا جِئتَهم فادعُهم إلى أن يَشهَدوا أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللهِ، فإنْ هم أطاعوا لَك بذلك فأخبِرْهم أنَّ اللَّهَ قد فرَضَ عليهم خَمسَ صَلَواتٍ في كُلِّ يَومٍ ولَيلةٍ، فإن هم أطاعوا لَك بذلك فأخبِرْهم أنَّ اللَّهَ قد فرَضَ عليهم صَدَقةً تُؤخَذُ مِن أغنيائِهم فتُرَدُّ على فُقَرائِهم، فإن هم أطاعوا لَك بذلك فإيَّاكَ وكَرائِمَ أموالِهم، واتَّقِ دَعوةَ المَظلومِ؛ فإنَّه ليس بَينَه وبَينَ اللهِ حِجابٌ)) [634] أخرجه البخاري (1496) واللفظ له، ومسلم (19) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ مُعاذَ بنَ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنه أعلَمهم بذلك، ثُمَّ كان بَيانُ شَرائِعِ الزَّكاةِ ووُجوهِها يَقَعُ لهم على مِقدارِ الحاجةِ؛ فإنَّه أخَّرَ بَيانَ الزَّكاةِ إلى الوَقتِ الذي أخَذَها مِنهم فيه [635] يُنظر: ((المقدمة)) لابن القصار (ص: 120)، ((أدب القاضي)) للماوردي (1/297)، ((الإشارة)) للباجي (ص: 273). .
3- أنَّ النَّسخَ تَخصيصٌ للأزمانِ، كما أنَّ التَّخصيصَ تَخصيصٌ للأعيانِ، وتَأخيرُ بَيانِ النَّسخِ عن وقتِ الخِطابِ إلى وقتِ الحاجةِ جائِزٌ، فكذلك تَأخيرُ بَيانِ التَّخصيصِ يَجوزُ عن وقتِ الخِطابِ إلى وقتِ الحاجةِ [636] يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (1/474)، ((الوصول)) لابن برهان (1/125). .
وقيلَ: لا يَجوزُ التَّأخيرُ مُطلَقًا. وهو رِوايةٌ عن أحمَدَ [637] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (3/726)، ((الواضح)) لابن عقيل (4/87). ، وهو قَولُ بَعضِ المالِكيَّةِ [638] يُنظر: ((إحكام الفصول)) للباجي (1/309)، ((إيضاح المحصول)) للمازري (ص: 143). ، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ [639] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 207)، ((التلخيص)) لإمام الحرمين (2/210). ، وبَعضِ الحَنابِلةِ [640] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (3/725)، ((التمهيد)) للكلوذاني (2/291)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1026). ، واختارَه الصَّيرَفيُّ، وأبو حامِدٍ المَروَزيُّ، وأبو إسحاقَ المَرْوَزيُّ [641] يُنظر: ((مختصر منتهى السول والأمل)) لابن الحاجب (2/890)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (5/1894)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (5/1606). .
وقيلَ: يَجوزُ تَأخيرُ بَيانِ المُجمَلِ، ولا يَجوزُ التَّأخيرُ في العُمومِ المَخصوصِ، والمُطلَقِ المَنسوخِ، واسمِ النَّكِرةِ. وهو قَولُ بَعضِ الشَّافِعيَّةِ [642] يُنظر: ((التبصرة)) (ص: 207)، ((شرح اللمع)) كلاهما للشيرازي (1/473)، ((التلخيص)) لإمام الحرمين (2/210). ، وبَعضِ الحَنابِلةِ [643] يُنظر: ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 179). ، واختارَه الكَرخيُّ مِنَ الحَنَفيَّةِ [644] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (2/48)، ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 364)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/109). .
وقيلَ: يَجوزُ تَأخيرُ بَيانِ العُمومِ، ولا يَجوزُ تَأخيرُ بَيانِ المُجمَلِ. وهو قَولُ بَعضِ الشَّافِعيَّةِ [645] يُنظر: ((أدب القاضي)) للماوردي (1/297)، ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 208). .
وقيلَ: غَيرُ ذلك [646] يُنظر: ((المعتمد)) (1/315). .
ثانيًا: مَنهَجُ الحَنَفيَّةِ في المَسألةِ
سَبَقَ أنَّ البَيانَ يَنقَسِمُ عِندَ جُمهورِ الحَنَفيَّةِ إلى خَمسةِ أقسامٍ [647] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (2/28)، ((كشف الأسرار)) للنسفي (2/112)، ((الكافي)) للسغناقي (3/1426)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/108)، ((جامع الأسرار)) للكاكي (3/819)، ((فصول البدائع)) للفناري (2/112)، ((الوجيز)) للكراماستي (ص: 55)، ((شرح سمت الوصول)) للأقحصاري (ص: 241). :
بَيانُ التَّقريرِ، والتَّفسيرُ، والتَّغييرُ، والتَّبديلُ، والضَّرورةُ.
وقدِ اتَّفقَ الحَنَفيَّةُ على جَوازِ تَأخيرِ البَيانِ إلى وقتِ الحاجةِ في بَيانِ التَّقريرِ والتَّفسيرِ، فيَصِحُّ موصولًا ومفصولًا.
كما أجازَ الحَنَفيَّةُ تَأخيرَ بَيانِ التَّبديلِ، وهو النَّسخُ.
أمَّا بَيانُ التَّغييرِ فهو تَأخيرُ تَخصيصِ العامِّ وتَقييدِ المُطلَقِ، فلا يَجوزُ عِندَهم؛ لأنَّ شَرطَ التَّخصيصِ والتَّقييدِ عِندَهمُ المُقارَنةُ، وإلَّا كان نَسخًا.
وكَذا تَأخيرُ بَيانِ الأسماءِ الشَّرعيَّةِ إذا استُعمِلَت في غَيرِ المُسَمَّياتِ الشَّرعيَّةِ لا يَجوزُ تَأخيرُ بَيانِها قياسًا على عَدَمِ جَوازِ تَأخيرِ التَّخصيصِ والتَّقييدِ؛ لأنَّ الأسماءَ الشَّرعيَّةَ مِن قِسمِ الظَّاهِرِ، ولا يَجوزُ تَأخيرُ بَيانِ كُلِّ ظاهرٍ عِندَهم؛ لئَلَّا يَلزَمَ العَمَلُ بخِلافِ المُرادِ.
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:
تَظهَرُ ثَمَرةُ الخِلافِ في هذه المَسألةِ في بَعضِ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، ومِنها:
1- أنَّ الفقيهَ إذا عَثَرَ على عُمومٍ في القُرآنِ، ثُمَّ عَثَرَ على خَبَرٍ يَرفعُ بَعضَ ذلك العُمومِ، وعَلِم أنَّ تاريخَ الخَبَرِ مُتَراخٍ عن نُزولِ الآيةِ؛ فإنَّه إنِ اعتَقدَ إحالةَ تَأخيرِ البَيانِ قَضى بكَونِ الخَبَرِ نَسخًا، فلَم يَأخُذْ به إلَّا أن يَكونَ مُتَواتِرًا؛ إذِ النَّسخُ لا يَكونُ بأخبارِ الآحادِ، على ما ذَهَبَ إليه الجُمهورُ [648] ونَسَب الشِّنقيطيُّ القَولَ بعَدَمِ جَوازِ نَسخِ المُتَواتِرِ بأخبارِ الآحادِ إلى جُمهورِ الأُصوليِّينَ. يُنظر: ((مذكرة في أصول الفقه)) (ص: 102). .
وإن أجازَ تَأخيرَ البَيانِ قَضى بكَونِه مُخَصِّصًا، فأخَذَ به إن كان مِمَّن يَخُصُّ بالآحادِ. وهذا كما يَأخُذُ الشَّافِعيُّ بقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن قَتَل قتيلًا له عليه بَيِّنةٌ، فلَه سَلَبُه [649] السَّلَبُ: هو ما يوجَدُ مَعَ المُحارِبِ مِن مَلبوسٍ وغَيرِه. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (6/ 247). ) [650] أخرجه البخاري (3142)، ومسلم (1751) من حديثِ أبي قتادةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ؛ فإنَّ أهلَ الحَديثِ نَقَلوا أنَّه كان في غَزوةِ حُنَينٍ، وأنَّ الآيةَ -وهيَ قَولُ اللهِ تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الأنفال: 41] - قَبلَ ذلك في غَزوةِ بَدرٍ.
وكما يَأخُذُ أيضًا بقَولِه: إنَّ عِدَّةَ الحامِلِ بوضعِ الحَملِ، سَواءٌ أكانت مُتَوفًّى عنها، أم مُطَلَّقةً؛ لحَديثِ سُبَيعةَ الأسلَميَّةِ، وأنَّها حَلَّت بوضعِ الحَملِ مِن عِدَّةِ الوفاةِ [651] عن عُبَيدِ اللهِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُتبةَ بنِ مَسعودٍ، أنَّ أباه كَتَبَ إلى عُمَرَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ الأرقَمِ الزُّهريِّ، يَأمُرُه أن يَدخُلَ على سُبَيعةَ بنتِ الحارِثِ الأسلَميَّةِ، فيَسألَها عن حَديثِها، وعَمَّا قال لها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حينَ استَفتَته، فكَتَبَ عُمَرُ بنُ عبدِ اللهِ إلى عَبدِ اللهِ بنِ عُتبةَ يُخبِرُه أنَّ سُبَيعةَ أخبَرَته: أنَّها كانت تَحتَ سَعدِ بنِ خَولةَ، وهو في بَني عامِرِ بنِ لُؤَيٍّ، وكان مِمَّن شَهدَ بَدرًا، فتوُفِّيَ عنها في حَجَّةِ الوداعِ وهيَ حامِلٌ، فلَم تَنشَبْ أن وضَعَت حَملَها بَعدَ وفاتِه، فلَمَّا تَعَلَّت مِن نِفاسِها تَجَمَّلَت للخُطَّابِ، فدَخَلَ عليها أبو السَّنابِلِ بنُ بَعكَكٍ، رَجُلٌ مِن بَني عَبدِ الدَّارِ، فقال لها: ما لي أراكِ مُتَجَمِّلةً؟! لَعَلَّكِ تَرجينَ النِّكاحَ، إنَّكِ –واللهِ- ما أنتِ بناكِحٍ حتَّى تَمُرَّ عليكِ أربَعةُ أشهرٍ وعَشرٌ، قالت سُبَيعةُ: فلَمَّا قال لي ذلك جَمَعتُ عليَّ ثيابي حينَ أمسَيتُ، فأتَيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فسَألتُه عن ذلك، فأفتاني بأنِّي قد حَلَلتُ حينَ وضَعتُ حَملي، وأمَرَني بالتَّزَوُّجِ إن بَدا لي. أخرجه البخاري معلَّقًا بصيغة الجَزم (3991)، وأخرجه موصولًا مُسلِم (1484) واللَّفظُ له. مَعَ قَولِ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة: 234] ؛ فإنَّه عامٌّ في الأزواجِ الحَوامِلِ وغَيرِهنَّ. ولَكِنَّ حَديثَ سُبَيعةَ مُبَيِّنٍ ومُعتَضدٍ أيضًا بعُمومٍ آخَرَ، وهو قَولُ اللهِ تعالى: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: 4] ؛ إذ يَشمَلُ المُتَوفَّى عنها والمُطَلَّقةَ.
قال تاجُ الدِّينِ السُّبكيُّ: (فإذا وضَحَ لَك أنَّ الحَقَّ جَوازُ تَأخيرِ البَيانِ، وتَخصيصِ المَقطوعِ بالمَظنونِ، وضَحَ أنَّ عِدَّةَ الحامِلِ بوضعِ الحَملِ لا بأربَعةِ أشهُرٍ وعشرٍ، ولا بأقصى الأجَلَينِ كما ذَهَبَ إليه بَعضُ العُلَماءِ. ولَك أن تَقولَ: لَيسَت مَسألةُ العِدَّةِ مِمَّا نَحنُ فيه؛ لاعتِضادِ الحَديثِ بالقُرآنِ، ونَحنُ نَقولُ: إنَّما ذَكَرناها لقُربِها مِمَّا نَحنُ فيه، فيَظهَرُ بها ما أورَدنا. والأمثِلةُ كَثيرةٌ، فانظُرْ فيما هذا شَأنُه، واعرِفْ تاريخَه، ثُمَّ انظُرْ هَل أنتِ مُتَطَلِّبٌ نَسخًا فلا يَكونُ إلَّا بقاطِعٍ، أو تَخصيصًا فيُكتَفى بالظُّنونِ. وبهذا يُعلَمُ أنَّ لمَعرِفةِ التَّواريخِ فائِدةً عَظيمةً، وأنَّه يَتَرَتَّبُ عليه مِنَ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ ما يَكثُرُ تَعدادُه) [652] ((رفع الحاجب)) (3/437). .
2- لَو قال: واللَّهِ لَأفعَلَنَّ شَيئًا، أو لا أفعَلُ شَيئًا. فلا يُمكِنُ حَملُ اليَمينِ على جَميعِ الأشياءِ؛ لخُروجِه عنِ القُدرةِ والعُرفِ، فوجَبَ حَملُه على بَعضِها.
فإن كان قد عَيَّنَ شَيئًا بالنِّيَّةِ وقتَ يَمينِه تَعيَّنَ، وإلَّا فيَعيَّنُ بَعدَ اليَمينِ ما شاءَ، كما إذا طَلَّقَ إحدى نِسائِه.
ثُمَّ إن كان الحَلِفُ بالطَّلاقِ أوِ العَتاقِ أُلزِمَ بالتَّعيينِ؛ لتَعَلُّقِ حَقِّ الآدَميِّ، وإن كان باللهِ تعالى عَيَّنَ مَتَّى شاءَ، ولا حِنثَ فيما قَبلَ التَّعيينِ، وإذا عَيَّنَ شيئًا صارَ هو المُرادَ باليَمينِ، سَواءٌ حَلَف على إثباتِه، كرُكوبِ السَّيَّارةِ مثلًا، أو على نَفيِه، كعَدَمِ رُكوبِها، ويَتَعَلَّقُ البِرُّ والحِنثُ بما يَفعَلُه بَعدَ التَّعيينِ إن لَم يَكُنْ قد فعَلَه قَبلَه، فإن كان قد فعَلَه ففي حُصولِ الحِنثِ والبِرِّ به وجهانِ مَبنيَّانِ على أنَّ الطَّلاقَ المُبهَمَ إذا عَيَّنَه هَل يَقَعُ مِن حينِ التَّعيينِ أوِ الإيقاعِ [653] يُنظر: ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 431)، ((شرح ذريعة الوصول)) للزبيدي (ص: 457). .

انظر أيضا: