موسوعة الآداب الشرعية

ثالثًا: البُعدُ عنِ التَّكَسُّبِ بالقُرآنِ


مِن آدابِ حامِل القُرآنِ: أن يَحذَرَ كُلَّ الحَذَرِ مِنِ اتِّخاذِ القُرآنِ مَعيشةً يَكتَسِبُ بها [1962] أمَّا أخذُ الأُجرةِ على تعليمِ القُرآنِ، فقد اختَلَف العُلَماءُ فيه، والصَّحيحُ هو الجوازُ. جاء في فتاوى اللَّجنةِ الدَّائمةِ (المجموعة الأولى) (4/ 130): (يجوزُ أخذُ الأجرِ على تعليمِ القرآنِ في أصَحِّ قَولَيِ العُلَماءِ؛ لعُمومِ قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إنَّ أحَقَّ ما أخذتُم عليه أجرًا كتابُ اللهِ» رواه البخاري [(5737)]، ولمسيسِ الحاجةِ إلى ذلك). وقال ابنُ بازٍ: (لا حَرَجَ في أخذِ الأجرةِ على تعليمِ القرآنِ وتعليمِ العِلمِ؛ لأنَّ النَّاسَ في حاجةٍ إلى التَّعليمِ، ولأنَّ المعلِّمَ قد يشُقُّ عليه ذلك، ويُعَطِّلُه التَّعليمُ عن الكَسبِ، فإذا أخَذ أجرةً على تعليمِ القرآنِ وتحفيظِه وتعليمِ العِلمِ، فالصَّحيحُ أنَّه لا حَرَجَ في ذلك، وقد ثبَت عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ جماعةً من الصَّحابةِ نَزَلوا ببعضِ العَرَبِ فلُدِغَ سَيِّدُهم -يعني رئيسَهم- وأنَّهم عالجوه بكلِّ شيءٍ، ولم ينفَعْه ذلك، وطلبوا منهم أن يَرقوه، فتقدَّم أحدُ الصَّحابةِ فرقاه بفاتحةِ الكتابِ، فشفاه اللهُ وعافاه، وكانوا قد اشترطوا عليهم قطيعًا من الغَنَمِ، فأوفَوا لهم بشَرطِهم، فتوقَّفوا عن قَسمِه بَينَهم حتَّى سألوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «أحسَنتُم، واضرِبوا لي معكم بسَهمٍ»، رواه البخاريُّ في صحيحِه [(5749)، ولفظُه: "أصَبتُم، اقسِموا واضرِبوا لي معكم بسَهمٍ"]، ولم يُنكِرْ عليهم ذلك، وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إنَّ أحَقَّ ما أخذتُم عليه أجرًا كتابُ اللهِ» رواه البخاريُّ في الصَّحيحِ أيضًا [(5737)]، فهذا يدُلُّ على أنَّه لا بأسَ بأخذِ الأجرةِ على التَّعليمِ، كما جاز أخذُها على الرُّقيةِ). ((مجموع فتاوى ابن باز)) (5/ 364). وقال ابنُ عُثَيمين في حديثِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، عن رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: «إنَّ أحقَّ ما أخذتُم عليه أجرًا كِتابُ اللهِ» [البخاري (5737)]، قال: (الأخذُ على كتابِ اللهِ له ثلاثُ صُوَرٍ: الصُّورةُ الأولى: أن يأخُذَ أجرًا على التِّلاوةِ. الصُّورةُ الثَّانيةُ: أن يأخُذَ أجرًا على تعليمِ القرآنِ. الصُّورةُ الثَّالثةُ: أن يأخُذَ أجرًا على الاستشفاءِ به، هذه ثلاثُ صُوَرٍ، فأيُّها المرادُ؟ نقولُ: إنَّ السُّنَّةَ دلَّت على أنَّ المرادَ بذلك صورتانِ: الصُّورةُ الأولى: التعليمُ، والثَّانيةُ: الاستِشفاءُ، أمَّا مجرَّدُ التِّلاوةِ فإنَّ الأدِلَّةَ تدُلُّ على تحريمِ ذلك، مثالُ التِّلاوةِ: ما يصنَعُه بعضُ النَّاسِ الآنَ من أنَّه إذا مات الميِّتُ أتَوا بقارئٍ يقرأُ القرآنَ، يقولون: إنَّه لرُوحِ الميِّتِ، وهذا العَمَلُ حرامٌ؛ لأنه لا يجوزُ أخذُ الأجرةِ على مجرَّدِ القراءةِ، وهو كذلك بدعةٌ؛ لأنَّ السَّلَفَ لم يكونوا يفعلونه، فهو حرامٌ من جهةِ أخذِ الأجرةِ على القراءةِ، ومِن جهةِ كَونِه بِدعةً؛ ولهذا يُعتَبَرُ صَرفُ المالِ لهذا العَمَلِ إضاعةً للمالِ، ولا يجوزُ لأحَدٍ أن يفعلَ ذلك، فإن قال: المالُ لي بَعدَ انتقالِه من الميِّتِ، قُلنا: نَعَم هو لك، لكن أضَعْتَه، وإضاعةُ المالِ حرامٌ، فكيف إذا كان في الورَثةِ صِغارٌ، وأُخِذ هذا من نصيبِهم، يكونُ أشَدَّ وأشَدَّ، ثم َّإنَّ الميِّتَ لن ينتَفِعَ بهذه القراءةِ، حتَّى على القَولِ بأنَّ الميِّتَ إذا قُرِئَ له شيءٌ ينفَعُه، فإنَّ في هذا لا ينتَفعُ به، لماذا؟ القارئُ ليس له أجرٌ، ووصولُ الأجرِ إلى الميِّتِ فَرعٌ عن ثبوتِ الأجرِ للقارئِ، والقارئُ هنا لا أجرَ له؛ لأنَّه أراد بعِلمِ الآخرةِ الدُّنيا، وكُلُّ عَمَلٍ للآخرةِ فإنَّه لا يجوزُ أن يُجعَلَ للدُّنيا؛ لقولِ اللهِ تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود: 15، 16]. إذَنْ هذه الصُّورةُ حرامٌ بدليلِ الآيةِ التي سُقْتُها لكم. الصُّورةُ الثَّانيةُ: أن يأخُذَ على القرآنِ أجرًا على تعليمِه، يقول: أنا أعلِّمُك كلَّ سورةٍ بكذا، فهذا على القَولِ الرَّاجِحِ جائزٌ؛ لدُخولِه في عمومِ قوله: "إنَّ أحَقَّ ما أخذتُم عليه أجرًا كتابُ اللهِ" [البخاري (5737)]، ولأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال للرَّجُلِ الذي طلَبَ منه أن يُزَوِّجَه المرأةَ التي وَهَبَت نفسَها للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال له: «التَمِسْ ولو خاتمًا من حديدٍ» فقال: لا أجِدُ شيئًا، فقال: «أمعك شيءٌ من القرآنِ؟» قال: نعم، سورةُ كذا وكذا، فعَلمها، فقال: «قد زوَّجتُكما بما معك من القرآنِ» [البخاري (5135)]، فجعل تعليمَه لها مهرًا، والمهرُ لا يكونُ إلَّا مالًا؛ لقَولِه تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ [النساء: 24]، وإذا كان مالًا صَحَّ عَقدُ الأجرةِ عليه، إذَنْ فتعليمُ القرآنِ يجوزُ أخذُ الأجرةِ عليه حتَّى مع المعاقَدةِ، بأن يقولَ: لا أُعَلِّمُك إلَّا بكذا، أمَّا المكافأةُ على التَّعليمِ فلا شَكَّ في جوازِها. الصُّورةُ الثَّالثةُ: الاستِشفاءُ به، بأن يكونَ مَريضٌ يَذهَبُ إلى قارئٍ يقرأُ عليه من أجلِ أن يَبرَأَ من مَرَضِه، فهذا أيضًا جائزٌ؛ لأنَّ هذا العِوَضَ في مقابلةِ قراءتِه التي يرادُ بها الاستشفاءُ، فهي عِوَضٌ عن أمرٍ دُنيويٍّ، وهو شفاءُ هذا المريضِ، هذا من حيثُ التَّعليلُ، أمَّا من حيثُ الدَّليلُ فقد ثبت في صحيحِ البخاريِّ من حديثِ أبي سعيدٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه كان في سَفَرٍ ومعه جماعةٌ، فنزلوا على قومٍ من العَرَبِ ليلًا فاستضافوهم، ولكنَّهم لم يُضيفوهم، فتنحَّى أبو سعيدٍ ومن معه ناحيةً، فأذِنَ اللهُ عزَّ وجَلَّ أن يُلدَغَ رئيسُ القومِ الذين مَنَعوا الضِّيافةَ، لَدغَته عَقرَبٌ، فعَمِلوا كلَّ عَمَلٍ لعَلَّ الألمَ يَسكُنُ عنه، ولكنَّه لم يجِدْ شيئًا، فقالوا: اذهَبوا إلى هؤلاء النَّفَرِ لعلَّ فيهم من يقرأُ، فجاؤوا إلى النَّفَرِ من الصَّحابةِ، قالوا: إنَّ سَيِّدَهم لُدِغَ، فهل عندَكم مِن راقٍ؟ يعني: مِن قارئٍ، قالوا: نعم، فذهب أبو سعيدٍ رَضِيَ اللهُ عنه إلى هذا الرَّجُلِ، فقرأ عليه، فجعلوا لهم قطيعًا من الغنَمِ، فلمَّا أخذوه وأرادوا أن يقتَسِموه، قال أبو سعيدٍ: لا نقتَسِمُه حتى نسألَ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال ذلك من بابِ الاحتياطِ، فلمَّا قَدِموا أخبروا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: «أصَبتُم، خُذوا واقتَسِموا واضرِبوا لي مَعَكم سَهمًا» [ينظر: البخاري (5749) (5736) ومسلم (2201)]. وضَحِك صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فهذا دليلٌ على جوازِ أخذِ الأجرةِ على قراءةِ القرآنِ للاستشفاءِ، هذا هو حاصِلُ هذا الحديثِ. إذَنْ "إنَّ أحَقَّ ما أخذتُم عليه أجرًا كتابُ اللهِ" يكون هذا مخصوصًا بالصُّورتينِ الأخيرَتَينِ: التَّعليمِ والاستِشفاءِ). ((فتح ذي الجلال والإكرام)) (4/ 255).   .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
1-عن عَبدِ الرَّحمنِ بنِ شِبلٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((اقرؤوا القُرآنَ، ولا تَغلوا فيه، ولا تَجفوا عنه، ولا تَأكُلوا به، ولا تَستَكثِروا به)) [1963] أخرجه أحمد (15529)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (2383) واللفظ لهما، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (2574) باختلافٍ يسيرٍ. صحَّحه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1168)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (15529)، وقوَّى سنَدَه ابن حجر في ((فتح الباري)) (8/718). .
قال العَينيُّ: («لا تَغْلوا» مِنَ الغُلوِّ، وهو التَّشَدُّدُ والمُجاوزةُ عنِ الحَدِّ. قَولُه: «ولا تَجْفوا» أي: تَعاهَدوه ولا تُبعِدوا عن تِلاوتِه، وهو مِنَ الجَفاءِ، وهو البُعدُ عنِ الشَّيءِ. قَولُه: «ولا تَأكُلوا به» أي: بمُقابَلةِ القُرآنِ، أرادَ: لا تَجعَلوا له عِوضًا مِن سُحتِ الدُّنيا) [1964] ((عمدة القاري)) (21/ 264)، ((نخب الأفكار)) (16/ 362). .
وقال المُناويُّ: («ولا تَستَكثِروا به»: أي: لا تَجعَلوه سَبَبًا للإكثارِ مِنَ الدُّنيا) [1965] ((فيض القدير)) (2/ 64). .
2- عن عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رَضيَ اللهُ عنه، أنَّه مَرَّ على قارِئٍ يَقرَأُ ثُمَّ سَألَ، فاستَرجَعَ [1966] استَرجَعَ: أي: قال: إنَّا للهِ وإنَّا إليه راجِعونَ. يُنظر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (1/ 237)، ((المجموع المغيث)) لأبي موسى المديني (1/ 740). ،ثُمَّ قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((مَن قَرَأ القُرآنَ فليَسألِ اللَّهَ به؛ فإنَّه سيَجيءُ أقوامٌ يقرؤون القُرآنَ يَسألونَ به النَّاسَ)) [1967] أخرجه الترمذي (2917) واللَّفظُ له، وأحمد (19944). حَسَّنه الترمذيُّ، والألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (2917)، وحَسَّنه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (19944). .
3- عن سَهلِ بنِ سَعدٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((فيكُم كِتابُ اللهِ يَتَعَلَّمُه الأسوَدُ والأحمَرُ والأبيَضُ. تَعَلَّموه قَبلَ أن يَأتيَ زَمانٌ يَتَعَلَّمُه أُناسٌ ولا يُجاوِزُ تراقِيَهم، ويُقَوِّمونَه كَما يُقَوَّمُ السَّهمُ، فيَتَعَجَّلونَ أجرَه ولا يتأجَّلونه)) [1968] أخرجه من طرق: أحمد (22865) واللفظ له، وابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (4/131)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (2403). حَسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (22865). .
وفي رِوايةٍ: ((خَرَجَ علينا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومًا ونَحنُ نقترئُ، فقال: الحَمدُ للهِ، كِتابُ اللهِ واحِدٌ، وفيكُمُ الأحمَرُ وفيكُمُ الأبيَضُ وفيكُمُ الأسودُ، اقرَؤوه قَبلَ أن يَقرَأَه أقوامٌ يُقيمونَه كَما يُقَوَّمُ السَّهمُ، يَتَعَجَّلُ أجرَه ولا يتأجَّلُه)) [1969] أخرجها أبو داود (831) واللفظ له، وابن حبان (760)، والطبراني (6/207) (6024). حَسَّنها بطُرُقِها شعيب الأرناؤوط في ((سنن أبي داود)) (831). .
4- وعن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((خَرَجَ علينا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ونَحنُ نَقرَأُ القُرآنَ، وفينا الأعرابيُّ والأعجَميُّ، فقال: اقرؤوا فكُلٌّ حَسَنٌ، وسَيَجيءُ أقوامٌ يُقيمونَه كَما يُقامُ القِدْحُ [1970] يُقيمونَه: أي: يُصلِحونَ ألفاظَه وكَلِماتِه، ويَتَكَلَّفونَ في مُراعاةِ مَخارِجِه وصِفاتِه، ((كَما يُقامُ القِدحُ)): القِدحُ: السَّهمُ قَبلَ أن يُعمَلَ له ريشٌ ولا نَصلٌ، أي: يُبالغونَ في عَمَلِ القِراءةِ كَمالَ المُبالغةِ لأجلِ الرِّياءِ والسُّمعةِ والمُباهاةِ والشُّهرةِ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (2/ 450)، ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (4/ 1505). ، يَتَعَجَّلونَه ولا يتأجَّلونه)) [1971] أخرجه أبو داود (830) واللَّفظُ له، وأحمد (14855). قال ابنُ كَثير في ((الأحكام الكبير)) (2/433): لا بَأسَ بإسنادِه، وذَكَر أنَّ له شاهِدًا، وذَهَبَ إلى تَصحيحِه الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (830)، والوادعي على شرط مسلم في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1/192)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (14855). .
قال النَّوويُّ: (مَعناه: يَتَعَجَّلونَ أجرَه إمَّا بمالٍ وإمَّا سُمعةٍ ونَحوِها) [1972] ((التبيان في آداب حملة القرآن)) (ص: 56). .

انظر أيضا: