تمهيدٌ في فضلِ حفظِ القرآنِ
حِفظُ القُرآنِ الكَريمِ مِن أجَلِّ القُرُباتِ وأعظَمِ الطَّاعاتِ إذا خَلصَت فيه النِّيَّةُ لرَبِّ الأرضِ والسَّمَواتِ.
فعن سَعدِ بنِ عُبَيدةَ، عن أبي عَبدِ الرَّحمَنِ السُّلَميِّ، عن عُثمانَ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((خَيرُكُم مَن تَعَلَّمَ القُرآنَ وعَلَّمَه))، قال: وأقرَأ أبو عَبدِ الرَّحمَنِ في إمرةِ عُثمانَ، حتَّى كان الحَجَّاجُ، قال: وذاكَ الذي أقعَدَني مَقعَدي هذا
[1918] أخرجه البخاري (5027). .
وعن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّ للهِ أهلينَ مِنَ النَّاسِ، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، مَن هم؟ قال: هم أهلُ القُرآنِ، أهلُ اللهِ وخاصَّتُه)).
[1919] أخرجه ابن ماجه (215) واللَّفظُ له، وأحمد (12279). صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (215)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (77)، وصحح إسناده المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/303)، وحَسَّنه العراقي في ((تخريج الإحياء)) (1/363). وعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((الماهِرُ بالقُرآنِ مَعَ السَّفَرةِ [1920] السَّفَرةُ: همُ المَلائِكةُ، سُمُّوا سَفَرةً؛ لأنَّهم يَنزِلونَ بوحيِ اللهِ، وما يَقَعُ به الصَّلاحُ بَينَ النَّاسِ، كالسَّفيرِ الذي يُصلحُ بَينَ القَومِ. ويُقالُ: السَّفَرةُ: الكَتَبةُ، واحِدُهم سافرٌ، وسُمِّي الكِتابُ سِفرًا؛ لأنَّه يُسفِرُ الشَّيءَ ويُبَيِّنُه، وسُمِّي الكاتِبُ سافرًا؛ لأنَّه يُبينُ الشَّيءَ ويوضِّحُه، ومِنه إسفارُ الصُّبحِ، قال اللهُ سُبحانَه وتعالى: يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة: 5] أي: كُتُبًا، واحِدُها: سِفرٌ. يُنظر: ((شرح السنة)) للبغوي (4/ 430). الكِرامِ البَرَرةِ، والذي يَقرَأُ القُرآنَ ويَتَتَعتَعُ فيه، وهو عليه شاقٌّ، له أجرانِ)).
[1921] أخرجه مسلم (798). وفي رِوايةٍ:
((مَثَلُ الذي يَقرَأُ القُرآنَ وهو حافِظٌ له مَعَ السَّفَرةِ الكِرامِ البَرَرةِ، ومَثَلُ الذي يَقرَأُ وهو يتعاهَدُه، وهو عليه شَديدٌ، فله أجرانِ)).
[1922] أخرجها البخاري (4937). وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لا حَسَدَ [1923] المُرادُ بالحَسَدِ هنا الغِبطةُ، وهو تمَنِّي مِثلِ ما للمَحسودِ، لا تمَنِّي زَوالِ تلك النِّعمةِ عنه؛ فإنَّ ذلك الحَسَدُ المَذمومُ. يُنظر: ((الترغيب والترهيب)) للمنذري (2/ 351). وقال ابنُ بَطَّالٍ: (هذا مِنَ الحَسَدِ الحَلالِ، والحاسِدُ فيه مَشكورٌ؛ لأنَّه إنَّما حَسَدَه على العَمَلِ بالقُرآنِ والعِلمِ، وحَسَد صاحِبَ المالِ على نَفقَتِه له في حَقِّه، فلم يَقَعِ الحَسَدُ على شَيءٍ مِن أُمورِ الدُّنيا، وإنَّما وقَعَ على ما يُرضي اللَّهَ ويُقَرِّبُ مِنه؛ فلذلك كان تَمَنِّيه حَسَنًا، وكذلك تَمَنِّي سائِرِ أبوابِ الخَيرِ إنَّما يَجوزُ مِنه ما كان في مَعنى هذا الحَديثِ إذا خَلَصَتِ النِّيَّةُ في ذلك للَّهِ، وخَلَصَ ذلك مِنَ البَغيِ والحَسَدِ). ((شرح صحيح البخاري)) (10/ 289، 290). إلَّا في اثنَتَينِ: رَجُلٌ عَلَّمه اللَّهُ القُرآنَ فهو يَتلوه آناءَ اللَّيلِ وآناءَ النَّهارِ، فسَمِعه جارٌ له، فقال: ليتَني أُوتيتُ مِثلَ ما أُوتيَ فُلانٌ فعَمِلتُ مِثلَ ما يَعمَلُ، ورَجُلٌ آتاه اللهُ مالًا فهو يُهلِكُه في الحَقِّ، فقال رَجُلٌ: ليتَني أُوتيتُ مِثلَ ما أُوتيَ فُلانٌ فعَمِلتُ مِثلَ ما يَعمَلُ)).
[1924] أخرجه البخاري (5026). وعن أبي أُمامةَ الباهليِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((اقرؤوا القُرآنَ؛ فإنَّه يَأتي يَومَ القيامةِ شَفيعًا لأصحابِه...)) الحَديثَ.
[1925] أخرجه مسلم (804). وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((يُقالُ لصاحِبِ القُرآنِ: اقرَأْ، وارتَقِ، ورَتِّلْ كَما كُنتَ تُرَتِّلُ في الدُّنيا؛ فإنَّ مَنزِلَك عِندَ آخِرِ آيةٍ تَقرَؤُها)).
[1926] أخرجه أبو داود (1464) واللَّفظُ له، والترمذي (2914)، وأحمد (6799) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما. صَحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (766)، وصححه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (1464)، وحسنه الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (798)، وقال الترمذي والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (1464): حَسَنٌ صحيحٌ. وعن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال نَبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((يُقالُ لصاحِبِ القُرآنِ يَومَ القيامةِ إذا دَخَل الجَنَّةَ: اقرَأْ واصعَدْ، فيَقرَأُ ويَصعَدُ بكُلِّ آيةٍ دَرَجةً، حتَّى يَقرَأَ آخِرَ شَيءٍ مَعَه)).
[1927] أخرجه ابن ماجه (3780)، وأحمد (11360) واللَّفظُ له. صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (3780)، وصححه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (11360). وحامِلُ القُرآنِ حامِلُ رايةِ الإسلامِ، وفي كُلِّ خَصلةٍ مِن خِصالِ الخَيرِ لأهلِها إمامٌ، لا يَقنَعُ بأداءِ الفَرضِ وتَركِ الحَرامِ، بَل يَنبَغي أن يَكونَ مِنَ الأخلاقِ على أحسَنِ ما يُرامُ، ويَتَأدَّبَ بأجمَلِ الآدابِ، ويُنافِسَ فيها أولي النُّهى والأحلامِ.
فعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (يَنبَغي لحامِلِ القُرآنِ أن يُعرَفَ بلَيلِه إذِ النَّاسُ نائِمونَ، وبنَهارِه إذِ النَّاسُ يُفطِرونَ، وبحُزنِه إذِ النَّاسُ يَفرَحونَ، وببُكائِه إذِ النَّاسُ يَضحَكونَ، وبصَمتِه إذِ النَّاسُ يَخلِطونَ، وبخُشوعِه إذِ النَّاسُ يَختالونَ، ويَنبَغي لحامِلِ القُرآنِ أن يَكونَ باكيًا مَحزونًا حَكيمًا حَليمًا عليمًا سَكيتًا، ولا يَنبَغي لحامِلِ القُرآنِ أن يَكونَ جافيًا، ولا غافِلًا، ولا صَخَّابًا، ولا صَيَّاحًا، ولا حَديدًا)
[1928] ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (1/ 130). .
وقال الفُضَيلُ بنُ عِياضٍ: (حامِلُ القُرآنِ حامِلُ رايةِ الإسلامِ لا يَنبَغي له أن يَلغوَ مَعَ مَن يَلغو، ولا أن يَلهوَ مَعَ مَن يَلهو، ولا يَسهوَ مَعَ مَن يَسهو، ويَنبَغي لحامِلِ القُرآنِ أن لا يَكونَ له إلى الخَلقِ حاجةٌ لا إلى الخُلفاءِ فمَن دونَهم، ويَنبَغي أن يَكونَ حوايجُ الخَلقِ إليه)
[1929] ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (8/ 92). .
أهلُ القُرآنِ أئِمَّةٌ بهمُ اهتَدى
أهلُ السُّلوكِ إلى رِضا الجَبَّارِ
لكِن عليهم أن يَقوموا بالذي فيه
مِنَ المَشروعِ للأبرارِ
صِدقٌ وإخلاصٌ وحُسنُ عِبادةٍ
وقيامُ ليلٍ مَع صيامِ نَهارِ
وتَورُّعٌ وتَزَهُّدٌ وتَعَفُّفٌ
وتَشَبُّهٌ بخَلائِقِ الأخيارِ
وديانةٌ وصيانةٌ وأمانةٌ
وتَجَنُّبٌ لخَلائِقِ الأشرارِ
وأداءُ فَرضٍ واجتِنابُ مَحارِمٍ
وإدامةُ الأورادِ والأذكارِ
يا حامِلَ القُرآنِ إن تَكُ هَكَذا
فلك الهنا بفَوزِ عُقبى الدَّارِ
ومَتى أضَعتَ حُدودَه لم تَنتَفِعْ
بحُروفِه وسَكَنتَ دارَ بوارِ
[1930] ((التذكرة في الوعظ)) لابن الجوزي (ص: 81، 82). ويُنظر مِنه: (ص: 78). .
وقد ذُكِرَت جُمَلٌ مِنَ الآدابِ التي يَنبَغي أن يَتَحَلَّى بها حامِلُ القُرآنِ في أبوابٍ مُتَفرِّقةٍ مِن هذه المَوسوعةِ
[1931] كَما في تَضاعيفِ آدابِ تِلاوةِ القُرآنِ، وآدابِ العالمِ والمُتَعَلِّمِ... وغَيرِ ذلك. ، ومِنها أيضًا ما يَلي: