أولًا: تَعاهُدُ القُرآنِ ومُراجَعَتُه
يَنبَغي تَعاهُدُ القُرآنِ، ويَحذَرُ أشَدَّ الحَذَرِ مِن هَجرِه وتَعريضِه للنِّسيانِ.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ:أ-مِنَ الكتابِقال تعالى:
وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان: 30] .
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي يَعني الكُفَّارَ الذينَ حُكيَ عنهم ما حُكيَ مِنَ الشَّنائِعِ
اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا الذي مِن جُملتِه الآياتُ النَّاطِقةُ بما يَحيقُ بهم في الآخِرةِ مِن فُنونِ العِقابِ
مَهْجُورًا أي: مَتروكًا بالكُلِّيَّةِ، ولم يُؤمِنوا به ولم يَعرِفوا إليه رَأسًا، ولم يَتَأثَّروا بوعيدِه.
وفيه تَلويحٌ بأنَّ مِن حَقِّ المُؤمِنِ أن يَكونَ كَثيرَ التَّعاهدِ للقُرآنِ؛ كَي لا يَندَرِجَ تَحتَ ظاهِرِ النَّظمِ الكَريمِ
[1932] يُنظر: ((إرشاد العقل السليم)) لأبي السعود (6/ 215). .
قال ابنُ الفرسِ: (يَحتَمِلُ
مَهْجُورًا أن يَكونَ مِنَ الهَجرِ، يُريدُ مُبعَدًا مُقصًى، وهو قَولُ ابنِ زَيدٍ. ويحتملُ أن يُريدَ مَقولًا فيه هُجْرٌ؛ إشارةً إلى قَولِهم: شِعرٌ وكِهانةٌ وسِحرٌ، وهو قَولُ مُجاهِدٍ والنَّخَعيِّ.
وفي قَولِ ابنِ زَيدٍ تَنبيهٌ على تَعاهُدِ المُصحَفِ، وأن لا يُطرَحَ في البُيوتِ ولا يُقرَأَ فيه)
[1933] ((أحكام القرآن)) (3/ 396). وقال السُّيوطيُّ: (قَولُه تعالى: اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا قال ابنُ الفرسِ: فيه كَراهةُ هَجرِ المُصحَفِ وعَدَمِ تَعَهُّدِه بالقِراءةِ فيه). ((الإكليل في استنباط التنزيل)) (ص: 197). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ1- عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((بئسَما لأحَدِهم يَقولُ: نَسِيتُ آيةَ كَيتَ وكَيتَ، بَل هو نُسِّيَ، استَذكِروا القُرآنَ؛ فلهو أشَدُّ تَفَصِّيًا [1934] أشَدُّ تَفصِّيًا، يَعني: ذَهابًا وانفِلاتًا. ينظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (3/ 1947). مِن صُدورِ الرِّجالِ مِنَ النَّعَمِ بعُقُلِها [1935] النَّعَمُ: الإبلُ، ولا واحِدَ له مِن لفظِه. والعُقُلُ: جَمعُ عِقالٍ، وهو ما تُعقَلُ به النَّاقةُ. ينظر: ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (2/ 420). ) [1936] أخرجه البخاري (5032)، ومسلم (790) واللَّفظُ له. .
وفي رِوايةٍ:
((تَعاهَدوا هذه المَصاحِفَ -ورُبَّما قال: القُرآنَ- فلهو أشَدُّ تَفصِّيًا مِن صُدورِ الرِّجالِ مِنَ النَّعَمِ مِن عُقُلِ)) [1937] أخرجها مسلم (790). .
2- عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّما مَثَلُ صاحِبِ القُرآنِ كمَثَلِ الإبِلِ المُعَقَّلةِ، إن عاهَد عليها أمسَكَها، وإن أطلَقَها ذَهَبَت)) [1938] أخرجه البخاري (5031)، ومسلم (789). .
وفي رِوايةٍ:
((وإذا قامَ صاحِبُ القُرآنِ فقَرَأه باللَّيلِ والنَّهارِ ذَكَرَه، وإذا لم يَقُمْ به نَسِيَه)).
[1939] أخرجها مسلم (789). 3- عن أبي موسى رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((تَعاهَدوا هذا القُرآنَ، فوالذي نَفسُ مُحَمَّدٍ بيَدِه لهو أشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الإبِلِ في عُقُلِها)) [1940] أخرجه البخاري (5033)، ومسلم (791) واللَّفظُ له. .
قال التُّورِبشتيُّ: (التَّعَهُّدُ والتَّعاهُدُ: هو التَّحَفُّظُ بالشَّيءِ وتَجديدُ العَهدِ به، ومَعناه هاهنا التَّوصيةُ بتَجديدِ العَمَلِ بقِراءَتِه؛ لئَلَّا يَذهَبَ عنه، وفي مَعناه: «استَذكِروا القُرآنَ»: أي: تَفَقَّدوا القُرآنَ بالذِّكرِ، وهو عِبارةٌ عنِ استِحضارِه في القَلبِ وحِفظِه عنِ النِّسيانِ بالتِّلاوةِ، وهو في رِوايةِ ابنِ مَسعودٍ، وفيه: «لهو أشَدُّ تَفَصِّيًا مِنَ الإبِلِ في عُقُلِها»، والتَّفَصِّي مِنَ الشَّيءِ: التَّخَلُّصُ مِنه، تَقولُ: تَفَصَّيتُ مِنَ الدُّيونِ: إذا خَرَجتَ مِنها. وعُقُلٌ: جَمعُ عِقالٍ، مِثلُ كُتُبٍ وكِتابٍ، يُقالُ: عَقَلتُ البَعيرَ أعقِلُه عَقلًا، وهو أن يَثنيَ وظيفَه
[1941] الوظيفُ: مُستَدَقُّ الذِّراعِ والسَّاقِ مِنَ الخَيلِ والإبلِ ونَحوِهما. ((الصحاح)) للجوهري (4/ 1439). مَعَ ذِراعِه، فيَشُدَّهما جَميعًا في وسَطِ الذِّراعِ، وذلك الحَبلُ هو العِقالُ. وتَقديرُ الكَلامِ: لهو أشَدُّ مِنَ الإبِلِ تَفَصِّيًا مِن عُقُلِها.
والمَعنى: أنَّ صاحِبَ القُرآنِ إذا لم يتعاهَدْه بتِلاوتِه والتَّحَفُّظِ والتَّذَكُّرِ حالًا فحالًا، إلَّا كان أشَدَّ ذَهابًا مِنَ الإبِلِ إذا تَخَلَّصَت مِنَ العِقالِ، فإنَّها تَنفَلِتُ حتَّى لا تَكادَ تُلحَقُ)
[1942] ((الميسر في شرح مصابيح السنة)) (2/ 507). وقال ابنُ حَجَرٍ: (التَّحريرُ أنَّ التَّشبيهَ وقَعَ بَينَ ثَلاثةٍ بثَلاثةٍ؛ فحامِلُ القُرآنِ شُبِّهَ بصاحِبِ النَّاقةِ، والقُرآنُ بالنَّاقةِ، والحِفظُ بالرَّبطِ... وفي هذه الأحاديثِ الحَضُّ على مُحافظةِ القُرآنِ بدَوامِ دِراسَتِه وتَكرارِ تِلاوتِه، وضَربُ الأمثالِ لإيضاحِ المَقاصِدِ). ((فتح الباري)) (9/ 82، 83). .
4- عن عُقبةَ بنِ عامِرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((تَعَلَّموا كِتابَ اللهِ، وتَعاهَدوه وتَغَنَّوا به؛ فوالذي نَفسي بيَدِه لهو أشَدُّ تَفلُّتًا مِنَ المَخاضِ في العُقُلِ)) [1943] أخرجه من طرق أحمد (17317) واللفظ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (8049)، والطبراني (17/290) (800). صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح الجامِعِ)) (2964)، وحَسَّنه الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (936)، وصحح إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (17317). والحَديثُ أخرجه البخاري (5033)، ومسلم (791) بلفظٍ مُقارِبٍ دونَ التَّغَنِّي، من حديثِ أبي موسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ مسلمٍ: ((تَعاهَدوا هذا القُرآنَ؛ فوالذي نَفسُ مُحَمَّدٍ بيَدِه لهو أشَدُّ تَفلُّتًا مِنَ الإبِلِ في عُقُلِها)). .
قال المُناويُّ: ("تَعلَّموا كِتابَ اللهِ" القُرآنَ، أي: احفَظوه وتَفَهَّموه "وتَعاهَدوه" زادَ في رِوايةٍ: "واقتَنوه
[1944] أخرجها أحمد (17361)، والدارمي (3349)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (8034). صَحَّحها ابنُ حبان في ((صحيحه)) (119)، والألباني في ((صحيح الموارد)) (1495)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (17361)، وحَسَّنها الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (936). ، أي: الزَموه، "وتَغَنَّوا به"، أي: اقرَؤوه بتَحزينٍ وتَرقيقٍ، وليس المُرادُ قِراءَتَه بالألحانِ والنَّغماتِ، "فوالذي نَفسي بيَدِه لَهو أشَدُّ تَفَلُّتًا"، أي: ذَهابًا "مِنَ المَخاضِ"، أي: النُّوقِ الحَوامِلِ، "في العُقُلِ" جمعُ عِقالٍ، وعَقَلتُ البَعيرَ: حَبَستُه، وخُصَّ ضَربُ المَثَلِ بها؛ لأنَّها إذا انفلَتَت لا تَكادُ تُلحَقُ)
[1945] يُنظر: ((فيض القدير)) (3/ 255). .
5- عن عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ شِبلٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((اقرؤوا القُرآنَ، ولا تَغْلُوا فيه، ولا تَجْفُوا عنه، ولا تَأكُلوا به، ولا تَستَكثِروا به)) [1946] أخرجه أحمد (15529)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (2383) واللفظ لهما، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (2574) باختلافٍ يسيرٍ صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح الجامع)) (1168)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (15529)، وقَوَّى سَنَدَه ابن حجر في ((فتح الباري)) (8/718). .
قال العَينيُّ: («لا تَغْلوا» مِنَ الغُلوِّ، وهو التَّشَدُّدُ والمُجاوزةُ عنِ الحَدِّ. قَولُه: «ولا تَجْفوا» أي: تَعاهَدوه ولا تُبعِدوا عن تِلاوتِه، وهو مِنَ الجَفاءِ، وهو البُعدُ عنِ الشَّيءِ.)
[1947] ((عمدة القاري)) (21/ 264)، ((نخب الأفكار)) (16/ 362). وقال المُناويُّ: («ولا تَجفوا عنه» أي لا تُبعِدوا عن تِلاوتِه «ولا تَغْلوا فيه» تُجاوِزوا حَدَّه مِن حَيثُ لفظُه أو مَعناه، بأن تتأوَّلوه بباطِلٍ، أوِ المُرادُ: لا تَبذُلوا جُهدَكُم في قِراءَتِه وتَترُكوا غَيرَه مِنَ العِباداتِ، فالجَفاءُ عنه: التَّقصيرُ. والغُلوُّ: التَّعَمُّقُ فيه. وكِلاهما شَنيعٌ، وقد أمَرَ اللهُ بالتَّوسُّطِ في الأُمورِ ... ومِنَ الآدابِ المَأمورِ بها: القَصدُ في الأُمورِ، وكِلا طَرَفَي قَصدِ الأُمورِ ذَميمٌ). ((فيض القدير)) (2/ 64). وينظر: ((الكاشف عن حقائق السنن)) للطيبي (10/ 3186). .