موسوعة الآداب الشرعية

ثانيًا: العَمَلُ بالقُرآنِ


مِن آكَدِ آدابِ حامِلِ القُرآنِ: أن يَعمَلَ بما فيه، ويُقيمَ حُدودَه أشَدَّ مِمَّا يُقيمُ حُروفَه.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ والآثارِ:
أ- مِنَ الكتابِ
1- قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [البقرة: 121] .
قَولُه تعالى: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أي: يَتَّبِعونَه حَقَّ اتِّباعِه، ويَعمَلونَ به حَقَّ عَمَلِه [1948] ينظر: ((جامع البيان)) للطبري (2/ 487-493)، ((اقتضاء العلم العمل)) للخطيب البغدادي (ص: 76). .
2- قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الجمعة: 5] .
قال ابنُ الجَوزيِّ: (ضَرب لليَهودِ الذينَ تَرَكوا العَمَلَ بالتَّوراةِ مَثَلًا، فقال عَزَّ وجَلَّ: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ أي: كُلِّفوا العَمَلَ بما فيها ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا أي: لم يَعمَلوا بموجِبِها، ولم يُؤَدُّوا حَقَّها كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا وهيَ جَمعُ سِفرٍ. والسِّفرُ: الكِتابُ، فشَبَّهَهم بالحِمارِ لا يَعقِلُ ما يَحمِلُ؛ إذ لم يَنتَفِعوا بما في التَّوراةِ، وهيَ دالَّةٌ على الإيمانِ بمُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وهذا المَثَلُ يَلحَقُ مَن لم يَعمَلْ بالقُرآنِ ولم يَفهَمْ مَعانيَه) [1949] ((زاد المسير)) (4/ 281). .
3- قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف: 2-3] .
ب- مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن سَمرةَ بنِ جُندُبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا صَلَّى صَلاةً أقبَلَ علينا بوَجهِه، فقال: مَن رَأى مِنكُمُ اللَّيلةَ رُؤيا؟ قال: فإن رَأى أحَدٌ قَصَّها فيَقولُ ما شاءَ اللهُ، فسَألَنا يَومًا فقال: هَل رَأى أحَدٌ مِنكُم رُؤيا؟ قُلنا: لا، قال: لكِنِّي رَأيتُ اللَّيلةَ رَجُلينِ أتَياني فأخَذا بيَديَّ، فأخرَجاني إلى الأرضِ المُقدَّسةِ ... فانطَلَقنا حتَّى أتَينا على رَجُلٍ مُضطَجِعٍ على قَفاه ورَجُلٌ قائِمٌ على رَأسِه بفِهرٍ -أو صَخرةٍ- فيَشدَخُ به رَأسَه، فإذا ضَرَبَه تَدَهدَهَ [1950] التَّدَهدُه: التَّدَحرُجُ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (2/ 535). الحَجَرُ، فانطَلقَ إليه ليَأخُذَه، فلا يَرجِعُ إلى هذا حتَّى يَلتَئِمَ رَأسُه، وعاد رَأسُه كَما هو، فعادَ إليه فضَرَبَه، قُلتُ: مَن هذا؟ قالا: انطَلِقْ، فانطَلَقنا)) الحَديث، وفي آخِرِه قال المَلَكانِ في تَأويلِ الرُّؤيا: ((والذي رَأيتَه يُشدَخُ رَأسُه فرَجُلٌ عَلَّمَه اللَّهُ القُرآنَ، فنامَ عنه باللَّيلِ، ولم يَعمَلْ فيه بالنَّهارِ، يُفعَلُ به إلى يَومِ القيامةِ)). [1951] أخرجه البخاري (1386) واللَّفظُ له، ومسلم (2275) مُختَصَرًا.
قال القاري: (وأمَّا "الذي رَأيتَه يُشدَخُ رَأسُه فرَجُلٌ عَلَّمه اللَّهُ القُرآنَ" أي: وفَّقهَ لتَعَلُّمِه "فنامَ عنه باللَّيلِ" أي: لم يَكُنْ يَقرَأُ القُرآنَ في اللَّيلِ، وإنَّما خُصَّ به؛ لأنَّه كَما قال تعالى: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا [المزمل: 6-7] ، "ولم يَعمَلْ بما فيه بالنَّهارِ" أي: ومِن جُملةِ ما فيه قَولُه تعالى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ [العنكبوت: 45] أيِ: اقرَأْ واتَّبعْ، "يُفعَلُ به ما رَأيتَ إلى يَومِ القيامةِ". وجُملةُ الكَلامِ أنَّه مَعَ ما أُعطيَ مِنَ النِّعَمِ الجزيلةِ، وهيَ عِلمُ القُرآنِ، كان غافِلًا عن تَأويلاتِه، ورُبَّما جَرَّ إلى نِسيانِه...، ولم يَكُنْ عامِلًا بأوامِرِه ونَواهيه، مَعَ أنَّه هو المُرادُ مِن نُزولِ القُرآنِ؛ ولذا ورَدَ مَعناه: إنَّ مَن عَمِل بالقُرآنِ فكَأنَّه دائِمًا يَتلو القُرآنَ وإن لم يَقرَأْ، ومَن قَرَأ القُرآنَ دائِمًا ولم يَعمَلْ بما فيه فكَأنَّه لم يَقرَأْه أبَدًا.
وقال الطِّيبيُّ: قَولُه: "فنامَ عنه" أي: أعرَضَ عنه، وعن هنا كَما في قَولِه تعالى: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون: 5] أي: ساهونَ سَهوَ تَركٍ لها، وقِلَّةِ التِفاتٍ إليها، وذلك فِعلُ المُنافِقينَ والفسَقةِ. قُلتُ: ولذا قال بَعضُ الصَّالحينَ: الحَمدُ للهِ حَيثُ ما قال: في صَلاتِهم ساهونَ، قال: فمَعنى "نامَ عنه باللَّيلِ" أنَّه لم يَتلُه إذا كان باللَّيلِ، ولم يَتَفكَّرْ فيما يَجِبُ عليه أن يَأتيَ به ويَذَرَ، مِنَ الأوامِرِ والنَّواهي، مِثلُ المُنافِقينَ والفَسَقةِ، فإذا كان حالُه باللَّيلِ هذا فلا يَقومُ به، فيَعمَلُ بالنَّهارِ بما فيه، ويُؤَيِّدُ هذا التَّأويلَ ما جاءَ في رِوايةٍ أُخرى للبُخاريِّ: "أمَّا الرَّجُلُ الذي يُثلَغُ رَأسُه بالحَجَرِ فإنَّه الرَّجُلُ الذي يَأخُذُ القُرآنَ فيَرفُضُه ويَنامُ عنِ الصَّلاةِ المَكتوبةِ" [1952] البخاري (1143). ، وأمَّا مَن نامَ مِن غَيرِ أن يَتَجافى عنه لتَقصيرٍ أو عَجزٍ فهو خارِجٌ مِن هذا الوعيدِ. اهـ) [1953] ((مرقاة المفاتيح)) (7/ 2927). وينظر: ((الكاشف عن حقائق السنن)) للطيبي (9/ 3009، 3010). .
2- عن أبي بَرْزةَ الأسلَميِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تزولُ قَدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يسأَلَ عن عُمُرِه فيما أفناه، وعن عِلمِه فيمَ فَعَل، وعن مالِه مِن أين اكتسَبه وفيمَ أنفَقَه، وعن جِسمِه فيمَ أبلاه)). [1954] أخرجه الترمذي (2417) واللفظ له، والدارمي (554)، وأبو يعلى (7434). صححه ابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (30/301)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2417)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سير أعلام النبلاء)) (9/316)، وقال الترمذي: حَسَنٌ صحيحٌ.
ج- مِنَ الآثارِ
1- عن ابنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (كان الرَّجُلُ مِنَّا إذا تَعَلَّمَ عَشرَ آياتٍ لم يُجاوِزْهنَّ حتَّى يَعرِفَ مَعانيَهنَّ والعَمَلَ بهنَّ) [1955] أخرجه الطبري في ((التفسير)) (1/74). صححه الطبري، وصحح إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح مشكل الآثار)) (4/83). .
2- عن أبي عَبدِ الرَّحمَنِ السُّلَميِّ، قال: (إنَّا أخَذنا هذا القُرآنَ عن قَومٍ أخبَرونا أنَّهم كانوا إذا تَعَلَّموا عَشرَ آياتٍ لم يُجاوِزوهنَّ إلى العَشرِ الأُخَرِ حتَّى يَعلَموا ما فيهنَّ، فكُنَّا نَتَعَلَّمُ القُرآنَ والعَمَلَ به، وإنَّه سَيَرِثُ القُرآنَ بَعدَنا قَومٌ ليَشرَبونَه شُربَ الماءِ لا يُجاوِزُ تراقيَهم، بَل لا يُجاوِزُ هاهنا، ووَضَع يَدَه على الحَلقِ) [1956] أخرجه ابنُ سعد في ((الطبقات الكبرى)) (7740) واللفظ له، والفريابي في ((فضائل القُرآن)) (169). قوَّى إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح مشكل الآثار)) (4/83). .
فوائِدُ:
1-قال ابنُ عَطيَّة: (قال الحَسَنُ بنُ أبي الحَسَنِ البَصريُّ: إنَّكُمُ اتَّخَذتُم قِراءةَ القُرآنِ مَراحِلَ، وجَعَلتُمُ اللَّيلَ جَمَلًا تَركَبونَه، فتَقطَعونَ به المَراحِلَ، وإنَّ مَن كان قَبلَكُم رَأوه رَسائِلَ إليهم مِن رَبِّهم، فكانوا يَتَدَبَّرونَها باللَّيلِ، ويُنَفِّذونَها بالنَّهارِ.
وكان ابنُ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه يَقولُ: أُنزِلَ عليهمُ القُرآنُ ليَعمَلوا به، فاتَّخَذوا دَرسَه عَمَلًا، إنَّ أحَدَهم ليَتلو القُرآنَ مِن فاتِحَتِه إلى خاتِمَتِه ما يُسقِطُ مِنه حَرفًا، وقد أسقَطَ العَمَلَ به) [1957] ((المحرر الوجيز)) (1/ 39). .
2- عنِ الحَسَنِ، قال: (إنَّ هذا القُرآنَ قد قَرَأه عَبيدٌ وصِبيانٌ لا عِلمَ لهم بتَأويلِه، ولم يتأوَّلوا الأمرَ مِن قِبَلِ أولِه، وقال اللهُ سُبحانَه وتعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص: 29] ، وما تَدَبُّرُ آياتِه إلَّا اتِّباعُه بعلمِه، أمَا واللَّهِ ما هو بحِفظِ حُروفِه وإضاعةِ حُدودِه، حتَّى إنَّ أحَدَهم ليَقولُ: لقد قَرَأتُ القُرآنَ كُلَّه فما أسقَطتُ مِنه حَرفًا، وقد واللَّهِ أسقَطَه كُلَّه، ما يُرى له القُرآنُ في خُلُقٍ ولا عَمَلٍ، حتَّى إنَّ أحَدَهم ليَقولُ: إنِّي لأقرَأُ السُّورةَ في نَفَسٍ، واللهِ ما هؤلاء بالقُرَّاءِ ولا العُلماءِ ولا الحُكَماءِ ولا الوَرَعةِ! متى كانت القُرَّاءُ مِثلَ هذا؟ لا كَثَّرَ اللَّهُ في النَّاسِ مِثلَ هؤلاء) [1958] أخرجه مِن طرق: ابن المبارك في ((الزهد)) (793) واللفظ له، وعبد الرزاق (5984)، والفريابي في ((فضائل القرآن)) (177). .
3- عنِ الفُضَيلِ، قال: (إنَّما نَزَل القُرآنُ ليُعمَلَ به، فاتَّخَذَ النَّاسُ قِراءَتَه عَمَلًا، قال: قيل: كَيف العَمَلُ به؟ قال: أي: ليُحِلُّوا حَلالَه ويُحَرِّموا حَرامَه، ويَأتَمِروا بأوامِرِه، ويَنتَهوا عن نَواهيه، ويَقِفوا عِندَ عَجائِبه) [1959] ((اقتضاء العلم العمل)) للخطيب البغدادي (ص: 76). .
4- يُروى عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه: (رُبَّ تالٍ للقُرآنِ والقُرآنُ يَلعنُه)، وعن مَيسَرةَ الأشجَعيِّ، قال: (الغَريبُ هو القُرآنُ في جَوفِ الفاجِرِ) [1960] ينظر: ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (1/ 274). .
قال ابنُ باديسَ: (أمَّا قَولُ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه: «رُبَّ تالٍ للقُرآنِ والقُرآنُ يَلعنُه»، فليسَ مَعناه أنَّ القُرآنَ يَلعنُه لأجلِ تِلاوتِه، وكَيف وتِلاوتُه عِبادةٌ؟! وإنَّما مَعناه: أنَّه رُبَّما تَكونُ له مُخالفةٌ لبَعضِ أوامِرِ القُرآنِ أو نَواهيه مِن كَذِبٍ أو ظُلمٍ مَثَلًا، فيَكونُ داخِلًا في عُمومِ لعنِه للظَّالمينَ والكاذِبينَ، فخَرَجَ هذا الكَلامُ مَخرَجَ التَّقبيحِ لمُخالفةِ القُرآنِ مَعَ تِلاوتِه؛ بَعثًا للتَّالي على سُرعةِ الاتِّعاظِ بآياتِ القُرآنِ، وتَعجيلِ المَتابِ، لا مَخرَجَ الأمرِ بتَركِ التِّلاوةِ والانصِرافِ عنها) [1961] ((مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير)) (ص: 38). .

انظر أيضا: