تفسير الآيات:
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2).
سَبَبُ النُّزولِ:
عن عبدِ اللهِ بنِ سَلَامٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قعَدْنا نفرٌ مِن أصحابِ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فتَذاكَرْنا، فقُلْنا: لو نَعلَمُ أيُّ الأعمالِ أحَبُّ إلى اللهِ لَعَمِلْناه، فأنزل اللهُ: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ. قالَ عبدُ اللَّهِ بنُ سَلَامٍ: فقَرَأَها علينا رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)) [8] أخرجه الترمذيُّ (3309) واللَّفظُ له، وأحمدُ (23788)، وابنُ حِبَّانَ في ((صحيحه)) (4594). صَحَّحه الحاكمُ في ((المستدرك)) (2/248) وقال: (على شرطِ الشَّيخينِ). وصَحَّح إسنادَه الألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (3309)، وشعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (39/205)، وقال: (على شرطِ الشَّيخينِ). .
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1).
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ.
أي: نزَّه اللهَ تعالى عن النَّقائِصِ والعُيوبِ جَميعُ ما في السَّمَواتِ وجميعُ ما في الأرضِ [9] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/606)، ((تفسير السعدي)) (ص: 858). وتسبيحُ ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ تسبيحٌ حقيقيٌّ بلِسانِ المقالِ، وأيضًا بلِسانِ الحالِ. يُنظر ما تقدَّم في تفسير سورة الإسراء الآية (44)، وأوَّل سورة الحديد. .
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
أي: واللهُ هو العزيزُ الَّذي يَغلِبُ ولا يُغلَبُ، فيَنتَقِمُ مِن أعدائِه، الحكيمُ الَّذي يَضَعُ كُلَّ شَيءٍ ممَّا خلَقَه وشَرَعَه وقدَّرَه في مَوضِعِه الصَّحيحِ اللَّائِقِ به [10] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/606)، ((تفسير ابن عطية)) (5/301)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/2)، ((تفسير السعدي)) (ص: 858)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/174). .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2).
أي: يا أيُّها الَّذين آمَنوا لِمَ تَقولونَ القَولَ الَّذي لا تُصَدِّقونَه بالعَمَلِ؛ فتكونَ أعمالُكم مُخالِفةً لأقوالِكم؟! ومِن ذلك تَركُ فِعلِ الخَيرِ لِمَن وَعَد بفِعْلِه، كالجِهادِ في سَبيلِ اللهِ [11] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/606، 609)، ((تفسير القرطبي)) (18/80)، ((تفسير ابن كثير)) (8/105)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/5، 6)، ((تفسير السعدي)) (ص: 858). .
كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النساء: 77] .
وقال سُبحانَه: وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا [الأحزاب: 15] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ [محمد: 20، 21].
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((آيةُ المنافِقِ ثَلاثٌ: إذا حدَّثَ كَذَب، وإذا وَعَد أخلَفَ، وإذا اؤْتُمِنَ خان )) [12] رواه البخاري (33)، ومسلم (59). .
كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3).
أي: عَظُم واشتَدَّ بُغْضًا عندَ اللهِ قولُكم -أيُّها المؤمنونَ- شَيئًا، ثمَّ لا تَفعَلونَه [13] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/606)، ((الوسيط)) للواحدي (4/291)، ((الاستقامة)) لابن تيمية (1/18)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/6، 7)، ((تفسير السعدي)) (ص: 858)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/175). !
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ قَولَ اللهِ تعالى: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ فيه مَذَمَّةُ المخالِفينَ في القِتالِ، وهم الَّذين وَعَدوا بالقِتالِ ولم يُقاتِلوا، وهذه الآيةُ مَحمَدةٌ لِلموافِقينَ في القِتالِ، وهم الَّذين قاتَلوا في سَبيلِ اللهِ وبالَغوا فيه [14] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/527، 528). ، فبَعْدَ أنْ ذمَّ المخالِفينَ فى أمرِ القتالِ وهم الَّذين وعَدوا ولم يفْعَلوا؛ مدَح الَّذين قاتَلوا فى سبيلِه [15] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (28/81). .
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا.
أي: إنَّ اللهَ يُحِبُّ المجاهِدينَ الَّذين يُقاتِلونَ أعداءَ اللهِ لإعلاءِ دِينهِ حالَ كَونِهم مُنتَظِمينَ في صَفِّ القِتالِ [16] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/610)، ((تفسير القرطبي)) (18/81)، ((تفسير ابن كثير)) (8/107)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/8)، ((تفسير السعدي)) (ص: 858)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/176). قال البقاعي: (أي: مُصْطَفِّينَ حتَّى كأنَّهم في اتِّحادِ المرادِ على قَلبٍ واحِدٍ، كما كانوا في التَّساوي في الاصطِفافِ كالبَدَنِ الواحِدِ). ((نظم الدرر)) (20/8). .
كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان الاصطِفافُ يَصْدُقُ مع التَّقَدُّمِ والتأخُّرِ اليسيرِ؛ نفى ذلك بقَولِه حالًا بعدَ حالٍ [17] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/8). :
كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ.
أي: كأنَّهم في اصطِفافِهم للقِتالِ -مِن شِدَّةِ التَّراصِّ والمُساواةِ والثَّباتِ في المراكِزِ- بِناءٌ واحِدٌ عظيمُ الاتِّصالِ، شَديدُ الاستِحكامِ، لاصِقٌ بَعضُه ببَعضٍ، بلا فُرجةٍ ولا خَلَلٍ [18] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/611)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/164)، ((تفسير الزمخشري)) (4/523)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/8)، ((تفسير أبي السعود)) (8/243)، ((تفسير الشوكاني)) (5/262)، ((تفسير السعدي)) (ص: 858). !
عن أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((إنَّ المؤمِنَ للمُؤمِنِ كالبُنيانِ يَشُدُّ بَعضُه بَعضًا، وشَبَّك أصابِعَه )) [19] رواه البخاري (481) واللَّفظُ له، ومسلم (2585). .