سادسًا: اجتِنابُ ما يُبعِدُ الملائِكَةَ ويُنفِّرُهم
مِنَ الأدَبِ مَعَ المَلائِكةِ: اجتِنابُ ما يُبعِدُهم ويُنَفِّرُهم، كاقتِناءِ الكِلابِ والتَّماثيلِ والصُّوَرِ، وتَعليقِ الأجراسِ، وشُربِ المُسكِرِ، والتَّضَمُّخِ بالخَلوقِ ونَحوِ ذلك.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ والآثارِ:أ- مِنَ السُّنَّةِ1-عن أبي طَلحةَ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((لا تَدخُلُ المَلائِكةُ بَيتًا فيه كَلبٌ ولا صورةٌ)) [732] أخرجه البخاري (3322)، ومسلم (2106). .
وفي رِوايةٍ:
((لا تَدخُلُ المَلائِكةُ بَيتًا فيه كَلبٌ ولا تَماثيلُ)) [733] أخرجها مسلم (2106). .
وفي رِوايةٍ أُخرى:
((لا تَدخُلُ المَلائِكةُ بَيتًا فيه كَلبٌ ولا صورةُ تَماثيلَ)) [734] أخرجها البخاري (3225). .
وفي رِوايةٍ أُخرى عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: أخبَرَني أبو طَلحةَ رَضِيَ اللهُ عنه، صاحِبُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكان قد شَهدَ بَدرًا مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أنَّه قال:
((لا تَدخُلُ المَلائِكةُ بَيتًا فيه كَلبٌ ولا صورةٌ))، يُريدُ التَّماثيلَ التي فيها الأرواحُ
[735] أخرجها البخاري (4002). .
2-عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، أنَّها قالت:
((واعَد رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جِبريلُ عليه السَّلامُ في ساعةٍ يأتيه فيها، فجاءت تلك السَّاعةُ ولم يأتِه، وفي يَدِه عصًا فألقاها من يَدِه، وقال: ما يُخلِفُ اللهُ وَعدَه ولا رُسُلُه، ثم التَفَت فإذا جَرْوُ كَلبٍ تحتَ سَريرِه، فقال: يا عائشةُ، متى دَخَل هذا الكَلبُ هاهنا؟ فقالت: واللهِ ما دَرَيتُ، فأمر به فأُخرِجَ، فجاء جِبريلُ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: واعَدْتَني فجلَسْتُ لك فلم تأتِ؟ فقال: منعني الكَلبُ الذي كان في بيتِك؛ إنَّا لا ندخُلُ بيتًا فيه كَلبٌ ولا صورةٌ)) [736] أخرجها مسلم (2104). .
قال النَّوويُّ: (قال العُلماءُ: سَبَبُ امتِناعِهم مِن بَيتٍ فيه صورةٌ: كَونُها مَعصيةً فاحِشةً، وفيها مُضاهاةٌ لخَلقِ اللهِ تعالى، وبَعضُها في صورةِ ما يُعبَدُ مِن دونِ اللهِ تعالى، وسَبَبُ امتِناعِهم مِن بَيتٍ فيه كَلبٌ لكَثرةِ أكلِه النَّجاساتِ، ولأنَّ بَعضَها يُسَمَّى شَيطانًا، كَما جاءَ به الحَديثُ
[737] لفظُه: عن أبي ذَرٍّ قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إذا قامَ أحَدُكُم يُصَلِّي فإنَّه يَستُرُه إذا كان بَينَ يَدَيه مِثلُ آخِرةِ الرَّحلِ، فإذا لم يَكُنْ بَينَ يَدَيه مِثلُ آخِرةِ الرَّحلِ فإنَّه يَقطَعُ صَلاتَه الحِمارُ، والمَرأةُ، والكَلبُ الأسودُ. قُلتُ: يا أبا ذَرٍّ، ما بالُ الكَلبِ الأسوَدِ مِنَ الكَلبِ الأحمَرِ مِنَ الكَلبِ الأصفرِ؟ قال: يا ابنَ أخي، سَألتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كَما سَألتَني فقال: الكَلبُ الأسودُ شَيطانٌ. أخرجه مسلم (510). ، والمَلائِكةُ ضِدُّ الشَّياطينِ، ولقُبحِ رائِحةِ الكَلبِ، والمَلائِكةُ تَكرَهُ الرَّائِحةَ القَبيحةَ، ولأنَّها مَنهيٌّ عنِ اتِّخاذِها؛ فعوقِبَ مُتَّخِذُها بحِرمانِه دُخولَ المَلائِكةِ بَيتَه، وصَلاتَها فيه واستِغفارَها له وتَبريكَها عليه وفي بَيتِه، ودَفْعَها أذى الشَّيطانِ.
وأمَّا هؤلاء المَلائِكةُ الذينَ لا يَدخُلونَ بَيتًا فيه كَلبٌ أو صورةٌ فهم مَلائِكةٌ يَطوفونَ بالرَّحمةِ والتَّبريكِ والاستِغفارِ، وأمَّا الحَفَظةُ فيَدخُلونَ في كُلِّ بَيتٍ ولا يُفارِقونَ بَني آدَمَ في كُلِّ حالٍ؛ لأنَّهم مَأمورونَ بإحصاءِ أعمالِهم وكِتابَتِها)
[738] ((شرح مسلم)) (14/ 84). .
3-عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لا تَصحَبُ المَلائِكةُ رُفقةً فيها كَلبٌ ولا جَرَسٌ)) [739] أخرجه مسلم (1213). .
وعنه رَضِيَ اللهُ عنه أيضًا، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((الجَرَسُ مَزاميرُ الشَّيطانِ)) [740] أخرجه مسلم (2114). .
قال النَّوويُّ: (أمَّا فِقهُ الحَديثِ ففيه كَراهةُ استِصحابِ الكَلبِ والجَرَسِ في الأسفارِ، وأنَّ المَلائِكةَ لا تصحَبُ رُفقةً فيها أحَدُهما، والمُرادُ بالمَلائِكةُ مَلائِكةُ الرَّحمةِ والاستِغفارِ لا الحَفَظةُ...
وأمَّا الجَرَسُ فقيل: سَبَبُ مُنافرةِ المَلائِكةِ له أنَّه شَبيهٌ بالنَّواقيسِ، أو لأنَّه من المَعاليقِ المَنهيِّ عنها، وقيل: سَبَبُه كَراهةُ صَوتِها، وتُؤَيِّدُه رِوايةُ "مَزاميرِ الشَّيطانِ"، وهذا الذي ذَكَرناه مِن كَراهةِ الجَرَسِ على الإطلاقِ هو مَذهَبُنا ومَذهَبُ مالِكٍ وآخَرينَ، وهيَ كَراهةُ تَنزيهٍ، وقال جَماعةٌ مِن مُتَقدِّمي عُلماءِ الشَّامِ: يُكرَهُ الجَرَسُ الكَبيرُ دونَ الصَّغيرِ)
[741] ((شرح مسلم)) (14/95). وقال ابنُ حَجَرٍ: (رَوى مُسلِمٌ من حديثِ العَلاءِ بنِ عَبدِ الرَّحمَنِ عن أبي هرَيرةَ، رَفَعَه: «الجَرَسُ مِزمارُ الشَّيطانِ»، وهو دالٌّ على أنَّ الكَراهيةَ فيه لصَوتِه؛ لأنَّ فيها شَبَهًا بصَوتِ النَّاقوسِ وشَكلِه... واختَلَفوا في تَعليقِ الجَرَسِ أيضًا. ثالِثُها: يَجوزُ بقدَرِ الحاجةِ، ومِنهم مَن أجازَ الصَّغيرَ مِنها دونَ الكَبيرِ، وأغرَب ابنُ حِبَّان فزَعَمَ أنَّ المَلائِكةَ لا تَصحَبُ الرُّفقةَ التي يَكونُ فيها الجَرَسُ إذا كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيها). ((فتح الباري)) (6/ 142). ويُنظر: ((الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان)) لابن بلبان (10/ 553). وقال ابنُ عُثَيمين: (والجَرَسُ مَعلومٌ، وهو هذا الذي يُعَلَّقُ على الدَّوابِّ، ويَكونُ له رَنَّةٌ مُعَيَّنةٌ تَجلبُ النَّشوى والطَّرَبَ والتَّمَتُّعَ بصَوتِه، فهذا نَهى عنه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، نَهى عنه بالتَّحذيرِ مِنه؛ حَيثُ أخبَرَ أنَّ المَلائِكةَ لا تَصحَبُ رُفقةً فيها جَرَسٌ؛ لأنَّه مَعَ مَشيِ الدَّوابِّ وهَملجَتِها يَكونُ له شَيءٌ مِنَ العَزفِ والموسيقى، ومِنَ المَعلومِ أنَّ المَعازِفَ حَرامٌ، وأمَّا استِصحابُ الكَلبِ فقد سَبَقَ أنَّ المَلائِكةَ لا تَدخُلُ بَيتًا فيه كَلبٌ إلَّا الكِلابَ المُستَثناةَ: كَلبَ الحَرثِ والماشيةِ والصَّيدِ، فهذا لا بَأسَ به). ((شَرح رياض الصالحين)) (6/ 431). .
4- عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((لا تَصحَبُ المَلائِكةُ رُفقةً فيها جُلجُلٌ [742] الجُلجُلُ: هو الجَرَسُ الصَّغيرُ الذي يُعَلَّقُ في أعناقِ الدَّوابِّ وغَيرِها. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (1/ 284). وقال إبراهيمُ الحَربيُّ: (كُلُّ شَيءٍ عُلِّقَ في عُنُقِ دابَّةٍ أو رِجلِ صَبيٍّ يُصَوِّتُ فهو جُلجُلٌ). ((غريب الحديث)) (1/ 124). ) [743] أخرجه النسائي (5220)، وأبو يعلى (5446). صَحَّحه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب)) (3121). .
وفي رِوايةٍ:
((لا تَصحَبُ المَلائِكةُ رَكبًا مَعَهم جُلجُلٌ)) [744] أخرجها النسائي (5219) واللفظ له، وأحمد (4811). صححها لغيرها الألباني في ((صحيح الترغيب)) (3121)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (4811). .
5-عن أُمِّ حَبيبةَ رَضِيَ اللهُ عنها، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((لا تَصحَبُ المَلائِكةُ رُفقةً فيها جَرَسٌ)) [745] أخرجه أبو داود (2554)، وأحمد (26777). صَحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (4705)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2554)، وصَحَّحه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (2554). .
وفي رِوايةٍ:
((إنَّ العيرَ التي فيها جَرَسٌ لا تَصحَبُها المَلائِكةُ)) [746] أخرجها أحمد (26780)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (8760)، وابن حبان (4700). صَحَّحه لغَيرِه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (26780)، وقال الألباني في ((صحيح الترغيب)) (3117): حَسَنٌ صحيحٌ، وحَسَّن إسنادَه النَّوويُّ في ((الإيضاح)) (56). وذَهَبَ إلى تَصحيحِه ابنُ حِبان. .
6-عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها:
((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَرَ بالأجراسِ أن تُقطَعَ مِن أعناقِ الإبِلِ يَومَ بَدرٍ)).
[747] أخرجه أحمد (25166)، وابن حبان (4702) واللفظ لهما، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (8758). صَحَّحه ابنُ حبان، والألباني في ((صحيح الموارد)) (1246)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (25166)، وقال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (3/260): على شَرطِ الصَّحيحينِ. 7- عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه
((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَرَ بقَطعِ الأجراسِ)) [748] أخرجه ابنُ حبان (4701). صَحَّحه ابنُ حبان، والألباني في ((صحيح الموارد)) (1245)، وصَحَّحَ إسنادَه على شَرط البخاري شعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (4701). .
ب- مِنَ الآثارِ:عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: (ثَلاثةٌ لا تَقرَبُهمُ المَلائِكةُ: الجُنُبُ، والسَّكرانُ، والمُتَضَمِّخُ بالخَلوقِ)
[749] أخرجه البزار كما في ((الترغيب والترهيب)) للمنذري (3/181). صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح الترغيب)) (2374)، وصَحَّحَ إسنادَه المُنذِريُّ في ((الترغيب والترهيب)) (3/253)، والبوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (6/99). .
قال المُنذِريُّ: (المُرادُ بالمَلائِكةِ هنا همُ الذينَ يَنزِلونَ بالرَّحمةِ والبَرَكةِ دونَ الحَفظةِ؛ فإنَّهم لا يُفارِقونَه على حالٍ مِنَ الأحوالِ، ثُمَّ قيل: هذا في حَقِّ كُلِّ مَن أخَّرَ الغُسلَ لغَيرِ عُذرٍ ولعُذرٍ إذا أمكَنَه الوُضوءُ فلم يَتَوضَّأْ، وقيل: هو الذي يُؤَخِّرُه تَهاوُنًا وكَسَلًا، ويَتَّخِذُ ذلك عادةً، واللَّهُ أعلمُ)
[750] ((الترغيب والترهيب)) (1/ 148). .