موسوعة الآداب الشرعية

سابعًا: قَطعُ العلائِقِ الشَّاغِلةِ


يَنبَغي أن يَقطَعَ طالِبُ العِلمِ العَلائِقَ الشَّاغِلةَ عن كَمالِ الاجتِهادِ في التَّحصيلِ ما أمكَنَ، ويَرضى باليَسيرِ مِنَ القوتِ، ويَصبرَ على ضيقِ العَيشِ [2303] يُنظر: ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (2/ 184)، ((المجموع)) للنووي (1/ 35). قال أبو العَبَّاسِ ابنُ قُدامةَ: (أمَّا المُتَعَلِّمُ فيَنبَغي له ... قَطعُ العَلائِقِ الشَّاغِلةِ؛ فإنَّ الفِكرةَ مَتى تَوزَّعَت قَصُرَت عن إدراكِ الحَقائِقِ، وقد كان السَّلَفُ يُؤثِرونَ العِلمَ على كُلِّ شَيءٍ). ((مختصر منهاج القاصدين)) (ص: 21). وقال ابنُ جَماعةَ: (... أن يُبادِرَ شَبابَه وأوقاتَ عُمرِه إلى التَّحصيلِ ولا يَغتَرَّ بخدعِ التَّسويفِ والتَّأميلِ؛ فإنَّ كُلَّ ساعةٍ تَمضي مِن عُمرِه لا بَدَلَ لها ولا عِوضَ عنها، ويَقطَعُ ما يَقدِرُ عَليه مِنَ العَلائِقِ الشَّاغِلةِ والعَوائِقِ المانِعةِ عن تَمامِ الطَّلَبِ وبَذلِ الاجتِهادِ وقوَّةِ الجِدِّ في التَّحصيلِ؛ فإنَّها كقَواطِعِ الطَّريقِ؛ ولذلك استَحَبَّ السَّلفُ التَّغَرُّبَ عنِ الأهلِ والبُعدَ عنِ الوطَنِ؛ لأنَّ الفِكرةَ إذا تَوزَّعَت قَصُرَت عن دَرَكِ الحَقائِقِ وغُموضِ الدَّقائِقِ، وما جَعَل اللَّهُ لرَجُلٍ مِن قَلبَينِ في جَوفِه؛ ولذلك يُقالُ: العِلمُ لا يُعطيك بَعضَه حتَّى تُعطيَه كُلّكَ). ((تذكرة السامع والمتكلم)) (ص: 87، 88). وقال أيضًا: (أن يَقنَعَ مِنَ القوتِ بما تَيَسَّرَ وإن كان يَسيرًا، ومِنَ اللِّباسِ بما يَستُرُ مِثلَه وإن كان خَلَقًا، فبالصَّبرِ على ضيقِ العَيشِ يَنالُ سَعةَ العِلمِ، وبجَمعِ شَملِ القَلبِ عن مُفتَرَقاتِ الآمالِ تَتَفجَّرُ مِنه يَنابيعُ الحِكَمِ). ((تذكرة السامع والمتكلم)) (ص: 88). وقال السَّعديُّ: (اعلَمْ أنَّ القَناعةَ باليَسيرِ مِنَ الرِّزقِ والاقتِصادَ في أمرِ المَعيشةِ مَطلوبٌ مِن كُلِّ أحَدٍ، لا سيَّما المُشتَغِلونَ بالعِلمِ؛ فإنَّه كالمُتَعَيِّنِ عليهم؛ لأنَّ العِلمَ وظيفةُ العُمرِ كُلِّه أو مُعظَمِه، فمَتى زاحَمَته الأشغالُ الدُّنيَويَّةُ والضَّروريَّاتُ حَصَل النَّقصُ بسَبَبِ ذلك، والاقتِصادُ والقَناعةُ مِن أكبَرِ العَوامِلِ لخَصرِ الأشغالِ الدُّنيَويَّةِ وإقبالِ المُتَعَلِّمِ على ما هو بصَدَدِه). ((آداب المعلمين والمتعلمين)) (ص: 23). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الآثارِ:
1- عنِ الأعرَجِ، عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (إنَّ النَّاسَ يَقولونَ: أكثَرُ أبو هُرَيرةَ، ولولا آيَتانِ في كِتاب اللهِ ما حَدَّثتُ حَديثًا، ثُمَّ يَتلو إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى [البقرة: 159] إلى قَولِه: الرَّحِيمُ [البقرة: 160] . إنَّ إخوانَنا مِنَ المُهاجِرينَ كان يَشغَلُهمُ الصَّفقُ بالأسواقِ، وإنَّ إخوانَنا مِنَ الأنصارِ كان يَشغَلُهمُ العَمَلُ في أموالِهم، وإنَّ أبا هُرَيرةَ كان يَلزَمُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بشِبَعِ بَطنِه، ويَحضُرُ ما لا يَحضُرونَ، ويَحفَظُ ما لا يَحفَظونَ) [2304] أخرجه البخاري (118) واللَّفظُ له، ومسلم (2492). .
وفي رِوايةٍ: (يَقولونَ: إنَّ أبا هُرَيرةَ يُكثِرُ الحَديثَ، واللهُ المَوعِدُ، ويَقولونَ: ما للمُهاجِرينَ والأنصارِ لا يُحَدِّثونَ مِثلَ أحاديثِه؟ وإنَّ إخوتي مِنَ المُهاجِرينَ كان يَشغَلُهمُ الصَّفقُ [2305] الصَّفقُ في البيعِ: صَوتُ وَقعِ يَدِ البائِعِ على يَدِ المشتري عندَ عَقدِ التَّبايعِ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (8/ 22). بالأسواقِ، وإنَّ إخوتي مِنَ الأنصارِ كان يَشغَلُهم عَمَلُ أموالُهم، وكُنت امرَأً مِسكينًا ألزَمُ رَسوَلَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على مِلءِ بَطني، فأحضُرُ حينَ يَغيبونَ، وأعي حينَ يَنسَونَ، وقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومًا: «لن يَبسُطَ أحَدٌ مِنكُم ثَوبَه حتَّى أقضيَ مَقالتي هذه، ثُمَّ يَجمَعَه إلى صَدرِه، فيَنسى مِن مَقالتي شَيئًا أبَدًا» فبَسَطتُ نَمِرةً [2306] النَّمِرةُ: كُلُّ مِئزَرٍ مخطَّطٍ مِن مآزِرِ الأعرابِ، وجمعُها نِمارٌ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (8/ 23). ليسَ عليَّ ثَوبٌ غَيرُها، حتَّى قَضى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَقالتَه، ثُمَّ جَمَعتُها إلى صَدري، فوالذي بَعَثَه بالحَقِّ ما نَسيتُ مِن مَقالتِه تلك إلى يَومي هذا، واللهِ لولا آيَتانِ في كِتابِ اللهِ ما حَدَّثتُكُم شَيئًا أبَدًا: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى [البقرة: 159] إلى قَولِه: الرَّحِيمُ [البقرة: 160] ) [2307] أخرجها البخاري (2350). .
وفي رِوايةٍ عن سَعيدٍ المَقْبُريِّ، عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه: (إنَّ النَّاسَ كانوا يَقولونَ: أكثَر أبو هُرَيرةَ، وإنِّي كُنتُ ألزَمُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بشِبَعِ بَطني حتَّى لا آكُلُ الخَميرَ ولا ألبَسُ الحَبيرَ، ولا يَخدُمُني فُلانٌ ولا فُلانةُ، وكُنتُ أُلصِقُ بَطني بالحَصباءِ مِنَ الجوعِ) [2308] أخرجها البخاري (3708). .
قال ابنُ هُبَيرةَ: (في هذا الحَديثِ ما يَدُلُّ على أنَّ أبا هُرَيرةَ كان كَثيرَ المُلازَمةِ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولم يَكُنْ له أَرَبٌ في الدُّنيا سِوى التَّعَلُّمِ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّه كان يُقيمُ على ذلك قانِعًا بشِبَعِ بَطنِه) [2309] ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) (7/ 334). .
2- عن عُبَيدِ بنِ عُمَيرٍ (أنَّ أبا موسى الأشعَريَّ رَضِيَ اللهُ عنه استَأذَنَ على عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه، فلم يُؤذَنْ له، وكَأنَّه كان مَشغولًا، فرَجَعَ أبو موسى، ففرَغَ عُمَرُ، فقال: ألم أسمَعْ صَوتَ عَبدِ اللَّهِ بنِ قَيسٍ؟ ائذَنوا له، قيل: قد رَجَعَ، فدَعاه فقال: «كُنَّا نُؤمَرُ بذلك»، فقال: تَأتيني على ذلك بالبَيِّنةِ، فانطَلقَ إلى مَجلسِ الأنصارِ، فسَألهم، فقالوا: لا يَشهَدُ لك على هذا إلَّا أصغَرُنا أبو سَعيدٍ الخُدريُّ، فذَهَبَ بأبي سَعيدٍ الخُدريِّ، فقال عُمَرُ: أخفِيَ هذا عليَّ مِن أمرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟! ألهاني الصَّفقُ بالأسواقِ! يَعني الخُروجَ إلى تِجارةٍ) [2310] أخرجه البخاري (2062) واللَّفظُ له، ومسلم (2153). .
قال ابنُ عبدِ البَرِّ: (في قَولِه: "ألهاني عنه الصَّفقُ بالأسواقِ" دَليلٌ على أنَّ طَلبَ الدُّنيا يمنَعُ مِنِ استِفادةِ العِلمِ، وأنَّه كُلَّما ازدادَ المَرءُ طَلبًا لها ازدادَ جَهلًا، وقَلَّ عَمَلُه. واللَّهُ أعلمُ.
ومِن هذا قَولُ أبي هُرَيرةَ: "أمَّا إخوانُنا المُهاجِرونَ فكان يَشغَلُهمُ الصَّفقُ بالأسواقِ، وأمَّا إخوانُنا مِنَ الأنصارِ فشَغَلتهم حوائِطُهم، ولزِمتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على شِبَعِ بَطني".
هذا، وكان القَومُ عَرَبًا، في طَبعِهمُ الحِفظُ وقِلَّةُ النِّسيانِ، فكيف اليومَ؟! وإذا كان القُرآنُ المُيَسَّرُ للذِّكرِ كالإبِل المُعَقَّلةِ، مَن تَعاهَدَها أمسَكَها، فكيف بسائِرِ العُلومِ؟!) [2311] ((التمهيد)) (3/ 202). .
فائدةٌ:
عن مَليحِ بنِ وكيعٍ، قال: (سَمِعتُ رَجُلًا يَسألُ أبا حَنيفةَ: بمَ يُستَعانُ على الفِقهِ حتَّى يُحفَظَ؟ قال: بجَمعِ الهَمِّ، قال: قُلتُ: وبمَ يُستَعانُ على حَذفِ العَلائِقِ؟ قال: بأخذِ الشَّيءِ عِندَ الحاجةِ، ولا تَزِدْ) [2312] رواه الخطيب في ((الفقيه والمتفقه)) (2/ 184). .

انظر أيضا: