موسوعة الآداب الشرعية

فوائدُ متفرقةٌ


جملةٌ مِن آدابِ طالبِ العِلمِ
قال الزَّرْنوجيُّ: (لا بُدَّ مِنَ الجِدِّ والمواظَبةِ والمُلازَمةِ لطالِبِ العِلمِ، وإليه الإشارةُ في القُرآنِ بقَولِه تعالى: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مَريَم: 12] ، وقَولِه تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت: 69] .
وقيل: مَن طَلبَ شَيئًا وجَدَّ وَجَد، ومَن قَرَعَ البابَ ولجَّ ولَجَ.
وقيل: بقَدرِ ما تَتَعنَّى، تَنالُ ما تَتَمَنَّى.
ولا بُدَّ لطالِبِ العِلمِ مِن سَهَرِ اللَّيالي، كما قال الشَّاعِرُ:
بقَدْرِ الكَدِّ تُكتَسَبُ المَعالي
ومَن طَلَب العُلا سَهَر اللَّيالي
تَرومُ العِزَّ ثُمَّ تَنامُ ليلًا
يَغوصُ في البَحرِ مَن طَلَب اللَّآلي
عُلوُّ الكَعبِ بالهمَمِ العَوالي
وعنِ المَرءِ في سَهَرِ اللَّيالي
تَرَكتُ النَّومَ رَبِّي في اللَّيالي
لأجلِ رِضاك يا مَولى الموالي
ومَن رامَ العُلا مِن غَيرِ كَدٍّ
أضاعَ العُمرَ في طَلَبِ المُحالِ
فوفِّقْني إلى تَحصيلِ عِلمٍ
وبَلِّغْني إلى أقصى المَعالي
وقيل: اتَّخِذِ اللَّيلَ جَمَلًا تُدرِكُ به أمَلًا.
وقيل: مَن أسهَرَ نَفسَه باللَّيلِ فقد فرِحَ قَلبُه بالنَّهارِ.
ولا بُدَّ لطالِبِ العِلمِ مِنَ المواظَبةِ على الدَّرسِ والتَّكرارِ في أوَّلِ اللَّيلِ وآخِرِه؛ فإنَّ ما بَين العِشاءَينِ ووَقتَ السَّحَرِ وَقتٌ مُبارَكٍ.
ويَغتَنِمُ أيَّامَ الحَداثةِ وعُنفوانَ الشَّبابِ، كما قيل:
بقَدرِ الكَدِّ تُعطى ما تَرومُ
فمَن رامَ المُنى ليلًا يَقومُ
وأيَّامَ الحَداثةِ فاغتَنِمْها
ألا إنَّ الحَداثةَ لا تَدومُ
ولا يُجهِدْ نَفسَه جُهدًا يُضعِفُ النَّفسَ حتَّى يَنقَطِعَ عنِ العَمَلِ، بَل يَستَعمِلُ الرِّفقَ في ذلك، والرِّفقُ أصلٌ عَظيمٌ في جَميعِ الأشياءِ.
ولا بُدَّ لطالِبِ العِلمِ مِنَ الهمَّةِ العاليةِ في العَمَلِ؛ فإنَّ المَرءَ يَطيرُ بهمَّتِه كالطَّيرِ يَطيرُ بجَناحَيه، والرُّكنُ في تَحصيلِ الأشياءِ الجِدُّ والهمَّةُ العاليةُ، فأمَّا إذا كانت له همَّةٌ عاليةٌ ولم يَكُنْ له جِدٌّ، أو كان له جِدٌّ ولم تَكُنْ له هِمَّةٌ عاليةٌ، لا يَحصُلُ له العِلمُ إلَّا قَليلًا...
قيل: قال أبو حَنيفةَ لأبي يوسُفَ: كُنتَ بَليدًا أخرجَتْك المواظَبةُ، وإيَّاكَ والكَسَلَ؛ فإنَّه شُؤمٌ وآفةٌ عَظيمةٌ.
ويَنبَغي لطالِبِ العِلمِ أن يَكونَ مُتَأمِّلًا في جَميعِ الأوقاتِ في دَقائِقِ العُلومِ، ويَعتادَ ذلك؛ فإنَّما يُدرِكُ الدَّقائِقَ بالتَّأمُّلِ، فلهذا قيل: تَأمَّلْ تُدرِكْ.
ولا بُدَّ مِنَ التَّأمُّلِ قَبلَ الكَلامِ حتَّى يَكونَ صَوابًا؛ فإنَّ الكَلامَ كالسَّهمِ، فلا بُدَّ مِن تَقويمِه قَبلَ الكَلامِ حتَّى يَكونَ مُصيبًا. قيل: رَأسُ العَقلِ أن يَكونَ الكَلامُ بالتَّثَبُّتِ والتَّأمُّلِ.
ويَكونُ مُستَفيدًا في جَميعِ الأوقاتِ والأحوالِ مِن جَميعِ الأشخاصِ. قيل: خُذْ ما صَفا، ودَعْ ما كَدرَ.
وقال أبو يوسُفَ حينَ قيل: بمَ أدرَكتَ العِلمَ؟ قال: ما استَنكَفتُ مِنَ الاستِفادةِ مِن كُلِّ أحَدٍ، وما بَخِلتُ مِنَ الإفادةِ.
وقيل لابنِ عبَّاسٍ: بمَ أدرَكتَ العِلمَ؟ قال: بلسانٍ سَؤولٍ، وقَلبٍ عَقولٍ.
وإنَّما تَفَقَّه أبو حَنيفةَ بكَثرةِ المُطارَحةِ والمُذاكَرةِ في دُكَّانِه حينَ كان بَزَّازًا.
فبهذا يُعلَمُ أنَّ تَحصيلَ العِلمِ والفِقهِ يَجتَمِعُ مَعَ الكَسبِ، فإن كان لا بُدَّ لطالِبِ العِلمِ مِنَ الكَسبِ لنَفقةِ العيالِ وغَيرِه فليَكتَسِبْ وليُكَرِّرْ وليُذاكِرْ ولا يَكسَلْ، وليس لصحيحِ العَقلِ والبَدَنِ عُذرٌ في تَركِ التَّعَلُّمِ والتَّفقُّهِ...
وهكذا يَنبَغي لطالِبِ العِلمِ أن يَشتَغِلَ بالشُّكرِ باللِّسانِ والجَنانِ والأركانِ والحالِ، ويَرى الفَهمَ والعِلمَ والتَّوفيقَ مِنَ اللهِ تعالى، ويَطلُبَ الهدايةَ مِنَ اللهِ تعالى بالدُّعاءِ له والتَّضَرُّعِ إليه؛ فإنَّ اللَّهَ تعالى هادٍ مَنِ استَهداه.
ولا بُدَّ لطالِبِ العِلمِ مِن تَقليلِ العَلائِقِ الدُّنيَويَّةِ بقَدرِ الوُسعِ؛ فلهذا اختاروا الغُربةَ.
ولا بُدَّ مِن تَحَمُّلِ النَّصَبِ والمَشَقَّةِ في سَفَرِ التَّعَلُّمِ، كما قال موسى صَلواتُ اللهِ على نَبيِّنا وعليه في سَفَرِ التَّعَلُّمِ، ولم يُنقَلْ عنه ذلك في غَيرِه مِنَ الأسفارِ: لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا [الكهف: 62] ؛ ليُعلَمَ أنَّ سَفَرَ العِلمِ لا يَخلو عنِ التَّعَبِ؛ لأنَّ طَلبَ العِلمِ أمرٌ عَظيمٌ، وهو أفضَلُ مِنَ الغَزاةِ عِندَ أكثَرِ العُلماءِ، والأجرُ على قدرِ التَّعَبِ والنَّصبِ، فمَن صَبرَ على ذلك التَّعَبِ وجَدَ لذَّةَ العِلمِ تَفوقُ لذَّاتِ الدُّنيا؛ ولهذا كان مُحَمَّدُ بنُ الحَسَنِ إذا سَهرَ اللَّياليَ وانحَلَّت له المُشكِلاتُ يَقولُ: أينَ أبناءُ المُلوكِ مِن هذه اللَّذَّاتِ؟
ويَنبَغي لطالِبِ العِلمِ ألَّا يَشتَغِلَ بشَيءٍ آخَرَ غَيرِ العِلمِ، ولا يُعرِضَ عنِ الفِقهِ.
قال مُحَمَّدُ بنُ الحَسَنِ: صِناعَتُنا هذه مِنَ المَهدِ إلى اللَّحدِ، فمَن أرادَ أن يَترُكَ عِلمَنا هذا ساعةً فليَترُكْه السَّاعةَ.
ويَنبَغي أن يَكونَ صاحِبُ العِلمِ مُشفِقًا ناصِحًا غَيرَ حاسِدٍ؛ فالحَسَدُ يَضُرُّ ولا يَنفعُ، ويَنبَغي ألَّا يُنازِعَ أحَدًا ولا يُخاصِمَه؛ لأنَّه يُضَيِّعُ أوقاتَه.
قيل: عليك أن تَشتَغِلَ بمَصالحِ نَفسِك لا بقَهرِ عَدوِّك، فإذا أقَمتَ مَصالحَ نَفسِك تَضمَّنَ ذلك قَهرَ عَدوِّك.
وإيَّاك والمُعاداةَ فإنَّها تَفضَحُك وتُضَيِّعُ أوقاتَك، وعليك بالتَّحَمُّلِ لا سيَّما مِنَ السُّفهاءِ.
قال عيسى بنُ مَريَمَ صَلواتُ اللهِ عليه: احتَمِلوا مِنَ السَّفيهِ واحِدةً؛ كي تَربَحوا عَشرًا.
وإيَّاكَ أن تَظُنَّ بالمُؤمِنِ سوءًا؛ فإنَّه مَنشَأُ العَداوةِ، ولا يَحِلُّ ذلك، وإنَّما يَنشَأُ ذلك مِن خُبثِ النِّيَّةِ وسوءِ السَّريرةِ.
ويَنبَغي أن يَكونَ طالِبُ العِلمِ مُستَفيدًا في كُلِّ وقتٍ حتَّى يَحصُلَ له الفَضلُ والكَمالُ في العِلمِ. وطَريقُ الاستِفادةِ أن يَكونَ مَعَه في كُلِّ وقتٍ مَحبَرةٌ حتَّى يَكتُبَ ما يَسمَعُ مِنَ الفوائِدِ العِلميَّةِ.
قيل: ما حُفِظَ فرَّ، وما كُتِبَ قَرَّ.
وقيل: العِلمُ ما يُؤخَذُ مِن أفواهِ الرِّجالِ؛ لأنَّهم يَحفَظونَ أحسَنَ ما يَسمَعونَ، ويَقولونَ أحسَنَ ما يَحفظونَ.
ووصَّى الصَّدرُ الشَّهيدُ حُسامُ الدِّينِ ابنَه شَمسَ الدِّينِ أن يَحفظَ كُلَّ يَومٍ شَيئًا مِنَ العِلمِ والحِكمةِ فإنَّه يَسيرٌ، وعن قَريبٍ يَكونُ كَثيرًا.
واشتَرى عِصامُ بنُ يوسُفَ قَلمًا بدينارٍ ليَكتُبَ ما يَسمَعُه في الحالِ، فالعُمرُ قَصيرٌ والعِلمُ كَثيرٌ.
فينبغي أن لا يُضَيِّعَ طالبُ العِلمِ الأوقاتَ والسَّاعاتِ، ويَغتَنِمَ اللَّياليَ والخَلواتِ.
يُحكى عن يَحيى بنِ مُعاذٍ الرَّازيِّ أنَّه قال اللَّيلُ طَويلٌ فلا تُقَصِّرُه بمَنامِك، والنَّهارُ مُضيءٌ فلا تُكَدِّرُه بآثامِك.
ويَنبَغي أن يَغتَنِمَ الشُّيوخَ ويَستَفيدَ مِنهم، وليسَ كُلُّ ما فاتَ يُدرَكُ.
ولا بُدَّ لطالِبِ العِلمِ مِن تَحمُّلِ المَشَقَّةِ والمَذَلَّةِ في طَلَبِ العِلمِ، والتَّمَلُّقُ مَذمومٌ إلَّا في طَلَبِ العِلمِ؛ فإنَّه لا بُدَّ له مِنَ التَّمَلُّقِ للأُستاذِ والشَّريكِ وغَيرِهم للاستِفادةِ مِنهم.
قيل: العِلمُ عِزٌّ لا ذُلَّ فيه، لا يُدرَكُ إلَّا بذُلٍّ لا عِزَّ فيه.
كُلَّما كان طالِبُ العِلمِ أورَعَ كان عِلمُه أنفَعَ، والتَّعَلُّمُ له أيسَرَ، وفوائِدُه أكثَرَ.
ومِنَ الورَعِ الكامِلِ أن يَتَحَرَّزَ عنِ الشِّبَعِ وكَثرةِ النَّومِ وكَثرةِ الكَلامِ فيما لا يَنفعُ، وأن يَتَحَرَّزَ عن أكلِ طَعامِ السُّوقِ إن أمكَنَ؛ لأنَّ طَعامَ السُّوقِ أقرَبُ إلى النَّجاسةِ والخَباثةِ، وأبعَدُ عن ذِكرِ اللهِ وأقرَبُ إلى الغَفلةِ، ولأنَّ أبصارَ الفُقَراءِ تَقَعُ عليه ولا يَقدِرونَ على الشِّراءِ مِنه، فيَتَأذَّونَ بذلك؛ فتَذهَبُ بَرَكَتُه...
وهكذا كانوا يَتَورَّعونَ؛ فلذلك وُفِّقوا للعِلمِ والنَّشرِ حتَّى بَقيَ اسمُهم إلى يَومِ القيامةِ.
ووصَّى فقيهٌ مِن زُهَّادِ الفُقَهاءِ طالِبَ العِلمِ أن يَتَحَرَّزَ عنِ الغِيبةِ وعن مُجالسةِ المِكثارِ، وقال: مَن يُكثِرُ الكَلامَ يَسرِقُ عُمرَك ويُضيعُ أوقاتَك.
ومِنَ الورَعِ أن يَجتَنِبَ أهلَ الفسادِ والمَعاصي والتَّعطيلِ، ويُجاوِرَ الصُّلحاءَ؛ فإنَّ المُجاورةَ مُؤَثِّرةٌ، وأن يَجلسَ مُستَقبِلَ القِبلةِ، ويَكونَ مَستَنًّا بسُنَّةِ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ويَغتَنِمَ دَعوةَ أهلِ الخَيرِ، ويَتَحَرَّزَ عن دَعوةِ المَظلومينَ.
فيَنبَغي لطالِبِ العِلمِ ألَّا يَتَهاونَ بالآدابِ والسُّنَنِ، ومَن تَهاوَنَ بالأدَبِ حُرِمَ السُّنَنَ، ومَن تَهاوَن بالسُّنَنِ حُرِمَ الفرائِضَ، ومَن تَهاوَن بالفرائِضِ حُرِمَ الآخِرةَ.
ويَنبَغي أن يُكثِرَ الصَّلاةَ، ويُصَلِّيَ صَلاةَ الخاشِعينَ؛ فإنَّ ذلك عَونٌ له على التَّحصيلِ والتَّعَلُّمِ.
ويَنبَغي أن يَستَصحِبَ دَفتَرًا على كُلِّ حالٍ ليُطالِعَه. وقيل: مَن لم يَكُنِ الدَّفتَرُ في كُمِّه، لم تَثبُتِ الحِكمةُ في قَلبِه.
ويَنبَغي أن يَكونَ في الدَّفتَرِ بَياضٌ ويَستَصحِبَ المِحبَرةَ ليَكتُبَ ما يَسمَعُ مِنَ العُلماءِ.
وأقوى أسبابِ الحِفظِ: الجِدُّ والمواظَبةُ، وتَقليلُ الغِذاءِ، وصَلاةُ اللَّيلِ وقِراءةُ القُرآنِ مِن أسبابِ الحِفظِ.
وأمَّا ما يورِثُ النِّسيانَ فهو: المَعاصي وكَثرةُ الذُّنوبِ، والهمومُ والأحزانُ في أُمورِ الدُّنيا، وكَثرةُ الاشتِغالِ والعَلائِق، وقد ذَكَرنا أنَّه لا يَنبَغي للعاقِل أن يَهتَمَّ لأمرِ الدُّنيا؛ لأنَّه يَضُرُّ ولا يَنفعُ، وهمومُ الدُّنيا لا تَخلو عنِ الظُّلمةِ في القَلبِ، وهمومُ الآخِرةِ لا تَخلو عنِ النُّورِ في القَلبِ، ويَظهَرُ أثَرُه في الصَّلاةِ؛ فهمُّ الدُّنيا يَمنَعُه مِنَ الخَيراتِ، وهَمُّ الآخِرةِ يَحمِلُه عليه، والاشتِغالُ بالصَّلاةِ على الخُشوعِ وتَحصيلِ العِلمِ يَنفي الهَمَّ والحُزنَ) [2356] يُنظر: ((تعليم المتعلم طريق التعلم)) (ص: 88-93، 104، 114، 119). .
نصائحُ ذهبيةٌ لطالبِ العلمِ
1- عن عبدِ اللهِ بنِ يحيى بنِ أبي كثيرٍ، قال: سَمِعتُ أبي يقولُ: (لا يُستطاعُ العِلمُ براحةِ الجِسمِ) [2357] رواه مسلم (612). قال عياضٌ: (ذَكَرَ مسلِمٌ عِندَ ذِكرِه أحاديثَ الوُقوتِ، وذَكَرَه فيها ما لم يَذكُرْ غَيرُه مِن أصحابِ الحَديثِ: ثنا يحيى بن يحيى، قال: أنبأنا عَبدُ اللَّهِ بنُ يَحيى بنِ أبي كَثيرٍ، قال: سَمِعتُ أبي يَقولُ: "لا يُستَطاعُ العِلمُ براحةِ الجِسمِ". فكَثيرٌ مِن يَسألُ عن ذِكرِه هذا الخَبَرَ في هذا المَوضِعِ وليسَ مِنه، ولا هو من حديثِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا مِن شَرطِ الكِتابِ، فقال لنا بَعضُ شُيوخِنا: إنَّ مُسلِمًا رَحِمَه اللهُ أعجَبَه ما ذكرَ في البابِ وعَرَف مِقدارَ ما تعِبَ في تَحصيلِه وجَمعِه مِن ذلك، فأَدخَل بَينَها الخَبَرَ؛ تَنبيهًا على هذا، وأنَّه لم يُحَصِّلْ ما ذُكِرَ إلَّا بَعدَ مَشَقَّةٍ وتَعَبٍ في الطَّلَبِ). ((إكمال المعلم)) (2/ 577، 578). وقال النَّوويُّ: (جَرَت عادةُ الفُضَلاءِ بالسُّؤالِ عن إدخالِ مُسلِمٍ هذه الحِكايةَ عن يَحيى مَعَ أنَّه لا يَذكُرُ في كِتابِه إلَّا أحاديثَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَحضةً مَعَ أنَّ هذه الحِكايةَ لا تَتَعَلَّقُ بأحاديثِ مَواقيتِ الصَّلاةِ، فكَيف أدخَلَها بَينَها؟ وحَكى القاضي عياضٌ رَحِمَه اللهُ تعالى عن بَعضِ الأئِمَّةِ أنَّه قال: سَبَبُه أنَّ مسلِمًا رَحِمَه اللهُ تعالى أعجَبَه حُسنُ سياقِ هذه الطُّرُقِ التي ذَكَرَها لحَديثِ عَبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ وكَثرةُ فوائِدِها وتَلخيصُ مَقاصِدِها وما اشتَمَلت عَليه مِنَ الفوائِدِ في الأحكامِ وغَيرِها، ولا نَعلمُ أحَدًا شارَكَه فيها، فلمَّا رَأى ذلك أرادَ أن يُنَبِّهَ مَن رَغِبَ في تَحصيلِ الرُّتبةِ التي يَنالُ بها مَعرِفةَ مِثلِ هذا، فقال: طَريقُه أن يُكثِرَ اشتِغالَه وإتعابَه جِسمَه في الاعتِناءِ بتَحصيلِ العِلمِ). ((شرح مسلم)) (5/ 113، 114). .
2- كَتَب بَديعُ الزَّمانِ الهَمَذانيُّ إلى ابنِ أُختِه: (أنتَ ولدي ما دُمتَ والعِلمُ شانُك، والمَدرَسةُ مَكانُك، والمِحبَرةُ حَليفُك، والدَّفتَرُ أليفُك، فإن قَصَّرتَ ولا إخالُك، فغَيري خالُك. والسَّلامُ) [2358] ((مقامات بديع الزمان ورسائله)) (2/ 523). .
3- قال ابنُ تَيميَّةَ: (جِماعُ الخَيرِ أن يَستَعينَ باللهِ سُبحانَه في تَلقِّي العِلمِ المَوروثِ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّه هو الذي يَستَحِقُّ أن يُسَمَّى عِلمًا، وما سِواه إمَّا أن يَكونَ عِلمًا فلا يَكونُ نافِعًا [2359] وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَستَعيذُ مِن عِلمٍ لا يَنفعُ؛ فعن زَيدِ بنِ أرقَم رَضِيَ اللهُ عنه، قال: لا أقولُ لكُم إلَّا كَما كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((كان يَقولُ: اللهُمَّ إنِّي أعوذُ بك مِنَ العَجزِ والكَسَلِ، والجُبنِ والبُخلِ، والهَرَمِ، وعَذابِ القَبرِ، اللهُمَّ آتِ نَفسي تَقواها، وزَكِّها أنتَ خَيرُ مَن زَكَّاها، أنتَ وليُّها ومَولاها، اللهُمَّ إنِّي أعوذُ بك من عِلمٍ لا يَنفعُ، ومِن قَلبٍ لا يَخشَعُ، ومِن نَفسٍ لا تَشبعُ، ومِن دَعوةٍ لا يُستَجابُ لها)). أخرجه مسلم (2722). وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَدعو فيَقولُ: اللهُمَّ إنِّي أعوذُ بك مِنَ الأربَعِ: مِن عِلمٍ لا يَنفعُ، وقَلبٍ لا يَخشَعُ، ومِن نَفسٍ لا تَشبَعُ، ومِن دُعاءٍ لا يُسمَعُ)). أخرجه أبو دواد (1548) واللفظ له، والنسائي (5467)، وابن ماجه (3837). صَحَّحه الحاكم في ((المستدرك)) (354)، وابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (7/29)، وابن حجر في ((فتح الباري)) (11/143)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (1548)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (1548). وعن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَقولُ: ((اللهُمَّ إنِّي أعوذُ بك مِن عِلمٍ لا يَنفعُ، وعَمَلٍ لا يُرفعُ، وقَلبٍ لا يَخشَعُ، وقَولٍ لا يُسمَعُ)). أخرجه أحمد (13674)، وابن حبان (83) واللَّفظُ لهما، والبيهقي في ((المُدخَل إلى السُّنَنِ)) (482). صَحَّحه ابنُ حبان، وحَسَّنه ابن عساكر في ((معجم الشيوخ)) (1/552)، وصَحَّحَ إسناده على شرط مسلم شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (13674). وفي لفظٍ: عن أنَسٍ ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَدعو بهذه الدَّعَواتِ: اللهُمَّ إنِّي أعوذُ بك مِن عِلمٍ لا يَنفعُ، وقَلبٍ لا يَخشَعُ، ودُعاءٍ لا يُسمَعُ، ونَفسٍ لا تَشبَعُ، ثُمَّ يَقولُ: اللهُمَّ إنِّي أعوذُ بك مِن هؤلاء الأربَعِ)). أخرجه النسائي (5470)، وأحمد (14023). صَحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (1015)، والحاكم على شرط مسلم في ((المستدرك)) (356)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (5470)، والوادِعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1/83). وعن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((سَلُوا اللَّهَ عِلمًا نافِعًا، وتَعَوَّذوا باللهِ مِن عِلمٍ لا يَنفعُ)). أخرجه ابن ماجه (3843) واللَّفظُ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (7867) وابن حبان (82). صَحَّحه ابنُ حبان، وحَسَّنه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (3843)، وحَسَّن إسنادَه الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/185)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (82). ، وإمَّا ألَّا يَكونَ عِلمًا وإن سُمِّي به. ولئِن كان عِلمًا نافِعًا فلا بُدَّ أن يَكونَ في ميراثِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما يُغني عنه مِمَّا هو مِثلُه وخَيرٌ مِنه.
ولتَكُنْ هِمَّتُه فَهمَ مَقاصِدِ الرَّسولِ في أمرِه ونَهيِه وسائِرِ كَلامِه. فإذا اطمَأنَّ قَلبُه أنَّ هذا هو مُرادُ الرَّسولِ فلا يَعدِلُ عنه فيما بَينَه وبَينَ اللهِ تعالى، ولا مَعَ النَّاسِ إذا أمكَنَه ذلك.
وليَجتَهدْ أن يَعتَصِمَ في كُلِّ بابٍ مِن أبوابِ العِلمِ بأصلٍ مَأثورٍ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وإذا اشتَبَهَ عليه مِمَّا قدِ اختَلف فيه النَّاسُ فليَدعُ بما رَواه مُسلِمٌ في صحيحِه عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها «أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَقولُ إذا قامَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيلِ: اللهُمَّ رَبَّ جِبريلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ، فاطِرَ السَّمَواتِ والأرضِ، عالمَ الغَيبِ والشَّهادةِ، أنتَ تَحكُمُ بَينَ عِبادِك فيما كانوا فيه يَختَلِفونَ، اهدِني لِما اختُلِف فيه مِنَ الحَقِّ بإذنِك؛ إنَّك تَهدي مَن تَشاءُ إلى صِراطٍ مُستَقيمٍ» [2360] أخرجه مسلم (770). ؛ فإنَّ اللَّهَ تعالى قد قال فيما رَواه عنه رَسولُه: «يا عِبادي، كُلُّكُم ضالٌّ إلَّا مَن هَدَيتُه؛ فاستهدوني أهدِكُم» [2361] أخرجه مسلم (2577). .
وقد أوعَبَتِ الأُمَّةُ في كُلِّ فنٍّ مِن فُنونِ العِلمِ إيعابًا، فمَن نوَّر اللهُ قَلبَه هداه بما يَبلُغُه مِن ذلك، ومَن أعماه لم تَزِدْه كَثرةُ الكُتُبِ إلَّا حَيرةً وضَلالًا، كَما قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لابنِ لبيدٍ الأنصاريِّ: «أوَ ليسَتِ التَّوراةُ والإنجيلُ عِندَ اليَهودِ والنَّصارى؟ فماذا تُغني عنهم؟» [2362] أخرجه الترمذي (2653)، والدارمي (288)، والحاكم (338) باختلافٍ يسيرٍ، ولفظُ الترمذي: ((ثَكِلَتكَ أُمُّكَ يا زيادُ، إن كُنتُ لأعُدُّكَ مِن فُقَهاءِ أهلِ المَدينةِ! هذه التَّوراةُ والإنجيلُ عِندَ اليَهودِ والنَّصارى، فماذا تُغني عنهم؟)). صَحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2653)، وقال الترمذي: حَسَنٌ غَريبٌ. وصَحَّحَ إسنادَه الحاكم. وذكر شعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح مشكل الآثار)) (304) أنَّ فيه عَبدَ اللَّهِ بنَ صالحٍ، هو كاتِبُ اللَّيثِ، حَديثُه حَسَنٌ في الشَّواهدِ، وهذا مِنها، وباقي رجالِه ثقاتٌ. [2363] ((مَجموع الفتاوى)) (10/ 664، 665). .

انظر أيضا: