موسوعة الآداب الشرعية

ثالثًا: عَدَمُ التَّكَلُّمِ فيما لا يعلَمُ


مِن أدَبِ المعَلِّمِ: أن يَدَعَ الكَلامَ فيما لا يَعلَمُ، و(إنَّ مِن إكرامِ المَرءِ نَفسَه أن لا يَقولَ إلَّا ما أحاطَ به عِلمُه) [2372] يُنظر: ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (2/ 368). .
الدَّليلُ على ذلك من الكِتابِ:
1- قال تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء: 36] .
أي: ولا تَقُلْ أو تفعَلْ شيئًا بمُجَرَّدِ الظَّنِّ، فتَتْبَعْ ما لا عِلمَ لك به، ولا دليلَ على صِحَّته، إنَّ سَمْعَ الإنسانِ وبَصَرَه وقَلْبَه، كُلُّ هذه الأعضاءِ العَظيمةِ، العاليةِ المنافِعِ، البَديعةِ التَّكوينِ، سيَسألُ اللهُ الإنسانَ عنها يومَ القيامةِ فيما استعمَلَها، وتُسأَلُ هي عمَّا عَمِلَ فيها صاحِبُها، فتَشهَدُ عليه بما قال وفَعَل مِن خَيرٍ وشَرٍّ.
وفي الآية أدَبٌ خُلُقيٌّ عَظيمٌ، وهو أيضًا إصلاحٌ عَقليٌّ جَليلٌ يُعَلِّمُ الأمَّةَ التَّفرِقةَ بين مراتِبِ الخواطِرِ العَقليَّةِ، بحيث لا يختَلِطُ عِندَها المَعلومُ والمَظنونُ والمَوهومُ، ثمَّ هو أيضًا إصلاحٌ اجتماعيٌّ جَليلٌ يُجَنِّبُ الأُمَّةَ مِن الوُقوعِ والإيقاعِ في الأضرارِ والمهالِكِ؛ مِن جَرَّاءِ الاستِنادِ إلى أدِلَّةٍ مَوهومةٍ.
وفيها كذلك نهيٌ عن التكَلُّمِ بلا عِلْمٍ، وهو عامٌّ في جميعِ أنواعِ الأخبارِ، وقد يتناوَلُ ما أخبَرَ به الإنسانُ، وما قد يعتَقِدُه بغَيرِ الأخبارِ مِن الدَّلائِلِ والآياتِ والعلاماتِ؛ فليس له أنْ يتكَلَّمَ بلا عِلْمٍ، فلا ينفي شيئًا إلَّا بعِلْمٍ، ولا يُثْبِتُه إلَّا بعِلْمٍ [2373] يُنظر: ((التفسير المحرر)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدُّرَر السَّنيَّة (14/ 190-191، 197-198). .
2- قال تعالى: هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [آل عمران: 66] .
3- قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33] .
فائدةٌ:
قال السَّعديُّ: (مِن أعظَمِ ما يَجِبُ على المُعَلِّمينَ أن يَقولوا لِما لا يَعلمونَه: اللهُ أعلمُ، وليسَ هذا بناقِصٍ لأقدارِهم، بَل هذا مِمَّا يَزيدُ قَدْرَهم، ويُستَدَلُّ به على كَمالِ دينِهم، وتَحَرِّيهم للصَّوابِ.
وفي تَوقُّفِه عَمَّا لا يَعلمُ فوائِدُ كَثيرةٌ:
مِنها: أنَّ هذا هو الواجِبُ عليه.
ومِنها: أنَّه إذا تَوقَّف وقال: اللهُ أعلمُ، فما أسرَعَ ما يَأتيه عِلمُ ذلك مِن مُراجَعَتِه أو مُراجَعةِ غَيرِه، فإنَّ المُتَعَلِّمَ إذا رَأى مُعَلِّمَه قد تَوقَّف جَدَّ واجتَهَدَ في تَحصيلِ عِلمِها وإتحافِ المُعلِّمِ بها، فما أحسَنَ هذا الأثَرَ!
ومِنها: أنَّه إذا تَوقَّف فيما لا يَعرِفُ كان دَليلًا على ثِقَتِه وأمانَتِه وإتقانِه فيما يَجزِمُ به مِنَ المَسائِلِ، كَما أنَّ مَن عُرِف مِنه الإقدامُ على الكَلامِ فيما لا يَعلمُ، كان ذلك داعيًا للرَّيبِ في كُلِّ ما يَتَكَلَّمُ به، حتَّى في الأُمورِ الواضِحةِ.
ومِنها: أنَّ المُعَلِّمَ إذا رَأى مِنه المُتَعَلِّمونَ التَّوقُّفَ فيما لا يَعلمُ، كان ذلك تَعليمًا لهم، وإرشادًا لهذه الطَّريقةِ الحَسَنةِ، والاقتِداءُ بالأحوالِ والأعمالِ أبلغُ مِنَ الاقتِداءِ بالأقوالِ) [2374] ((الفتاوى السعدية)) (ص: 628، 629). ويُنظَرُ كَلامُ السَّلفِ في الإحجامِ عنِ الكَلامِ فيما لا يَدري، والحَضِّ على قَولِ: (اللهُ أعلمُ) و(لا أدري) ونَحو هذا- في: ((أخلاق العلماء)) للآجري (ص: 111)، ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبد البر (2/ 826)، ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (2/ 360)، ((المجموع شرح المهذب)) للنووي (1/ 40)، ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (2/ 58). .

انظر أيضا: