موسوعة الآداب الشرعية

خامسًا: الشَّفَقةُ بالمتعَلِّمينَ


يَنبَغي للمُعلِّمِ أن يُشفِقَ على المُتَعَلِّمِ ويَرفُقَ به، ويُعامِلَه بلينٍ ورَحمةٍ، ويُرَحِّبَ به ولا يَنهَرَه ولا يَشُقَّ عليه [2381] قال النَّوويُّ: (يَنبَغي له أن يَرفُقَ بمَن يَقرَأُ عليه، وأن يُرَحِّبَ به ويُحسِنَ إليه بحَسَبِ حالِه... ويَنبَغي أن يُشفِقَ على الطَّالِبِ ويَعتَنيَ بمَصالحِه كاعتِنائِه بمَصالحِ ولدِه ومَصالحِ نَفسِه، ويُجريَ المُتَعَلِّمَ مَجرى ولدِه في الشَّفقةِ عليه والصَّبرِ على جَفائِه وسوءِ أدَبِه، ويَعذِرَه في قِلَّةِ أدَبِه في بَعضِ الأحيانِ؛ فإنَّ الإنسانَ مُعَرَّضٌ للنَّقائِصِ لا سيَّما إن كان صَغيرَ السِّنِّ، ويَنبَغي أن يُحِبَّ له ما يُحِبُّ لنَفسِه مِنَ الخَيرِ، وأن يَكرَهَ له ما يَكرَهُ لنَفسِه مِنَ النَّقصِ مُطلقًا؛ فقد ثَبَتَ في الصَّحيحَينِ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: «لا يُؤمِنُ أحَدُكُم حتَّى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنَفسِه»، وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: "أكرَمُ النَّاسِ عليَّ جَليسي الذي يَتَخَطَّى النَّاسَ حتَّى يَجلسَ إليَّ، لوِ استَطَعتُ أن لا يَقَعَ الذُّبابُ على وَجهِه لفعَلتُ". وفي رِوايةٍ: "إنَّ الذُّبابَ ليَقَعُ عليه فيُؤذيني". ويَنبَغي أن لا يَتَعاظَمَ على المُتَعَلِّمينَ، بَل يَلينُ لهم ويَتَواضَعُ مَعَهم؛ فقد جاءَ في التَّواضُعِ لآحادِ النَّاسِ أشياءُ كَثيرةٌ مَعروفةٌ، فكَيف بهؤلاء الذينَ هم بمَنزِلةِ أولادِه مَعَ ما هم عليه مِنَ الاشتِغالِ بالقُرآنِ، مَعَ ما لهم عليه مِن حَقِّ الصُّحبةِ وتَرَدُّدِهم إليه؟!). ((التبيان في آداب حملة القرآن)) (ص: 38-40). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ:
أ- من الكِتابِ
قال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159] .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال حَدَّثَ صَفوانُ بنُ عَسَّالٍ المُراديُّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أتَيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو مُتَّكِئٌ في المَسجِدِ على بُردٍ له، فقُلتُ له: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي جِئتُ أطلُبُ العِلمَ، فقال: مَرحَبًا بطالِبِ العِلمِ، طالِبُ العِلمِ لتَحُفُّه المَلائِكةُ وتُظِلُّه بأجنِحَتِها، ثُمَّ يَركَبُ بَعضُهم بَعضًا حتَّى يبلُغوا السَّماءَ الدُّنيا مِن حُبِّهم لِما يَطلُبُ! فما جِئتَ تَطلُبُ؟ قال: قال صَفوانُ: يا رَسولَ اللهِ، لا نَزالُ نُسافِرُ بَينَ مَكَّةَ والمَدينةِ، فأفتِنا عنِ المَسحِ على الخُفَّينِ، فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ثَلاثةُ أيَّامٍ للمُسافِرِ، ويَومٌ وليلةٌ للمُقيمِ)) [2382] أخرجه الطبراني (8/64) (7347) واللفظ له، وابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (6/330)، وأبو نعيم في ((معرفة الصحابة)) (3818). حسنه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (71)، وجود إسناده المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (1/75). .
2- عن مُعاويةَ بنِ الحَكَمِ السُّلَميِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((بَيْنا أنا أُصَلِّي مع رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ عَطَس رجُلٌ من القومِ، فقُلتُ: يرحمُك اللَّهُ! فرماني القومُ بأبصارِهم، فقُلتُ: واثُكْلَ أُمِّيَاه [2383] الثُّكلُ: الحُزنُ لفقدِ الولدِ. والمَرأةُ الثَّكلى: الفاقِدةُ لولدِها، الحَزينةُ عليه. وأمِّياه: مُضافٌ إلى ثُكلٍ، وكِلاهما مُنادى مَندوبٌ، وأمِّياه أصلُه: أُمِّي، زيدَت عليها الألفُ لمَدِّ الصَّوتِ، وأردِفَت بهاءِ السَّكتِ الثَّابتةِ في الوقفِ، المَحذوفةِ في الوَصلِ. يُنظر: ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (2/ 137، 138).. ! ما شأنُكم تَنظُرون إليَّ؟! فجَعَلوا يَضرِبون بأيديهم على أفخاذِهم، فلمَّا رأيتُهم يُصَمِّتُونني لكِنِّي سكَتُّ، فلمَّا صلَّى رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فبأبي هو وأمي، ما رأيتُ مُعَلِّمًا قَبلَه ولا بعدَه أحسنَ تعليمًا منه، فواللهِ ما كَهَرني [2384] أي: ما انتَهَرَني ولا أغلَظَ لي، وقيل: الكَهرُ: استِقبالُك الإنسانَ بالعُبوسِ. يُنظر: ((معالم السنن)) للخطابي (1/ 221، 222). ولا ضرَبني، ولا شتَمَني. قال: إنَّ هذه الصَّلاةَ لا يَصلُحُ فيها شيءٌ من كلامِ النَّاسِ، إنَّما هو التَّسبيحُ والتَّكبيرُ وقراءةُ القرآنِ، أو كَما قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم...)) الحَديثَ [2385] أخرجه مسلم (537). .
3- عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ الله عنه قال: ((بينما نحن في المسجِدِ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ جاء أعرابيٌّ، فقام يبولُ في المسجدِ، فقال أصحابُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مَهْ مَهْ [2386] مَهْ مَهْ: هي كَلِمةُ زَجرٍ. يُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (3/ 193). ، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا تُزْرِموه [2387] لا تُزْرِموه: أي لا تَقطَعوا عليه بَولَه. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 449). دعوه، فتركوه حتَّى بال، ثمَّ إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دعاه، فقال له: إنَّ هذه المساجِدَ لا تصلُحُ لشيءٍ من هذا البولِ ولا القَذَرِ، إنَّما هي لذِكرِ اللهِ عزَّ وجَلَّ والصَّلاةِ وقراءةِ القُرآنِ، أو كما قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال فأمر رجلًا من القومِ فجاء بدَلوٍ من ماءٍ فشَنَّه [2388] فشَنَّه: فصَبَّه. يُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (3/ 193). عليه)) [2389] أخرجه البخاري (219) مختصراً، ومسلم (285) واللفظ له. .
وفي حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عنه، قال: قام أعرابيٌّ فبال في المسجِدِ، فتناوَلَه النَّاسُ، فقال لهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((دَعُوه وهَرِيقوا على بَولِه سَجلًامن ماءٍ، أو ذَنوبًا [2390] السَّجلُ: هو الدَّلوُ إذا كان فيه ماءٌ قَلَّ أم كثُرَ، والذَّنوبُ: الدَّلوُ الملأى ماءً. يُنظر: ((الميسر في شرح مصابيح السنة)) للتوربشتي (1/ 163). ويُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 324). من ماءٍ؛ فإنَّما بُعِثتُم مُيَسِّرين، ولم تُبعَثوا مُعَسِّرين)) [2391] أخرجه البخاري (220). .
4- عن أبي أُمامةَ الباهليِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((إنَّ فتًى شابًّا أتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رَسولَ اللهِ، ائذَنْ لي بالزِّنا، فأقبَل القَومُ عليه فزَجَروه وقالوا: مَه مَه [2392] مَهْ: بفَتحِ ميمٍ وسكونِ هاءٍ: اسمُ فِعلٍ بمعنى اكفُفْ وامتَنِعْ عن ذلك، فهي كَلِمةُ زَجرٍ، قيل: أصلُه: ما هذا، ثمَّ حُذِف استِخفافًا، وتقالُ مكرَّرةً ومُفردةً. يُنظر: ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (4/ 65)، ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (7/ 3054). ! فقال: ادْنُه، فدَنا مِنه قَريبًا. قال: فجَلسَ قال: أتَحُبُّه لأُمِّك؟ قال: لا واللَّهِ، جَعَلني اللهُ فِداءَك. قال: ولا النَّاسُ يُحِبُّونَه لأُمَّهاتِهم. قال: أفتُحِبُّه لابنَتِك؟ قال: لا واللَّهِ يا رَسولَ اللهِ جَعَلني اللهُ فداءَك، قال: ولا النَّاس يُحِبُّونَه لبَناتِهم. قال: أفتُحِبُّه لأُختِك؟ قال: لا واللَّهِ جَعَلني اللهُ فداءَك. قال: ولا النَّاسُ يُحِبُّونَه لأخَواتِهم. قال: أفتُحِبُّه لعَمَّتِك؟ قال: لا واللَّهِ جَعَلني اللهُ فداءَك. قال: ولا النَّاسُ يُحِبُّونَه لعَمَّاتِهم. قال: أفتُحِبُّه لخالتِك؟ قال: لا واللَّهِ جَعَلني اللهُ فداءَك. قال: ولا النَّاسُ يُحِبُّونَه لخالاتِهم. قال: فوضعَ يَدَه عليه وقال: اللهُمَّ اغفِرْ ذَنبَه، وطَهِّرْ قَلبَه، وحَصِّنْ فرجَه. قال: فلم يَكُنْ بَعدَ ذلك الفتى يَلتَفِتُ إلى شَيءٍ)) [2393] أخرجه أحمد (22211) واللفظ له، والطبراني (8/190) (7679)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (5415). صحَّحه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (501)، وصحَّح إسناده الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1/712)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (22211)، وجَوَّده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (2/411). .
5- عن عياضٍ المجاشِعيِّ رَضِيَ اللهُ عنه ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال ذاتَ يَومٍ في خُطبَتِه: ألا إنَّ رَبِّي أمَرَني أن أُعَلِّمَكُم ما جَهِلتُم مِمَّا عَلَّمَني يَومي هذا:...، قال: وأهلُ الجَنَّةِ ثَلاثةٌ: ذو سُلطانٍ مُقسِطٍ مُتَصَدِّقٍ موفَّقٍ، ورَجُلٌ رَحيمٌ رَقيقُ القَلبِ لكُلِّ ذي قُربى ومُسلِمٍ، وعَفيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذو عيالٍ)) [2394] أخرجه مسلم (2865). .
6- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((إنَّ الرِّفقَ لا يَكونُ في شَيءٍ إلَّا زانَه، ولا يُنزَعُ مِن شَيءٍ إلَّا شانَه)) [2395] أخرجه مسلم (2594). .
7- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يا عائِشةُ، إنَّ اللَّهَ رَفيقٌ يُحِبُّ الرِّفقَ، ويُعطي على الرِّفقِ ما لا يُعطي على العُنفِ، وما لا يُعطي على ما سِواه)) [2396] أخرجه مسلم (2593). .
8- عن أبي الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن أُعطيَ حَظَّه مِنَ الرِّفقِ فقد أُعطِيَ حَظَّه مِنَ الخَيرِ، ومَن حُرِمَ حَظَّه مِنَ الرِّفقِ فقد حُرِمَ حَظَّه مِنَ الخَيرِ)) [2397] أخرجه الترمذي (2013) واللَّفظُ له، وأحمد (27553) مُطوَّلًا دونَ ذِكرِ "ومَن حُرِمَ..". صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2013)، وقال الترمذي: حسن صحيح، وقال شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (27553): بعضُه صحيحٌ، وبعضُه صحيحٌ لغَيرِه. .
9- عن جَريرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((مَن يُحرَمِ الرِّفقَ يُحرَمِ الخَيرَ)) [2398] أخرجه مسلم (2592). .
10- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ في بَيتي هذا: ((اللهُمَّ مَن وَليَ من أمرِ أُمَّتي شَيئًا فشَقَّ عليهم فاشقُقْ عليه، ومَن وليَ من أمرِ أُمَّتي شَيئًا فرَفَقَ بهم فارفُقْ به)) [2399] أخرجه مسلم (1828). .
فائدةٌ:
قال ابنُ القيِّمِ: (أنفَعُ النَّاسِ لك رجلٌ مكَّنَك من نفسِه حتَّى تزرَعَ فيه خيرًا أو تصنَعَ إليه معروفًا؛ فإنَّه نِعْمَ العونُ لك على منفعتِك وكمالِك، فانتفاعُك به في الحقيقةِ مِثلُ انتفاعِه بك أو أكثَرُ. وأضَرُّ النَّاسِ عليك من مكَّن نفسَه منك حتى تعصيَ اللهَ فيه؛ فإنَّه عونٌ لك على مضرَّتِك ونَقصِك) [2400] ((الفوائد)) (ص: 192). .

انظر أيضا: