عاشرًا: تَخفيفُ الزِّيارةِ وعَدَمُ الإثقالِ
يُستَحَبُّ تَخفيفُ الزِّيارةِ وعَدَمُ الإثقالِ على المَزورِ، ويُكرَهُ التَّطويلُ عِندَ مَن يُعلَمُ أنَّ له شُغلًا وتَفرُّغًا لأمرٍ مِن أُمورِ نَفسِه أو أُمورِ المُسلمينَ.
الدليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ:أ- مِنَ الكِتابِقال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ [الأحزاب: 53] .
(أي: يا أيُّها الَّذين آمَنوا باللهِ ورَسولِه، لا تَدخُلوا بُيوتَ النَّبيِّ بغيرِ إذنٍ إلَّا أن تُدعَوا إلى دُخولِها؛ مِن أجْلِ طَعامٍ تأكلونَه فيها، فيُؤذنَ لكم.
غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ أي: والحالُ أنَّكم غيرُ مُنتَظِرينَ وَقتَ نُضجِ الطَّعامِ واستِوائِه.
وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا أي: ولكِنْ إذا دُعيتُم للدُّخولِ إلى بَيتٍ مِن بُيوتِ النَّبيِّ، فادخُلوه.
فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا أي: فإذا فَرغتُم مِنَ الطَّعامِ فاخرُجوا مِن بَيتِ النَّبيِّ، وتفَرَّقوا.
وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ أي: ولا تَمكُثوا في بَيتِه بعدَ فَراغِكم مِنَ الطَّعامِ مُستأنِسينَ بالحَديثِ.
إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ أي: إنَّ ذَلِكم كان يُؤذي النَّبيَّ ويَشُقُّ عليه، فيُصيبُه الحياءُ مِن إعلامِكم بذلك، فيَسكُتُ.
وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ أي: وإنِ استَحْيا نَبيُّكم فلم يُبيِّنْ لكم كراهِيَةَ ذلك؛ حَياءً مِنكم، فإنَّ اللهَ لا يَستَحْيي أن يُبيِّنَ لكم الحَقَّ؛ ولهذا نهاكم عن إيذاءِ نَبيِّه)
[425] ((التفسير المحرر)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدرر السنية (25/ 355-357). .
عن جُوَيريةَ بنِ أسماءَ قال: (قُرِئَ بَينَ يَدَي إسماعيلَ بنِ أبي حَكيمٍ هذه الآيةُ، فقال: هذا أدَبٌ أدَّبَ اللهُ به الثُّقَلاءَ)
[426] رواه الثعلبي في ((الكشف والبيان)) (8/ 59). .
ب- مِنَ السُّنَّةِعن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((لمَّا تَزَوَّجَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم زينَبَ بنتَ جَحشٍ دَعا القَومَ فطَعِموا، ثُمَّ جَلسوا يَتَحَدَّثونَ، قال: فأخَذَ كأنَّه يَتَهيَّأُ للقيامِ، فلم يَقوموا، فلمَّا رَأى ذلك قامَ، فلمَّا قامَ قامَ مَن قامَ مِنَ القَومِ، وإنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جاءَ ليَدخُلَ، فإذا القَومُ جُلوسٌ، ثُمَّ إنَّهم قاموا فانطَلقوا، قال: فجِئتُ فأخبَرتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّهم قَدِ انطَلقوا، قال: فجاءَ حتَّى دَخَل، فذَهَبتُ أدخُلُ، فألقى الحِجابَ بيني وبينَه، قال: وأنزَل اللهُ عَزَّ وجَلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ [الأحزاب: 53] إلى قَولِه: إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا [الأحزاب: 53] )) [427] أخرجه البخاري (6271). .
وفي رِوايةٍ عنِ الجَعدِ أبي عُثمان، عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((تَزَوَّج رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فدَخَل بأهلِه، قال: فصَنَعَت أُمِّي أمُّ سُلَيمٍ حَيسًا [428] الحَيسُ: هو التَّمرُ مَعَ السَّمنِ والأقِطِ. يُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (8/34). ، فجَعَلته في تَورٍ [429] التَّورُ: إناءٌ يُشرَبُ فيه. يُنظر: ((شرح المصابيح)) لابن الملك (6/346). ، فقالت: يا أنَسُ، اذهَبْ بهذا إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقُلْ: بَعَثَت بهذا إليك أُمِّي وهيَ تُقرِئُك السَّلامَ، وتَقولُ: إنَّ هذا لك مِنَّا قَليلٌ يا رَسولَ اللهِ! قال: فذَهَبتُ بها إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقُلت: إنَّ أُمِّي تُقرِئُك السَّلامَ، وتَقولُ: إنَّ هذا لك مِنَّا قَليلٌ يا رَسولَ اللهِ، فقال: ضَعْه، ثُمَّ قال: اذهَبْ، فادعُ لي فُلانًا وفُلانًا وفُلانًا، ومَن لقيتَ، وسَمَّى رِجالًا، قال: فدَعَوتُ مَن سَمَّى، ومَن لَقيتُ، قال: قُلتُ لأنَسٍ: عَدَدَ كَم كانوا؟ قال: زُهاءَ ثَلاثمِائةٍ! وقال لي رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا أنَسُ، هاتِ التَّورَ، قال: فدَخَلوا حتَّى امتَلأتِ الصُّفَّةُ [430] الصُّفَّةُ: مَوضِعٌ مُظَلَّلٌ في مَسجِدِ المَدينةِ، وأهلُ الصُّفَّةِ: فُقَراءُ المُهاجِرينَ ومَن لم يَكُنْ له مِنهم مَنزِلٌ يَسكُنُه، فكانوا يَأوونَ إليه. يُنظر: ((تحفة الأحوذي)) للمباركفوري (9/59). والحُجرةُ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ليَتَحَلَّقْ عَشرةٌ عَشرةٌ، وليَأكُلْ كُلُّ إنسانٍ مِمَّا يَليه، قال: فأكَلوا حتَّى شَبِعوا، قال: فخَرَجَت طائِفةٌ، ودَخَلت طائِفةٌ، حتَّى أكَلوا كُلُّهم، فقال لي: يا أنَسُ، ارفَعْ، قال: فرَفعتُ، فما أدري حينَ وُضِعَت كان أكثَرَ، أم حينَ رُفِعَت! قال: وجَلسَ طَوائِفُ مِنهم يَتَحَدَّثونَ في بَيتِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ورَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جالِسٌ وزَوجَتُه مُوَلِّيةٌ وَجْهَها إلى الحائِطِ، فثَقُلوا على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فخَرَجَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فسَلَّمَ على نِسائِه ثُمَّ رَجَعَ، فلمَّا رَأوا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَد رَجَعَ ظَنُّوا أنَّهم قَد ثَقُلوا عليه، قال: فابتَدَروا البابَ، فخَرَجوا كُلُّهم، وجاءَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، حتَّى أرخى السِّترَ، ودَخل وأنا جالسٌ في الحُجرةِ، فلم يَلبَثْ إلَّا يَسيرًا حتَّى خَرَجَ علَيَّ، وأُنزِلَت هذه الآيةُ، فخَرَجَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقَرَأهنَّ على النَّاسِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ [الأحزاب: 53] إلى آخِرِ الآيةِ.
قال الجَعدُ: قال أنَسُ بنُ مالِكٍ: أنا أحدَثُ النَّاسِ عَهدًا بهذه الآياتِ. وحُجِبْنَ نِساءُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)) [431] أخرجها مسلم (1428). .
وفي رِوايةٍ:
((لمَّا تَزَوَّجَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم زَينَبَ أهَدَت له أمُّ سُلَيمٍ حَيسًا في تَورٍ مِن حِجارةٍ، فقال أنَسٌ: فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اذهَبْ، فادعُ لي مَن لَقيتَ مِنَ المُسلمينَ، فدَعَوتُ له مَن لَقيتُ، فجَعَلوا يَدخُلونَ عليه فيَأكُلونَ ويَخرُجونَ، ووضع النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَدَه على الطَّعامِ، فدَعا فيه، وقال فيه ما شاءَ اللهُ أن يَقولَ، ولم أدَعْ أحَدًا لقيتُه إلَّا دَعوتُه، فأكَلوا حتَّى شَبِعوا، وخَرَجوا وبَقيَ طائِفةٌ مِنهم، فأطالوا عليه الحَديثَ، فجَعَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَستَحيي مِنهم أن يَقولَ لهم شَيئًا، فخَرَجَ وتَرَكَهم في البَيتِ، فأنزَل اللهُ عَزَّ وجَلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ [الأحزاب: 53] ، قال قتادةُ: غَيرَ مُتَحَيِّنينَ طَعامًا وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا [الأحزاب: 53] حتَّى بَلغَ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب: 53] )) [432] أخرجها مسلم (1428). .
قال ابنُ بَطَّالٍ: (في الحَديثِ أنَّه لا يَنبَغي لأحَدٍ أن يَدخُلَ بَيتَ غَيرِه إلَّا بإذنِه، وأنَّ الدَّاخِلَ المَأذونَ له لا يَنبَغي له أن يُطَوِّلَ الجُلوسَ فيه بَعد تَمامِ حاجَتِه التي دَخَل لها؛ لئَلَّا يُؤذيَ الدَّاخِلُ الذي أدخَلَه، ويَمنَعَ أهلَه مِنَ التَّصَرُّفِ في مَصالحِهم.
وفيه أنَّ مَن أطال الجُلوسَ في دارِ غَيرِه حتَّى كَرِه ذلك مِن فِعلِه، فإنَّ لصاحِبِ الدَّارِ أن يَقومَ بغَيرِ إذنِه، ويُظهِرَ التَّثاقُلَ عليه في ذلك حتَّى يَفطِنَ له، وأنَّه إذا قامَ فإنَّ للدَّاخِلِ القيامَ مَعَه، وأنَّه لا يَجوزُ له الجُلوسُ فيه بَعدَه إلَّا أن يَأذَنَ له في ذلك صاحِبُ المَنزِلِ)
[433] ((شرح صحيح البخاري)) (9/ 54). .
وذَكَر عياضٌ أنَّ في خُروجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ودَورانِه على نِسائِه حَتي يقَومَ الجُلوسُ عنه حُسنَ الأدَبِ مَعَ الصَّاحِبِ، واحتِمالَ أذاه، وما كان عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن حُسنِ الخُلُقِ والعِشرةِ، وأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَّا كَرِهَ جُلوسَ مَن جَلسَ لم يَأمُرْهم بالقيامِ، وتَلطَّف أوَّلًا بالتَّهَيُّؤِ للقيامِ ليَقوموا، فلمَّا لم يَقوموا تَلطَّف بخُروجِه ورُجوعِه ليَفهَموا فيَقوموا كما كان.
وفيه كَراهةُ التَّطويلِ والجُلوسِ عِندَ العَروسِ، ومَن يُعلَمُ أنَّ له شُغلًا وتَفرُّغًا لأمرٍ مِن أُمورِ نَفسِه أو أُمورِ المُسلمينَ
[434] يُنظر: ((إكمال المعلم)) (4/ 598، 599). .
وقال ابنُ هُبَيرةَ: (فيه دَليلٌ على استِحبابِ تَخفيفِ الزِّيارةِ للزَّائِرِ، ولا سيَّما عَقِبَ الطَّعامِ، فإذا طَعِمَ الضَّيفُ انتَشَرَ.
وفيه ما يَدُلُّ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان حَييًّا في التِماسِ حَقِّه، فخَرَجَ ولم يَقُلْ شَيئًا.
وفيه ما يَدُلُّ على أنَّه يَنبَغي لمَن أرادَ أن يُكثِرَ مِنَ الدُّخولِ على الكَبيرِ القَدْرِ أن يَكونَ ذا فِطنةٍ وتَلمُّحٍ، فإنَّ خُروجَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن ضَيفِه وهم في دارِه كان كافيًا لهم في التَّنبيهِ على الخُروجِ، وتَخليةِ ما بَينَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبَينَ أهلِه)
[435] ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) (5/ 25). .