موسوعة الآداب الشرعية

فوائِدُ ومَسائِلُ مُتَفرِّقةٌ


الثُّقلاءُ
عن ابنِ عائِشةَ، قال: (حَسبُك في الثُّقَلاءِ أنَّ الشَّرعَ لم يَحتَمِلْهم، وقال: فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا [الأحزاب: 53] ) [436] ((الكشف والبيان)) للثعلبي (8/ 59)، ((المحرر الوجيز)) لابن عطية (4/ 395). .
قال ابنُ عاشورٍ: (ومَعنى الثِّقَلِ فيه هو إدخالُ أحَدٍ القَلَقَ والغَمَّ على غَيرِه مِن جَرَّاءِ عَمَلٍ لفائِدةِ العامِلِ، أو لعَدَمِ الشُّعورِ بما يَلحَقُ غَيرَه مِنَ الحَرَجِ مِن جَرَّاءِ ذلك العَمَلِ. وهو مِن مَساوِئِ الخُلُقِ؛ لأنَّه إن كان عن عَمدٍ كان ضُرًّا بالنَّاسِ، وهو مَنهيٌّ عنه؛ لأنَّه مِنَ الأذى، وهو ذَريعةٌ للتَّباغُضِ عِندَ نَفادِ صَبر المَضرورِ؛ فإنَّ النُّفوسَ مُتَفاوِتةٌ في مِقدارِ تَحَمُّلِ الأذى، ولأنَّ المُؤمِنَ يُحِبُّ لأخيه ما يُحِبُّ لنَفسِه، فعليه إذا أحَسَّ بأنَّ قَولَه أو فِعلَه يُدخِلُ الغَمَّ على غَيرِه أن يَكُفَّ عن ذلك، ولو كان يَجتَني منه مَنفعةً لنَفسِه؛ إذ لا يَضُرُّ بأحَدٍ ليَنتَفِعَ غَيرُه إلَّا أن يَكونَ لمَن يَأتي بالعَمَلِ حَقٌّ على الآخَرِ، فإنَّ له طَلبَه مَعَ أنَّه مَأمورٌ بحُسنِ التَّقاضي، وإن كان إدخالُه الغَمَّ على غَيرِه عن غَباوةٍ وقِلَّةِ تَفطُّنٍ له فإنَّه مَذمومٌ في ذاتِه، وهو يَصِلُ إلى حَدٍّ يَكونُ الشُّعورُ به بَديهيًّا.
وللحُكَماءِ والشُّعَراءِ أقوالٌ كَثيرةٌ في الثُّقَلاءِ طَفحَت بها كُتُبُ أدَبِ الأخلاقِ.
ومُعامَلةُ النَّاسِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بهذا الخُلُقِ أشَدُّ بُعدًا عنِ الأدَبِ؛ لأنَّ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أوقاتًا لا تَخلو ساعةٌ مِنها عنِ الاشتِغالِ بصَلاحِ الأُمَّةِ، ويَجِبُ أن لا يَشغَلُ أحَدٌ أوقاتَه إلَّا بإذنِه؛ ولذلك قال تعالى: إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ [الأحزاب: 53] ) [437] ((التحرير والتنوير)) (22/ 84، 85). .
زيارةُ أبي عبيد القاسِمِ بنِ سَلامٍ للإمامِ أحمدَ بنِ حَنبَلٍ
فعن أبي بَكرٍ محمَّدِ بنِ يحيى بنِ سُلَيمانَ المَرْوَزيِّ، قال: قال أبو عُبَيدٍ القاسِمُ بنُ سَلامٍ: (زُرتُ أحمدَ بنَ حَنبَلٍ يومًا في بيتِه، فأجلسَني في صدرِ دارِه، وجلس دوني. فقلتُ: يا أبا عبدِ اللَّهِ، أليس يقالُ: صاحِبُ البيتِ أحَقُّ بصَدرِ بيتِه؟! فقال: نعم، يقعُدُ ويُقعِدُ مَن يريدُ. قال: فقُلتُ في نفسي: خُذْ إليك يا أبا عُبَيدٍ فائدةً! قال: ثمَّ قُلتُ له: يا أبا عبدِ اللَّهِ، لو كنتُ آتيك على نحوِ ما تستَحِقُّ لأتيتُك كُلَّ يومٍ! فقال: لا تَقُلْ؛ إنَّ لي إخوانًا لا ألقاهم إلَّا في كُلِّ سَنةٍ مرَّةً، أنا أوثَقُ بمودَّتِهم ممَّن ألقى كُلَّ يومٍ [438] روى ابنُ حِبَّانَ عن الحَسَنِ بنِ صالِحٍ، قال: (كلُّ مودَّةٍ لا تزدادُ إلَّا بالالتقاءِ مَدخولةٌ). ثم قال ابنُ حِبَّانَ: (من صحَّح الحالَ بينَه وبينَ الإخوانِ لم يَضُرَّه قِلَّةُ الاجتماعِ لاستحكامِ الحالِ بينهما، والمودَّةُ إذا أضَرَّ بها قِلَّةُ الالتقاءِ تكونُ مدخولةً، وأمَّا من لم يحلَّ في نَفسِ صِحَّةِ الحال ولم يستحكِمْ أسبابَ الوِدادِ فالتَّوقِّي من الإكثارِ في الزِّيارةِ أَولى به؛ لئلَّا يُستثقَلَ ويُمَلَّ). ((روضة العقلاء)) (ص: 116، 117). ويُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 499).  وقال أبو طالِبٍ المكِّيُّ: (أنشَد بعضُ الشُّيوخِ لبَعضِهم: وليس غريبًا من تناءت ديارُه ... ولكِنْ من يُجفى فذاك غريبُ ومن كان ذا عَهدٍ قديمٍ وذا وفا ... فلو جاوَزَ السَّدَّينِ فهو قَريبُ وقيل لسُفيان الثَّوريِّ: بمَن تَأنَسُ فقال: بقَيسِ بنِ الرَّبيعِ، وما رَأيتُه مُنذُ سَنَتينِ! وكان بَعضُهم يَقولُ: أنا بمَودَّةِ مَن غابَ عَنِّي مِن بَعضِ إخواني أوثَقُ مِنِّي بمَودَّةِ مَن يَغدو عليَّ ويَروحُ في كُلِّ يَومٍ مَرَّتينِ! وقال مُحَمَّدُ بنُ داوُدَ: قُربُ القُلوبِ على بُعدِ المَزارِ خيرٌ مِن قُربِ الدِّيارِ مِنَ الدِّيارِ). ((قوت القلوب)) (2/ 383).     ! قال: قلتُ: هذه أخرى يا أبا عُبَيدٍ! فلمَّا أردتُ القيامَ قام معي، فقُلتُ: لا تفعَلْ يا أبا عَبدِ اللَّهِ. فقال: قال الشَّعبيُّ: من تمامِ زيارةِ الزَّائرِ أن تمشيَ معه إلى بابِ الدَّارِ، وتأخُذَ برِكابِه [439] الرِّكابُ، بكسرِ الرَّاءِ: هو ما يُعَلَّقُ في السَّرجِ فيَجعَلُ الرَّاكِبُ فيه رِجلَه فيستعينُ به عندَ رُكوبِه ويعتَمِدُ عليه، والذي يكونُ من الجِلدِ يُسَمَّى غَرزًا. يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (5/ 70)، ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (8/ 186).    . قال: قلتُ: يا أبا عُبَيدٍ، هذه ثالثةٌ! قال: فمشى معي إلى بابِ الدَّارِ وأخَذ برِكابي) [440] ((مناقب الإمام أحمد)) لابن الجوزي (ص: 152). .
حُكمُ القَيلولةِ عِندَ المَزورِ
لا بأسَ بالقيلولةِ [441] قال يَقيلُ قيلًا وقَيلولةً: نام نِصفَ النَّهارِ، والقائِلةُ: وَقتُ القَيلولةِ، وقد تُطلَقُ على القَيلولةِ. والفِعلُ الماضي منه ومِنَ القَولِ مُشتَرِكٌ، بخلافِ المضارعِ، فقال يَقيلُ من القائِلةِ، وقال يقولُ مِنَ القولِ. يُنظر: ((المصباح المنير)) للفيومي (2/ 521)، ((فتح الباري)) لابن حجر (11/ 71). عندَ المَزورِ [442] قال البخاريُّ في كتابِ الاسئذانِ من "صحيحه": (بابٌ: مَن زار قومًا فقال عندَهم)، ثمَّ ساق حديثَي أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه. يُنظر: ((صحيح البخاري)) (8/ 63). ، ولا سِيَّما إن عَلِمَ أنَّ ذلك يَسُرُّه ويَفرَحُ به [443] يُنظر: ((الإفصاح)) لابن هبيرة (5/ 266). ، مع مراعاةِ حالِه وعَدَمِ التَّضييقِ عليه وإحراجِه.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن ثُمامةَ، عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ أُمَّ سُلَيمٍ كانت تَبسُطُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نِطعًا [444] النِّطعُ: فَراشٌ مِنَ الجِلدِ. ((المفاتيح)) للمظهري (6/ 128). ، فيَقيلُ عِندَها [445] قال الدَّاوديُّ: (كانت أمُّ سُلَيمٍ وأُمُّ حَرامٍ وأخوهما حَرامٌ أخوالَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ الرَّضاعةِ. وقال ابنُ وهبٍ: أمُّ حَرامٍ خالةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولم يَقُلْ: مِنَ الرَّضاعةِ). ((التوضيح لشرح الجامع الصحيح)) (29/ 137). على ذلك النِّطعِ، قال: فإذا نامَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخَذَت مِن عَرَقِه وشَعرِه، فجَمَعَته في قارورةٍ، ثُمَّ جَمَعَته في سُكٍّ [446] السُّكُّ: شَيءٌ يُتَطَيَّبُ به. ((جامع الأصول)) لابن الأثير (11/ 246). وقال ابنُ الأثيرِ أيضًا: (هو طِيبٌ مَعروف يُضافُ إلى غَيرِه مِنَ الطِّيبِ ويُستَعمَلُ). ((النهاية)) (2/ 384). . قال: فلمَّا حَضَرَ أنَسَ بنَ مالكٍ الوَفاةُ، أوصى إليَّ أن يُجعَلَ في حَنوطِه [447] الحَنوطُ: ما تُطَيَّبُ به أكفانُ المَيِّتِ خاصَّةً. ((جامع الأصول)) لابن الأثير (11/ 246). مِن ذلك السُّكِّ، قال: فجُعِل في حَنوطِه)) [448] أخرجه البخاري (6281) واللفظ له، ومسلم (2331). .
ففي هذا جَوازُ القائِلةِ للإمامِ والرَّئيسِ والعالمِ عِندَ مَعارِفِه وثِقاتِ إخوانِه، وأنَّ ذلك مِمَّا يُسقِطُ المُؤنةَ ويُثبِّتُ المَودَّةَ ويُؤَكِّدُ المَحَبَّةَ [449] ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (9/ 59). .
2- عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا ذَهَبَ إلى قُباءٍ يَدخُلُ على أُمِّ حَرامٍ بنتِ مِلحانَ فتُطعِمُه، وكانت تَحتَ عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ، فدَخَل يَومًا فأطعَمَته، فنامَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ استَيقَظَ يَضحَكُ، قالت: فقُلتُ: ما يُضحِكُك يا رَسولَ اللهِ؟ فقال: ناسٌ مِن أُمَّتي عُرِضوا عليَّ غُزاةً في سَبيلِ اللهِ، يَركَبونَ ثَبجَ [450] أي: ظَهرُه ووسَطُه. يُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (13/ 58). هذا البَحرِ، مُلوكًا على الأَسِرَّةِ -أو قال: مِثلَ المُلوكِ على الأسِرَّةِ. شَكَّ إسحاقُ [451] هو إسحاقُ بنُ عَبدِ اللهِ بنِ أبي طَلحةَ راوي الحَديثِ عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه. - قُلتُ: ادعُ اللَّهَ أن يَجعَلَني مِنهم، فدَعا، ثُمَّ وضَعَ رَأسَه فنامَ، ثُمَّ استَيقَظَ يَضحَكُ، فقُلتُ: ما يُضحِكُك يا رَسولَ اللهِ، قال: ناسٌ مِن أُمَّتي عُرِضوا عليَّ غُزاةً في سَبيلِ اللهِ، يَركَبونَ ثَبجَ هذا البَحرِ، مُلوكًا على الأسِرَّةِ، أو: مِثلَ المُلوكِ على الأسِرَّةِ، فقُلتُ: ادعُ اللَّهَ أن يَجعَلني مِنهم، قال: أنتِ مِنَ الأوَّلينَ. فرَكِبَتِ البَحرَ زَمانَ مُعاويةَ، فصُرِعَت عن دابَّتِها حينَ خَرَجَت مِنَ البَحرِ، فهَلَكَت)) [452] أخرجه البخاري (6282، 6283) واللفظ له، ومسلم (1912) .
الإكثارُ مِن الزِّيارةِ
لا بَأسَ بالإكثارِ مِنَ الزِّيارةِ إذا تَوثَّقَتِ المَودَّةُ أو كان ثَمَّ خُصوصيَّةٌ، ما لم يُؤَدِّ الإكثارُ إلى الإملالِ والمَشَقَّةِ على النَّاسِ وإحراجِهم [453] قال البخاريُّ في كتابِ الأدَبِ من ((صحيحه)): (بابٌ: هل يزورُ صاحِبَه كُلَّ يومٍ أو بُكرةً وعَشيًّا). ((صحيح البخاري)) (8/ 21). والعَشِيُّ: قيل: من الزَّوالِ إلى العَتَمةِ، وقيل: إلى الفَجرِ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 498). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
عن عائِشةَ زَوجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قالت: ((لم أعقِلْ أبَويَّ إلَّا وهما يَدينانِ الدِّينَ، ولم يَمُرَّ عليهما يَومٌ إلَّا يَأتينا فيه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طَرَفَيِ النَّهارِ بُكرةً وعَشيَّةً، فبَينَما نَحنُ جُلوسٌ في بَيتِ أبي بَكرٍ في نَحرِ الظَّهيرةِ [454] الظَّهيرةُ: شِدَّةُ الحَرِّ، ونَحرُها: أوَّلُها. ونَحرُ كُلِّ شَيءٍ: أوَّلُه. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (2/ 273). ، قال قائِلٌ: هذا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، في ساعةٍ لم يَكُنْ يَأتينا فيها، قال أبو بَكرٍ: ما جاءَ به في هذه السَّاعةِ إلَّا أمرٌ، قال: إنِّي قد أذِنَ لي بالخُروجِ)) [455] أخرجه البخاري (6079) .
قال ابنُ بَطَّالٍ: (في هذا الحَديثِ جَوازُ زيارةِ الصَّديقِ المُلاطِفِ مَرَّتَينِ كُلَّ يَومٍ، وليسَ بمُعارِضٍ لحَديثِ أبي هُرَيرةَ: «زِد غِبًّا تَزدَدْ حُبًّا [456] قال أبو عُبَيدٍ القاسِمُ بنُ سَلامٍ: (أمَّا الغِبُّ في الزِّيارةِ فمَعناه الإبطاءُ والتَّقليلُ على غَيرِ وقتٍ مَعلومٍ، وأحسَبُ الأصلَ فيها كان مِن غَبَّ الوِردَ، وهو أن تَرِدَ الإبلُ الماءَ يَومًا وتَدَعَ يَومًا، ومِثلُه غبُّ الحُمَّى، ثُمَّ انتَقَل المَعنى مِن هذا في الزِّيارةِ خاصَّةً إلى ما فوقَ وقتِ الوِردِ ووقتِ الحُمَّى، ومِن هذا المَعنى قَولُه في الحَديثِ: «زُرْ غِبًّا تَزدَدْ حُبًّا». فقد عُلمَ في هذا أنَّه إنَّما أرادَ الإبطاءَ في الزِّيارةِ، ولم يُرِدْ يَومًا، ويَومًا لا، وكذلك الإلمامُ هو نَحوُ الغِبِّ، وإنَّما مَعناه الأحيانُ على غَيرِ مواظِبةٍ ولا وقتٍ مَحدودٍ). ((الأمثال)) (ص: 379). » [457] أخرجه الطيالسي (2658)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (5641)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (8008) بلفظ: "زر". أنكره أبو حاتم الرازي كما في ((العلل)) لابن أبي حاتم (2545)، وقال البزار كما في ((مجمع الزوائد)) (8/178): لا يعلم فيه حديث صحيح، وقال العقيلي في ((الضعفاء الكبير)) (2/139)، وابن الجوزي في ((العلل المتناهية)) (2/740): ليس فيه شيء يثبت، وضعف سنده البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (5/496). مَعَ بَيانِ ضَعفِه، ذَكَرَه أبو عُبَيدٍ في كِتابِ "الأمثالِ"، وإنَّما في قَولِه هذا إعلامٌ مِنه عليه السَّلامُ أنَّ إغبابَ الزِّيارةِ أزيَدُ في المَحَبَّةِ وأثبَتُ للمَودَّةِ؛ لأنَّ مواتَرةَ الزِّيارةِ والإكثارَ مِنها رُبَّما أدَّت إلى الضَّجَرِ، وأبدَت أخلاقًا كامِنةً لا تَظهَرُ عِندَ الإغبابِ، فآلت إلى البِغضةِ، وكانت سَبَبًا للقَطيعةِ أو للزُّهدِ في الصَّديقِ. وفي حَديثِ عائِشةَ في هذا البابِ جَوازُ زيارةِ الصَّديقِ المُلاطِفِ لصَديقِه كُلَّ يَومٍ على قَدرِ حاجَتِه إليه والانتِفاعِ به في مُشارَكَتِه له؛ فهما حَديثانِ مُختَلِفانِ، لكُلٍّ مِنهما مَعنًى غَيرُ مَعنى صاحِبِه، وليسا بمُتَعارِضَينِ) [458] ((شرح صحيح البخاري)) (9/ 274). .
ونَقَل ابنُ المُلقِّنِ كَلامَ ابنِ بَطَّالٍ، وزاد: (وما أحسَنَ قَولَه:
إذا حَقَّقتَ مِن شَخصٍ وِدادًا
فزُرْه ولا تَخَفْ مِنه مَلالا
وكُنْ كالشَّمسِ تَطلُعُ كُلَّ يَومٍ
ولا تَكُ في زيارَتِه هِلالا
رَدًّا على قَولِ الآخَرِ:
لا تَزُرْ مَن تُحِبُّ في كُلِّ شَهرٍ
غَيرَ يَومٍ ولا تَزِدْه عليه
فاجتِلاءُ الهلالِ في الشَّهرِ يَومًا
ثُمَّ لا تَنظُرُ العُيونُ إليه) [459] ((التوضيح)) (28/ 437، 438). .
قال ابنُ حِبَّانَ: (النَّاسُ في الزِّيارةِ على ضَربَينِ؛ فمِنهم مَن صَحَّحَ الحالَ بَينَه وبَينَ أخيه وتَعَرَّى عن وُجودِ الخَلَلِ ووُرودِ البُغضِ فيه، فإذا كان بهذا النَّعتِ أحبَبتُ له الإكثارَ مِنَ الزِّيارةِ والإفراطَ في الاجتِماعِ؛ لأنَّ الإكثارَ مِنَ الزِّيارةِ بَينَ مَن هذا نَعتُه لا يورِثُ المَلالةَ، والإفراطَ في الاجتِماعِ بَينَ مَن هذه صِفتُه يَزيدُ في المُؤانَسةِ.
والضَّربُ الآخَرُ لم يَستَحكِمِ الوُدُّ بَينَه وبَينَ مَن يواخيه ولا أدَّاهما الحالُ إلى ارتِفاعِ الحِشمةِ بَينَهما فيما يَبتَذِلانِ لمِهنَتَيهما، فإذا كان بهذا النَّعتِ أحبَبتُ له الإقلالَ مِنَ الزِّيارةِ؛ لأنَّ الإكثارَ مِنها بَينَهما يُؤَدِّي إلى المَلالةِ، وكُلُّ مَبذولٍ مَملولٌ، وكُلُّ مَمنوعٍ مَلذوذٌ) [460] ((روضة العقلاء)) (ص: 116). .
جملةٌ مِن آدابِ الزِّيارةِ والزَّائرِ
قال القاسِميُّ في أدَبِ الزِّيارةِ والزَّائِرِ: (الزِّيارةُ هيَ الواسِطةُ الوحيدةُ لدَوامِ رابطةِ الأُخوَّةِ والصُّحبةِ، إلَّا أنَّ كَثرَتَها رُبَّما كانت مَجلَبةً للمَلَلِ، وقِلَّتُها مَدعاةٌ للإيحاشِ وضَعفِ المَودَّةِ [461] قال ابنُ دقيقِ العيدِ وهو يذكُرُ أمثلةً لمرتبةِ الاقتصادِ في الشَّرعِ: (زيارةُ الإخوانِ مَطلوبةٌ مُرَغَّبٌ فيها، والإكثارُ منها داعيةُ الملالةِ، والإبطاءُ فيها يُسلِمُ إلى الجفاءِ والوَحشةِ). ((شرح الإلمام)) (5/ 98). .
ويَجِبُ أن تَكونَ في غَيرِ وقتِ النَّومِ، وتَحسُنُ في غَيرِ وقتِ الأكلِ.
وأن تَكونَ بمَلابسَ نَظيفةٍ، وهَيئةٍ حَسَنةٍ.
وأن يَطرُقَ البابَ بلُطفٍ إلى ثَلاثٍ، وله بَعدَها الانصِرافُ، ومَن لم يَجِدِ المَزورَ فليَترُكِ اسمَه مَعَ الخادِمِ أو على بطاقةٍ.
ومَن وجَدَ البابَ مَفتوحًا فلا يَدخُلْ إلَّا بَعدَ أن يَستَأذِنَ له الخادِمُ، أو يُرسِلَ مَعَه بطاقَتَه.
ولا يُفاجِئُ المَزورَ مُفاجَأةً؛ فإنَّ ذلك يُؤلمُ مَن فوجِئَ في بَدءِ رُؤيَتِه.
ومَن شَعَرَ أنَّ لمَزورِه شُغلًا أو تَهَيَّأ لحاجةٍ فليُبادِرْ بالانصِرافِ، ولو رَغِبَ إليه بالمُكثِ.
ومَن وجَدَه يُناجي أحَدًا في حَديثٍ فليَعتَزِلْهما جانِبًا، ويَتَشاغَل انتِظارًا لفراغِهما.
وإذا وجَدَه في كِتابةٍ أو قِراءةٍ فلا يَتَطَلَّعْ إليها ويَسألْه عنها، ولا يدلَّ عليه بتَفتيشِ أوراقِه وخِزانَتِه.
ولا يَتَناجى مَعَ غَيرِه بحَضرةِ المَزورِ، ولا يُطيلُ مُدَّةَ المُقابَلةِ، ولا يَنصَرِفُ إلَّا باستِئذانٍ.
وإذا وعَدَ أحَدًا لزيارَتِه فلا يُخلِفُ وَعدَه مَعَه، وليَكُنْ حُضورُه في الوقتِ المُعيَّنِ، وإن طَرَأ عُذرٌ فيَجِبُ إخبارُه قَبلَ الميعادِ) [462] ((جوامع الآداب)) (ص: 117، 118). .
وقال عَبدُ الفتَّاحِ أبو غُدَّة: (إذا طَرَقتَ بابَ أخيك أو صَديقِك أو بَعضِ مَعارِفِك، أو أحَدٍ تَقصِدُه، فدُقَّ البابَ دَقًّا رَفيقًا يُعَرِّفُه وُجودَ طارِقٍ بالبابِ، ولا تَدُقَّه بعُنفٍ وشِدَّةٍ كدَقِّ الظَّلَمةِ والزَّبانيةِ؛ فتُرَوِّعَه وتُخِلَّ بالأدَبِ.
جاءَتِ امرَأةٌ إلى الإمامِ أحمَدَ بنِ حَنبَلٍ لتَسألَه عن شَيءٍ مِن أُمورِ الدِّينِ، ودَقَّتِ البابَ دَقًّا فيه بَعضُ العُنفِ، فخَرَجَ وهو يَقولُ: هذا الشُّرَطُ؛ جَمعُ شُرطيٍّ!
وهذا الدَّقُّ اللَّطيفُ الرَّفيقُ مَطلوبٌ فيمَن كان جُلوسُه قَريبًا مِن بابِه، وأمَّا مَن بَعُد عنِ البابِ فيُقرَعُ عليه قَرعًا يَسمَعُه في مَكانِه مِن غَيرِ عُنفِ، وسَبقَ ذِكرُ الحَديثِ الشَّريفِ: ((إنَّ الرِّفقَ لا يَكونُ في شَيءٍ إلَّا زانَه، ولا يُنزَعُ مِن شَيءٍ إلَّا شانَه)) [463] أخرجه مسلم (2594) من حديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. . وقال أيضًا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((مَن يُحرَمِ الرِّفقَ يُحرَمِ الخَيرَ كُلَّه)) [464] أخرجه أبو داود (4809) من حديثِ جَريرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحه ابنُ باز في ((مجموع الفتاوى)) (2/351)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4809). وأخرجه مسلم (2592) دونَ لفظةِ: ((كُلَّه)). .
ويَنبَغي أن تَجعَلَ بَينَ الدَّقَّتَينِ زَمَنًا غَيرَ قَليلٍ؛ ليَفرُغَ المُتَوضِّئُ مِن وُضوئِه في مَهلٍ، وليَنتَهيَ المُصَلِّي مِن صَلاتِه في مَهلٍ، وليَفرُغَ الآكِلُ مَن لُقمتِه في مَهلٍ. وقدَّر بَعضُ العُلماءِ الانتِظارَ بَينَ الدَّقَّتَينِ بمِقدارِ صَلاةِ أربَعِ رَكَعاتٍ؛ إذ قد يَكونُ في بَدءِ طَرقِك البابَ قد بَدَأ بصَلاتِها.
وإذا طَرَقتَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مُتَباعِدةً، ووقَعَ في نَفسِك أنَّه لو كان غَيرَ مَشغولٍ عنك لخَرَجَ إليك، فانصَرِفْ؛ فقد قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه سَلَّمَ: ((إذا استَأذَنَ أحَدُكُم ثَلاثًا فلم يُؤذَنْ له، فليَنصَرِفْ)) [465] أخرجه البخاري (6245)، ومسلم (2153) بلفظ: ((إذا استَأذَنَ أحَدُكُم ثَلاثًا فلم يُؤذَنْ له، فليَرجِعْ)) من حديثِ أبي موسى الأشعَريِّ وأبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
ولا تَقِفْ عِندَ استِئذانِك أمامَ فُتحةِ البابِ، ولكِن خُذْ يَمنةً أو يَسرةً؛ فقد كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا أتى بابَ قَومٍ لم يَستَقبِلْه مِن تِلقاءِ وَجهِه، ولكِنْ مِن رُكنِه الأيمَنِ أوِ الأيسَرِ [466] أخرجه أبو داود (5186) باختلافٍ يسيرٍ، وأحمد (17694) بنحوِه، ولفظُ أبي داودَ: عن عبد الله بن بسر، قال: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا أتى بابَ قَومٍ لم يَستَقبِلِ البابَ مِن تِلقاءِ وَجهِه، ولكِنْ مِن رُكنِه الأيمَنِ أوِ الأيسَرِ)). جود إسناده الألباني في ((هداية الرواة)) (4597)، وحسنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((زاد المعاد)) (2/380). .
وإذا طَرَقتَ بابَ أحَدٍ مِن إخوانِك فقيل لك: مَن هذا؟ فقُل: فُلانٌ، باسمِك الصَّريحِ الذي تُعرَفُ به، ولا تَقُلْ: واحِدٌ، أو أنا، أو شَخصٌ؛ فإنَّ هذه الألفاظَ لا تُفيدُ السَّائِلَ مِن خَلفِ البابِ مَعرِفةً بالشَّخصِ الطَّارِقِ، ولا يَصِحُّ لك أن تَعتَمِدَ على أنَّ صَوتَك مَعروفٌ عِندَ مَن تَطرُقُ عليه؛ فإنَّ الأصواتَ تَلتَبسُ وتَشتَبهُ، وإنَّ النَّغْمةَ تُشبِهُ النَّغْمةَ، وليسَ كُلُّ مَن في الدَّارِ التي تَطرُقُ بابَها يَعرِفُ صَوتَك وحِسَّك، أو يُمَيِّزُه، والسَّمعُ في تَمييزِه الأصواتَ يُخطِئُ ويُصيبُ.
وإذا زُرتَ أحَدَ إخوانِك دونَ مَوعِدٍ، أو على مَوعِدٍ سابقٍ مِنه، فاعتَذَرَ لك عن قَبولِ زيارَتِك له، فاعذِرْه؛ فإنَّه أدرى بحالِ بَيتِه ومُلابَساتِ شَأنِه، فقد يَكونُ جَدَّ لدَيه مانِعٌ مِنَ المَوانِعِ الخاصَّةِ، أو حَصَل عِندَه مِنَ الحَرَجِ ما لا يَسمَحُ له باستِقبالِك وقتَئِذٍ، فله أن يَعتَذِرَ لك دونَ تَحَرُّجٍ.
قال قتادةُ بنُ دِعامةَ السَّدوسيُّ: "ولا تَقِفَنَّ على بابِ قَومٍ رَدُّوك عن بابِهم؛ فإنَّ لك حاجاتٍ، ولهم أشغالًا، وإنَّهم أَولى بالعُذرِ".
وكان الإمامُ مالكٌ يَقولُ: "ليسَ كُلُّ النَّاسِ يَقدِرُ أن يَتَكَلَّمَ بعُذرِه".
ولذا كان مِن أدَبِ السَّلَفِ عِندَ زيارَتِهم أن يَقولَ الزَّائِرُ للمَزورِ: "لعَلَّه بَدا لك مانِعٌ"؛ تَمهيدًا لبَسطِ العُذرِ مِنَ المَزورِ فيما لوِ اعتَذَرَ.
ولأهَمِّيَّةِ هذا الأدَبِ، واقتِلاعِ ما قد يَعلَقُ ببَعضِ النُّفوسِ مِن جَرَّاءِ الاعتِذارِ، نَصَّ اللَّهُ تعالى عليه في كِتابِه الكَريمِ، فقال في مَعرِضِ الزِّيارةِ والاستِئذانِ والدُّخولِ: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [النور: 28] .
وفي هذا الأدَبِ القُرآنيِّ العَظيمِ مَندوحةٌ عَمَّا يَقَعُ فيه بَعضُهم حينَ يُحرَجُ بزيارةِ مَن لا يَرغَبُ بلقائِه، فيُضطَرُّ إلى الإخبارِ بعَدَمِ وُجودِه في البَيتِ، ويَكونُ هو فيه، فيَقَعُ منه الكَذِبُ، ويَتَعَلَّمُ صِغارُه منه ذلك الخُلُقَ المَكروهَ أيضًا، وقد يَنجُمُ عن سُلوكِه هذا العَداوةُ والإحَنُ في الصُّدورِ.
والهَديُ القُرآنيُّ الكَريمُ جَنَّبنا الوُقوعَ في ذلك كُلِّه؛ إذ جَعَل بوُسعِ المَزورِ أن يَتَلطَّفَ بالاعتِذارِ لأخيه، وطَلبَ مِن أخيه أن يَقبَلَ عُذرَه: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [النور: 28] .
وعِندَما تَستَأذِنُ على بَيتِ غَيرِك لتَدخُلَ إليه، حافِظْ على بَصَرِك مِن أن يَقَعَ على داخِلِ الدَّارِ أو عَورةٍ فيها؛ فإنَّ ذلك عَيبٌ وإساءةٌ.
وعِندَما تَزورُ بَيتَ أخيك -أو تَدخُلُ بَيتَك- كُنْ لطيفًا في مَدخَلِك ومَخرَجِك، غاضًّا طَرفَك وصَوتَك، واخلَعْ حِذاءَك في مَحَلِّه، وصُفَّ نَعلَيك أثناءَ خَلعِهما، ولا تَدَعْهما هَكَذا وهَكَذا، ولا تَنسَ آدابَ لُبسِ الحِذاءِ وخَلعِه: تَلبَسُ اليُمنى أوَّلًا، وتَخلعُ اليُسرى أوَّلًا؛ قال رَسولُ صَلَّى اللهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا انتَعَل أحَدُكُم فليَبدَأْ باليَمينِ، وإذا نَزَعَ فليَبدَأْ بالشِّمالِ، لتَكُنِ اليُمنى أوَّلَهما تُنعِلُ، وآخِرَهما تَنزِعُ)) [467] أخرجه البخاري (5856) واللَّفظُ له، ومسلم (2097) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وقَبلَ الدُّخولِ إلى بَيتِك أو بَيتِ أخيك انظُرْ في نَعلَيك، فإذا رَأيتَ فيهما شَيئًا مِن آثارِ الطَّريقِ فأمِطْه عنهما، وادلُكْهما في الأرضِ ليَنزاحَ عنهما ما عَلَقَ بهما؛ فإنَّ الإسلامَ دينُ النَّظافةِ واللَّطافةِ.
ولا تُنازِعْ مُضيفَك أو أخاك في المَكانِ الذي يُجلِسُك فيه مِن مَنزِلِه، بَل لا تَجلِسْ إلَّا حَيثُ يُجلِسُك؛ فلعَلَّك -إن جَلستَ كَما تُريدُ- تَجلسُ إلى مَكانٍ فيه إطلالٌ على عَورةٍ مِن عَوراتِ الدَّارِ، أو فيه إحراجٌ لساكِنيها، فعليك بامتِثالِ ما يَأمُرُك به مُضيفُك.
وإذا دَخَلتَ بَيتَ أخيك أو صَديقِك، وأقعَدَك فيه، أو أنامَك فيه، فلا تَتَفقَّدْه ببَصَرِك تَفقُّدَ الفاحِصِ المُمَحِّصِ، بَل غُضَّ بَصَرَك في أثناءِ قُعودِك أو مَنامِك فيه، قاصِرًا نَظَرَك على ما تَحتاجُ إليه فحَسبُ.
ولا تَفتَحْ مُغلَقًا مِن خِزانةٍ، أو صُندوقٍ، أو مَحفظةٍ، أو صُرَّةٍ مَلفوفةٍ، أو شَيءٍ مَستورٍ؛ فإنَّ هذا خِلافُ أدَبِ الإسلامِ والأمانةِ التي خَوَّلك بها أخوك أو مُحِبُّك في دخولِ بَيتِه والمُقامِ عِندَه.
فاعرِفْ لزيارَتِك آدابَها، واسلُكْ لحُسنِ المُعاشَرةِ أبوابَها، تَزدَدْ عِندَ مُضيفِك حُبًّا وأدَبًا، واللَّهُ تعالى يَرعاك ويَتَولَّاك.
ويَنبَغي أن تَتَخَيَّرَ الوقتَ المُلائِمَ للزِّيارةِ، وأن تَجلسَ المَدَّةَ المُناسِبةَ التي تَتَلاقى مَعَ مُقامِك عِندَ المَزورِ، ومَعَ الحالِ التي هو عليها، فلا تُطِلْ ولا تُثقِلْ، ولا تَأتِ في وقتٍ غَيرِ مُلائِمٍ لزيارَتِه، كَوقتِ الطَّعامِ أوِ النَّومِ أوِ الرَّاحةِ أوِ السُّكونِ.
وإذا تَحَدَّثتَ عِندَ مَن تَزورُه فلا تَتَحَدَّثْ إلَّا بما يُناسِبُ المَقامَ مَعَ الإيجازِ...، واعرِفْ للكَبيرِ قدرَه وحَقَّه، وإذا دَخَلتَ أو خَرَجتَ فقدِّمْه عليك في الدُّخولِ والخُروجِ، وإذا التَقَيتَ به فأعطِه حَقَّه مِنَ السَّلامِ والاحتِرامِ، وإذا اشتَرَكتَ مَعَه في حَديثٍ فمَكِّنْه مِنَ الكَلامِ قَبلَك، واستَمِعْ إليه بإصغاءٍ وإجلالٍ، وإذا كان في الحَديثِ ما يَدعو للمُناقَشةِ فناقِشْه بأدَبٍ وسَكينةٍ ولُطفٍ، وغُضَّ مِن صَوتِك في حَديثِك إليه، وإذا خاطَبتَه أو نادَيتَه فلا تَنسَ تَكريمَه في الخِطابِ والنِّداءِ.
وإذا خَرَجتَ لاستِقبالِ والدٍ أو قَريبٍ مُعظَّمٍ أو صَديقٍ مُماثِلٍ، أو رَفيقٍ دونَك، أو قَدِمتَ مِن سَفرٍ عليهم، فلاحِظْ نَظافةَ أطرافِك، وحُسْنَ هيئَتِك، وانتِظامَ مَظهَرِك اللَّائِقِ بك إن كان هو دونَك، واللَّائِقِ به إن كان هو فوقَك؛ فإنَّ العَينَ تُسَرُّ بالطَّلعةِ الجَميلةِ المُتَناسِقةِ، والصُّورةِ المُنسَجِمةِ، والنَّظافةِ المُتَكامِلةِ [468] عن عَبدِ اللَّهِ مَولى أسماءَ، قال: ((أخرجَت إليَّ أسماءُ جُبَّةً مِن طَيالسةٍ عَليها لِبْنةٌ شِبرٌ مِن ديباجٍ، وإنَّ فرجَيها مَكفوفانِ به، فقالت: هذه جُبَّةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كان يَلبَسُها للوُفودِ، ويَومَ الجُمُعةِ)). أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد)) (348). حَسَّنه الألبانيُّ في ((صحيح الأدب المفرد)) (266). وأخرجه مسلم (2069) بمَعناه، ولفظُه: عن عَبدِ اللَّهِ مَولى أسماءَ بنتِ أبي بَكرٍ -وكان خالَ وَلَدِ عَطاءٍ- قال: أرسَلَتني أسماءُ إلى عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ، فقالت: بَلغَني أنَّكَ تُحَرِّمُ أشياءَ ثَلاثةً: العَلَمَ في الثَّوبِ، ومِيثَرةَ الأُرجوانِ، وصَومَ رَجَبٍ كُلِّه، فقال لي عَبدُ اللهِ: أمَّا ما ذَكَرتَ مِن رَجَبٍ فكَيف بمَن يَصومُ الأبَدَ؟ وأمَّا ما ذَكَرتَ مِنَ العَلَمِ في الثَّوبِ، فإنِّي سَمِعتُ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ يَقولُ: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: إنَّما يَلبَسُ الحَريرَ مَن لا خَلاقَ له، فخِفتُ أن يَكونَ العَلَمُ مِنه، وأمَّا مِيثَرةُ الأُرجوانِ، فهذه مِيثَرةُ عَبدِ اللهِ. فإذا هيَ أُرجوانٌ، فرَجَعتُ إلى أسماءَ فخَبَّرتُها، فقالت: هذه جُبَّةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأخرجَت إليَّ جُبَّةَ طَيالِسةٍ كِسرَوانيَّةً، لها لِبْنةُ ديباجٍ، وفَرْجَيها مَكفوفينِ بالدِّيباجِ، فقالت: هذه كانت عِندَ عائِشةَ حتَّى قُبضَت، فلمَّا قُبضَت قَبَضتُها، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَلبَسُها، فنَحنُ نَغسِلُها للمَرضى يُستَشفى بها. وعن أبي خَلدةَ، قال: (جاءَ عَبدُ الكَريمِ أبو أُميَّةَ إلى أبي العاليةِ، وعليه ثيابُ صوفٍ، فقال أبو العاليةِ: إنَّما هذه ثيابُ الرُّهبانِ، إن كان المسلِمونَ إذا تَزاوَروا تَجَمَّلوا). أخرجه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (8727)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (348)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (2/217). .
وحَذارِ أن تَتَوانى في بَعضِ مَظاهرِك؛ فإنَّ ذلك يَنقُصُ مِن لَذاذةِ فَرحةِ اللِّقاءِ، ويُقَلِّصُ مِنِ استيفاءِ العَينِ حَقَّها مِمَّن تُحِبُّ وتُعِزُّ.
وإذا كان بإمكانِك اصطِحابُ شَيءٍ مِنَ الهَديَّةِ للقادِمِ عليهم، أوِ القادِمينَ عليك، بمُقابِلِ هَديَّتِهم، فافعَلْ؛ فإنَّ العَينَ تَتَطَلَّعُ إلى الطُّرفةِ في بَهجةِ اللِّقاءِ، وتَتَوقَّعُ إمتاعَ النَّفسِ وغَمرَ الشُّعورِ بالسُّرورِ الظَّاهرِ والباطِنِ، والهَديَّةُ تَفعَلُ ذلك) [469] ((من أدب الإسلام)) (ص: 17). .
جملةٌ مِن آدابِ المزورِ
قال القاسِميُّ في آدابِ المَزورِ: (يَلزَمُ المَزورَ أن يَستَقبِلَ زائِرَه ببَشاشةٍ وطَلاقةِ وَجهٍ، وأن يُصافِحَه ويُرَحِّبَ به، ويُظهِرَ السُّرورَ بزيارَتِه، ويَشكُرَه على تَفضُّلِه، وألَّا يَتَقدَّمَ على زائِرِه في مَجلِسٍ، وفي تَناوُلِ مَشروبٍ، وألَّا يُحَدِّثَه بالأراجيفِ، ولا بما يَسوءُه، وإذا بَغَتَته نائِبةٌ أو مُصيبةٌ فليَكتُمْها عن زائِرِه، وليَتَجَلَّدْ في إكمالِ الجَلسةِ، وأن يَلتَفِتَ لزائِريه بالتَّساوي، فلا يُؤثِرْ بحَديثِه أحَدًا مِنهم، وأن يُسامِرَه بمَشرَبِه وما يَهواه، وأن يَستَسمِحَه في إنهاءِ شُغلٍ إن كان لدَيه ليَتَفرَّغَ لمُخاطَبَتِه، وأن يَمشيَ مَعَه إلى البابِ، وأن يَرُدَّ له بَعدَ أيَّامٍ زيارَتَه) [470] ((جوامع الآداب)) (ص: 119). .

انظر أيضا: