موسوعة الآداب الشرعية

فوائِدُ ومَسائِلُ مُتَفرِّقةٌ


جملةٌ مِن آدابِ المضيفِ
قال الأبشيهي: (وأمَّا آدابُ المُضيفِ: فهو أن يَخدُمَ أضيافَه، ويُظهِرَ لهمُ الغِنى وبَسطَ الوجهِ.
وما أحسَنَ ما قال سَيفُ الدَّولةِ بنُ حَمدانَ:
مَنزِلُنا رَحبٌ لمَن زارَه
نَحنُ سَواءٌ فيه والطَّارِقُ
وكُلُّ ما فيه حَلالٌ له
إلَّا الذي حَرَّمَه الخالِقُ
وقال آخَرُ:
عَوَّدَتُ نَفسي إذا ما الضَّيفُ نَبَّهَني
عَقرَ العِشارِ على عُسرٍ وإيسارِ
ومِن آدابِ المضيفِ: أن يَتَفقَّدَ دابَّةَ ضَيفِه ويُكرِمَها قَبلَ إكرامِ الضَّيفِ.
قال الشَّاعِرُ:
مَطيَّةُ الضَّيفِ عِندي تِلوُ صاحِبِها
لن يَأمَنَ الضَّيفُ حتَّى تُكرمَ الفَرَسا
ومِن آدابِ المُضيفِ: أن يُحَدِّثَ أضيافَه بما تَميلُ إليه نُفوسُهم، ولا يَنامَ قَبلَهم، ولا يَشكوَ الزَّمانَ بحُضورِهم، ويَبَشَّ عِندَ قُدومِهم، ويَتَألَّمَ عِندَ وداعِهم، وأن لا يُحَدِّثَ بما يُرَوِّعُهم به.
وعلى المُضيفِ أن يَأمُرَ غِلمانَه بحِفظِ نِعالِ أضيافِه، وتَفقُّدِ غِلمانِهم بما يَكفيهم، ويُسَهِّلُ حِجابَه وَقتَ الطَّعامِ، ولا يَمنَعَ وارِدًا.
وعليه أن يَسهَرَ مَعَ أضيافِه ويُؤانِسَهم بلذيذِ المُحادَثةِ وغَريبِ الحِكاياتِ، وأن يَستَميلَ قُلوبَهم بالبَذلِ لهم مِن غَرائِبِ الطُّرَفِ إن كان مِن أهلِ ذلك، وأن يُريَ أضيافَه مَكانَ الخَلاءِ، فقد قيل عن مَلِكِ الهندِ: إنَّه قال: إذا ضافك أحَدٌ فأرِه الكَنيفَ؛ فإنِّي ابتُليتُ به مَرَّةً، فوضَعتُه في قَلَنسوتي!
 وعلى المُضيفِ الكَريمِ أن لا يَتَأخَّرَ عن أضيافِه، ولا يَمنَعُه عن ذلك قِلَّةُ ما في يَدِه، بَل يُحضِرُ إليهم ما وجَدَ؛ فقد جاءَ عن أنَسٍ وغَيرِه مِنَ الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ تعالى عنهم أنَّهم كانوا يُقدِّمونَ الكِسرةَ اليابسةَ وحَشَفَ التَّمرِ. ويَقولونَ: ما نَدري أيُّهما أعظَمُ وِزرًا: الذي يَحتَقِرُ ما قُدِّمَ إليه، أوِ الذي يَحتَقِرُ ما عِندَه أن يُقدِّمَه؟!
وكانت سُنَّةُ السَّلفِ رَضِيَ اللهُ عنهم أن يُقدِّموا جُملةَ الألوانِ دَفعةً؛ ليَأكُل كُلُّ شَخصٍ ما يَشتَهي.
ومِنَ السُّنَّةِ أن يُشَيِّعَ المُضيفُ الضَّيفَ إلى بابِ الدَّارِ.
ونَزَل الإمامُ الشَّافِعيُّ رَضِيَ اللهُ عنه بالإمامِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، فصَبَّ بنَفسِه الماءَ على يَدَيه، وقال له: لا يَرُعْك ما رَأيتَ مِنِّي، فخِدمةُ الضَّيفِ على المُضيفِ فَرضٌ!
ومِنَ البَلاءِ مَن يَعزِمُ على الضَّيفِ، فيَعتَذِرُ له، فيُمسِكُ عنه بمُجَرَّدِ الاعتِذارِ، كَأنَّه تَخَلَّصَ مِن وَرطةٍ!
وقيل لبَعضِ البُخَلاءِ: ما الفَرَجُ بَعدَ الشِّدَّةِ؟ قال: أن يَعتَذِرَ الضَّيفُ بالصَّومِ!
ومِنَ البُخلِ تَقديمُ الشَّيءِ اليَسيرِ وتَفخيمُه. حُكيَ عن بَعضِ البُخَلاءِ أنَّه حَلَف يَومًا على صَديقِه، وأحضَرَ له خُبزًا وجُبنًا وقال له: لا تَستَقِلَّ الجُبنَ؛ فإنَّ الرِّطلَ منه بثَلاثةِ دَراهمَ! فقال له ضَيفُه: أنا أجعَلُه بدِرهَمٍ ونِصفٍ، قال: وكَيف ذلك؟ قال: آكُلُ لُقمةً بجُبنٍ، ولُقمةً بلا جُبنٍ!
فأينَ هؤلاء مِنَ الذي يَقولُ:
قالت أما تَرحَلُ تَبغي الغِنى
قُلتُ فمَن للطَّارِقِ المُعتِمِ
قالت فهَل عِندَك شَيءٌ له
قُلتُ نَعَم جُهدُ الفتى المُعدِمِ
فكَم وحَقِّ اللهِ مِن ليلةٍ
قد أُطعِمُ الضَّيفَ ولم أطعَمِ
إنَّ الغِنى بالنَّفسِ يا هذه
ليسَ الغِنى بالمالِ والدِّرهَمِ) [572] ((المستطرف في كل فن مستطرف)) (ص: 192). .
وقال القاسمي في أدَبِ المُضيفِ: (أن يَستَقبِلَ ضَيفَه بطَلاقةِ وَجهٍ، وسِنٍّ ضَحوكٍ، وتَرحيبٍ بالغٍ، ولقًى مُبهِجٍ، ويُحَدِّثَهم بلذيذِ المُحادَثةِ وغَرائِبِ النَّوادِرِ، وألَّا يُخبرَهم بما يُفزِعُهم، وأن يَكتُمَ ما يَنوبُه مُدَّةَ حُضورِهم، وأن يَنتَظِرَهم قَبلَ الميعادِ، ولا يُمِلَّهم بالغَيبةِ عنهم، ولا يُضجِرَهم بتَأخيرِ الطَّعامِ، وأن يَخدُمَهم ويَقومَ عليهم، ويُظهِرَ لهم سَعةَ الحالِ، ويُطيلَ الحَديثَ عِندَ مُؤاكَلتِهم، ويُظهِرَ رَغبَتَه في الطَّعامِ أمامَهم تَجسيرًا لهم، وألَّا يُمسِكَ عن تَأكيدِ الدَّعوةِ بأدنى اعتِذارٍ، فيَكونَ كالمُنتَظِرِ لذلك، أوِ المُنافِقِ في دَعواه، ولا يَنامَ قَبلَهم، ولا يَشكوَ الزَّمانَ وضِيقَ الحالِ بحُضورِهم، ويَسمُرَ مَعَهم، ولا يَغضَبَ على خادِمٍ أمامَهم، ولا يَعبِسَ بوَجهِه، ولا يُفخِّمَ طَعامَه، ولا يَمدَحَ طابِخَه، ولا يُنَوِّهَ بنُدرةِ وجودِه، أو غَلاءِ سِعرِه، أوِ الانفِرادِ بعَمَلِه؛ فإنَّ ذلك دَناءةٌ وأمارةُ الشُّحِّ، وألَّا يَنتَهرَ أحَدًا ولا يَشتُمَه لدَيهم، وأن يَنزَعِجَ عِندَ استِئذانِهم، ويَتَرَوَّعَ لفِراقِهم، ويَسيرَ مَعَهم إلى البابِ. ومِمَّا يَتَعَيَّنُ عليه: تَجَنُّبُ الإسرافِ، فلا يُسيءُ التَّصَرُّفَ، ويَقتُلُ نَفسَه حُبًّا في المُفاخَرةِ) [573] ((جوامع الآداب)) (ص: 122، 123).
وقال عبد الفتاح أبو غدة: (وإذا نَزَل بك ضَيفٌ فاعرِفْ آدابَ ضيافتِه، وارعَ حَقَّ إكرامِه، ولا أعني بهذا أن تُغاليَ في طَعامِه وشَرابه، فالسُّنَّةُ الاعتِدالُ في مِثلِ هذا، والإكرامُ مِن غَيرِ سَرَفٍ مَطلوبٌ، وإنَّما أعني: أن تُحَسِّنَ مَجلِسَه ومَقيلَه ومَبيتَه، وتُعَرِّفَه القِبلةَ في مَنزِلِك، وتَدُلُّه على مَوضِعِ الطَّهارةِ والوُضوءِ، وما يَتَّصِلُ بهذا وذاكَ.
وإذا قدَّمتَ له مِنديلًا للتَّنشيفِ مِن ماءِ الوُضوءِ أو مَن غَسلِ اليَدَينِ بَعدَ الطَّعامِ أو قَبلَه، فليَكُنْ نَظيفًا غَيرَ ما تَستَعمِلُه أنتَ وأولادُك، ولا بَأسَ أن تُقَرِّبَ إليه الطِّيبَ ليَتَطَيَّبَ مِنه، والمِرآةَ ليَتَجَمَّلَ بالنَّظَرِ إليها.
ولتَكُنْ وسائِلُ الطَّهارةِ التي يَستَعمِلُها نَظيفةً، وقَبلَ دُخولِه الحَمَّامَ غَيِّبْ ما فيها مِمَّا لا يَحسُنُ أن تَقَعَ عليه عَينُ الضَّيفِ والغَريبِ.
وارعَ راحَتَه في أثناءِ النَّومِ والاستِراحةِ عِندَك، فجَنِّبْه ضَجيجَ الأولادِ وصَخَبَ البَيتِ ما استَطَعتَ.
وباعِدْ عن نَظَرِه مَلابِسَ النِّساءِ وما يَتَّصِلُ بحالِهنَّ؛ فإنَّ ذلك مِنَ الحِشمةِ المَطلوبةِ، وهو أكرَمُ لك وله.
وتَجَمَّلْ له في غَيرِ تَكَلُّفٍ، وقُمْ في خِدمَتِه بذَوقٍ وتَقديرٍ، ولا تَتَّخِذْ مِن حُسنِ الصُّحبةِ والأُلفةِ بَينَكُما مُسَوِّغًا للتَّساهُلِ والتَّبَذُّلِ مَعَه [574] عن يونُسَ بنِ عبدِ الأعلى، قال: سَمِعتُ الشَّافِعيَّ يَقولُ: (لا تُقَصِّرْ في حَقِّ أخيك اعتِمادًا على مَودَّتِه). رواه البيهقي في ((مناقب الشافعي)) (2/ 197). ؛ فقد كان السَّلفُ إذا تَزاوروا تَجمَّلوا، كَما رَواه البخاريُّ في "الأدَبِ المُفرَدِ" [575] أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد)) (348)، وأخرجه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (8727)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (2/217)، ولفظُ البخاريِّ: (جاءَ عَبدُ الكَريمِ أبو أُميَّةَ إلى أبي العاليةِ، وعليه ثيابُ صوفٍ، فقال أبو العاليةِ: إنَّما هذه ثيابُ الرُّهبانِ، إن كان المسلِمونَ إذا تَزاوَروا تَجَمَّلوا). [576] ((من أدب الإسلام)) (ص: 48). .
وقال ابنُ بَطَّالٍ: (ومِن إكرامِ الضَّيفِ أن تَأكُل مَعَه، ولا توحِشَه بأن يَأكُلَ وَحدَه، وهو مَعنى قَولِه عَليه السَّلامُ: «إنَّ لضَيفِك عليك حَقًّا» يُريدُ أن تُطعِمَه أفضَلَ ما عِندَك، وتَأكُلَ مَعَه، ألَا تَرى أنَّ أبا الدَّرداءِ كان صائِمًا فزارَه سَلمانُ، فلمَّا قَرَّبَ إليه الطَّعامَ قال: لا آكُلُ حتَّى تَأكُلَ، فأفطَرَ أبو الدَّرداءِ مِن أجلِه وأكَل مَعَه) [577] ((شرح صحيح البخاري)) (4/ 118، 119). عن أبي جحيفة قال: ((آخَى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بينَ سَلمانَ وأبي الدَّرداءِ، فزارَ سَلمانُ أبا الدَّرداءِ، فرأى أُمَّ الدَّرداءِ مُتَبَذِّلَةً، فقال: ما شأنُكِ مُتَبَذِّلَةً؟! قالتْ: إنَّ أخاكَ أبا الدَّرداءِ ليس له حاجةٌ في الدُّنيا، قال: فلمَّا جاءَ أبو الدَّرداءِ، قرَّبَ إليه طعامًا، فقال: كُلْ، فإنِّي صائمٌ، قال: ما أنا بآكِلٍ حتَّى تأكُلْ، قال: فأكَلَ، فلمَّا كان اللَّيلُ، ذهَبَ أبو الدَّرداءِ ليقومَ، فقال له سَلمانُ: نَمْ؛ فنامَ، ثمَّ ذهَبَ يقومُ، فقال له: نَمْ؛ فنامَ، فلمَّا كان عِندَ الصُّبحِ، قال له سَلمانُ: قُمِ الآنَ، فقامَا فصلَّيَا، فقال: إنَّ لنَفْسِكَ عليكَ حقًّا، ولِرَبِّكَ عليكَ حقًّا، ولِضَيْفِكَ عليكَ حقًّا، وإنَّ لِأهلِكَ عليكَ حقًّا؛ فأَعْطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ، فأَتَيَا النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فذكَرَا ذلكَ، فقال له: صَدَقَ سَلمانُ)). أخرجه الترمذي (2413) واللفظ له، وابن خزيمة (2144)، وقوام السنة في ((الترغيب والترهيب)) (2033). صححه ابن خزيمة، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2413). وأخرجه البخاري (1968) دون قوله: ((ولضيفك عليك حقًا)). .
مراتبُ حقِّ الضَّيفِ
قال ابنُ القَيِّمِ: (إنَّ للضَّيفِ حَقًّا على مَن نَزَل به، وهو ثَلاثُ مَراتِبَ: حَقٌّ واجِبٌ، وتَمامٌ مُستَحَبٌّ، وصَدَقةٌ مِنَ الصَّدَقاتِ؛ فالحَقُّ الواجِبُ يَومٌ وليلةٌ، وقد ذكَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المَراتِبَ الثَّلاثةَ في الحَديثِ المُتَّفَقِ على صِحَّتِه من حديثِ أبي شُرَيحٍ الخُزاعيِّ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ، فليُكرِمْ ضَيفَه جائِزَتَه، قالوا: وما جائِزَتُه يا رَسولَ اللهِ؟ قال: يَومُه وليلتُه، والضِّيافةُ ثَلاثةُ أيَّامٍ، فما كان وراءَ ذلك فهو صَدَقةٌ، ولا يَحِلُّ له أن يَثويَ عِندَه حتَّى يُحرِجَه») [578] ((زاد المعاد)) (3/ 575). .
وفي الحديث عنِ المِقدامِ أبي كَريمةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ليلةُ الضَّيفِ واجِبةٌ، فإن أصبَحَ بفِنائِه فهو دَينٌ له، فإن شاءَ اقتَضى، وإن شاءَ تَرَكَ)) [579] أخرجه أبو داود (3750)، وابن ماجه (3677)، وأحمد (17202) واللَّفظُ له. صححه عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الوسطى)) (3/316)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3750)، والوادعي على شرط الشيخين في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1144)، وصحح إسناده النووي في ((المجموع)) (9/57)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/408)، وقال ابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (4/1518): إسناده على شرط الصحيح. .
مَسألةٌ: حُكمُ الضِّيافةِ
تُعَدُّ الضِّيافةُ مِن مَكارِمِ الأخلاقِ، وسُنَّةِ الخَليلِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والأنبياءِ بَعدَه، وقد رَغَّبَ فيها الإسلامُ، وعَدَّها مِن أماراتِ صِدقِ الإيمانِ، وهيَ حَقٌّ مِن حُقوقِ المُسلمِ على أخيه المُسلمِ.
وقد ذَهَبَ الجمهور إلى أنَّ الضِّيافةَ سُنَّةٌ، ومُدَّتُها ثَلاثةُ أيَّامٍ.
ومن أهل العلم من يرى أنَّها واجِبةٌ، ومُدَّتُها يَومٌ وليلةٌ، والكَمالُ ثَلاثةُ أيَّامٍ.
ومنهم من يرى وُجوبَ الضِّيافةِ في حالةِ المُجتازِ الذي ليسَ عِندَه ما يُبَلِّغُه ويَخافُ الهَلاكَ [580] يُنظر: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (28/ 316، 317). .

انظر أيضا: