موسوعة الآداب الشرعية

سادسًا: عدمُ المنِّ على الضَّيفِ


مِن أدَبِ الضِّيافةِ: تَركُ الاعتِدادِ على الضَّيفِ والمَنِّ بما قدَّمَ، ويَنبَغي له أن يَستَقِلَّ ما قدَّمَ وإن كان كَثيرًا.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن لَقيطِ بنِ صَبِرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كُنتُ وافِدَ بَني المنتَفِقِ -أو في وَفدِ بَني المنتَفِقِ- إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: فلمَّا قدِمْنا على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلم نُصادِفْه في مَنزِلِه، وصادَفْنا عائِشةَ أُمَّ المُؤمِنينَ، قال: فأمَرَت لنا بخَزيرةٍ [559] قال ابنُ السِّكِّيتِ: (الخَزيرةُ: أن يُؤخَذَ اللَّحمُ الغَثُّ فيُقطَّعَ صِغارًا، ثُمَّ يُطبَخَ بالماءِ والمِلحِ. فإذا أُميتَ طَبخًا ذُرَّ عَليه الدَّقيقُ فعُصِدَ به، ثُمَّ أُدِمَ بأيِّ إدامٍ شاؤوا. ولا تَكونُ الخَزيرةُ إلَّا وفيها لحمٌ). ((الألفاظ)) (ص: 474). وقال الخَطابيُّ: (الخَزيرةُ مِنَ الأطعِمةِ: ما اتُّخِذَ بدَقيقٍ ولحمٍ، والخَزيرةُ: حَساءٌ مِن دَقيقٍ ودَسمٍ). ((معالم السنن)) (1/ 53). فصُنِعَت لنا، قال: وأُتينا بقِناعٍ [560] قال الخَطابيُّ: (القِناعُ: الطَّبَقُ، وسُمِّي قِناعًا لأنَّ أطرافَه أقنِعَت إلى داخِلٍ، أي: عُطِفَت). ((معالم السنن)) (1/ 53). -والقِناعُ: الطَّبَقُ فيه تَمرٌ- ثُمَّ جاءَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: هَل أصَبتُم شَيئًا؟ -أو أُمِرَ لكُم بشَيءٍ؟- قال: قُلنا: نَعَم يا رَسولَ اللهِ، قال: فبَينا نحن مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جُلوسٌ، إذ دَفعَ الرَّاعي غَنَمَه إلى المُراحِ، ومَعَه سَخلةٌ [561] قال الخَليلُ: (السَّخلُ: وُلدَ الشَّاةِ، ذِكرًا كان أو أُنثى، والسَّخلةُ: الواحِدةُ، والجَميعُ: السَّخلُ والسِّخالُ). ((العَين)) (4/ 197). تَيعَرُ [562] تَيعَرُ: مِنَ اليُعارِ، وهو صَوتُ الشَّاةِ. ((معالم السنن)) للخطابي (1/ 53). ، فقال: ما ولَّدتَ يا فُلانُ؟ قال: بَهمةً [563] البَهمةُ: وُلدَ الشَّاةِ أوَّلَ ما يولَدُ، يُقالُ للذَّكَرِ والأُنثى: بَهمةٌ. ((معالم السنن)) للخطابي (1/ 54). ، قال: فاذبَحْ لنا مَكانَها شاةً، ثُمَّ قال: لا تَحسِبَنَّ -ولم يَقُلْ: لا تَحسَبنَّ- أنَّا مِن أجلِك ذَبَحناها، لنا غَنَمٌ مِائةٌ لا نُريدُ أن تَزيدَ، فإذا وَلَّدَ الرَّاعي بَهمةً ذَبحْنا مَكانَها شاةً)) [564] أخرجه أبو داود (142) واللَّفظُ له، وابن حبان (1054)، والحاكم (7290). صَحَّحه ابنُ حِبانَ، وابنُ دقيقِ العيدِ في ((الاقتراح)) (125)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (142)، والوادعيُّ في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1096)، وشعيب الأرناؤوط في تَخريجِ ((سنن أبي داود)) (142). .
قال الخَطَّابيُّ: (قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لا تَحسِبنَّ أنَّا مِن أجلِك ذَبَحناها» مَعناه نَفيُ الرِّياءِ، وتَركُ الاعتِدادِ بالقِرى على الضَّيفِ) [565] ((غريب الحديث)) (3/ 224)، ((إصلاح غلط المحدثين)) (ص: 26)، ((معالم السنن)) (1/ 54). .
2- عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((تَزَوَّج رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فدَخَل بأهلِه، قال: فصَنَعَت أُمِّي أمُّ سُلَيمٍ حَيسًا [566] الحَيسُ: هو التَّمرُ مَعَ السَّمنِ والأقِطِ. يُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (8/34). ، فجَعَلَته في تَورٍ [567] التَّورُ: إناءٌ يُشرَبُ فيه. يُنظر: ((شرح المصابيح)) لابن الملك (6/346). ، فقالت: يا أنَسُ، اذهَبْ بهذا إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقُلْ: بَعَثَت بهذا إليك أُمِّي وهيَ تُقرِئُك السَّلامَ، وتَقولُ: إنَّ هذا لك مِنَّا قَليلٌ يا رَسولَ اللهِ! قال: فذَهَبتُ بها إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقُلت: إنَّ أُمِّي تُقرِئُك السَّلامَ، وتَقولُ: إنَّ هذا لك مِنَّا قَليلٌ يا رَسولَ اللهِ، فقال: ضَعْه، ثُمَّ قال: اذهَبْ، فادعُ لي فُلانًا وفُلانًا وفُلانًا، ومَن لقيتَ، وسَمَّى رِجالًا، قال: فدَعَوتُ مَن سَمَّى، ومَن لَقيتُ، قال: قُلتُ لأنَسٍ: عَدَدَ كَم كانوا؟ قال: زُهاءَ [568] زُهاءَ كذا: أي: قَدْرَ ذلك وما يقارِبُه. يُنظر: ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (3/ 241)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (11/ 345). ثَلاثمِائةٍ! وقال لي رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا أنَسُ، هاتِ التَّورَ، قال: فدَخَلوا حتَّى امتَلأتِ الصُّفَّةُ [569] الصُّفَّةُ: مَوضِعٌ مُظَلَّلٌ في مَسجِدِ المَدينةِ، وأهلُ الصُّفَّةِ: فُقَراءُ المُهاجِرينَ ومَن لم يَكُن له مِنهم مَنزِلٌ يَسكُنُه، فكانوا يَأوونَ إليه. يُنظر: ((تحفة الأحوذي)) للمباركفوري (9/59). والحُجرةُ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ليَتَحَلَّقْ عَشرةٌ عَشرةٌ، وليَأكُلْ كُلُّ إنسانٍ مِمَّا يَليه، قال: فأكَلوا حتَّى شَبِعوا...)) الحَديثَ [570] أخرجه مسلم (1428). .
قال ابنُ هُبَيرةَ: (فيه استِحبابُ استِقلالِ ما يُهديه الإنسانُ أو يُقدِّمُه للضَّيفِ وإن كَثُرَ، مَعَ أنَّه لا يَحقِرُ ما يُقدِّمُه إلى الضَّيفِ فيَحرِمَه؛ لقَولِ أمِّ سُلَيمٍ: «إنَّ هذا لك مِنَّا قَليلٌ».) [571] ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) (5/ 26، 27). .

انظر أيضا: