موسوعة الآداب الشرعية

خامسًا: إيثارُ الضَّيفِ


يُستَحبُّ للمُضيفِ أن يُؤَثِرَ الضَّيفَ على نَفسِه.
الدليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
قال تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9] .
قَوله: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ أي: ومِن أوصافِ الأنصارِ التي فاقوا بها غَيرَهم، وتَمَيَّزوا بها على مَن سِواهم: الإيثارُ، وهو أكمَلُ أنواعِ الجودِ، وهو الإيثارُ بمَحابِّ النَّفسِ مِنَ الأموالِ وغَيرِها، وبَذلُها للغَيرِ مَعَ الحاجةِ إليها، بَل مَعَ الضَّرورةِ والخَصاصةِ، وهذا لا يَكونُ إلَّا مِن خُلُقٍ زَكيٍّ، ومَحَبَّةٍ للهِ تعالى مُقدَّمةٍ على مَحَبَّةِ شَهَواتِ النَّفسِ ولذَّاتِها، ومِن ذلك قِصَّةُ الأنصاريِّ الذي نَزَلتِ الآيةُ بسَبَبِه حينَ آثَرَ ضَيفَه بطَعامِه وطَعامِ أهلِه وأولادِه [551] ((تفسير السعدي)) (ص: 851). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ رَجُلًا أتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فبَعَث إلى نسائِه، فقلْنَ: ما معنا إلَّا الماءُ! فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: من يَضُمُّ أو يُضِيفُ هذا؟ فقال رجلٌ من الأنصارِ: أنا. فانطَلَق به إلى امرأتِه، فقال: أكرِمي ضيفَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فقالت: ما عِندَنا إلَّا قوتُ صبياني. فقال: هَيِّئي طعامَكِ، وأصبِحي سِراجَكِ [552] أصبِحي سِراجَك: أي أوقِديه، والمِصباحُ هو السِّراجُ؛ سُمِّي بذلك لأنَّه يُطلَبُ به الضِّياءُ، وهو الصُّبحُ. ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (4/ 257). ، ونَوِّمي صِبيانَكِ إذا أرادوا عَشاءً! فهَيَّأَت طعامَها، وأصبَحَت سِراجَها، ونَوَّمَت صِبيانَها، ثَّم قامت كأنَّها تُصلِحُ سِراجَها فأطفَأَتْه، فجَعَلَا يُرِيانِه أنَّهما يأُكلانِ فباتا طاوِيَينِ [553] طاوِيَينِ: أي: جائِعَينَ، والطَّوى: ضُمورُ البَطنِ مِنَ الجوعِ. ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (3/ 287). ! فلمَّا أصبح غَدا إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: ضَحِكَ اللهُ اللَّيلةَ أو عَجِبَ مِن فِعالِكما! فأنزل اللَّهُ: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9] )) [554] أخرجه البخاري (3798). .
وفي رِوايةٍ: ((جاء رجلٌ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: إنِّي مجهودٌ، فأرسَلَ إلى بعضِ نسائِه، فقالت: والذي بعَثَك بالحَقِّ ما عندي إلَّا ماءٌ! ثمَّ أرسل إلى أخرى، فقالت مِثلَ ذلك، حتى قُلنَ كلُّهنَّ مِثلَ ذلك: لا، والذي بعَثَك بالحقِّ ما عندي إلَّا ماءٌ! فقال: من يُضيفُ هذا اللَّيلةَ رحمه اللهُ؟ فقام رجلٌ من الأنصارِ، فقال: أنا يا رسولَ اللهِ، فانطلق به إلى رَحلِه، فقال لامرأتِه: هل عندكِ شيءٌ؟ قالت: لا، إلَّا قوتَ صِبياني. قال: فعَلِّلِيهم بشيءٍ [555] قال النَّوويُّ: (هذا مَحمولٌ على أنَّ الصِّبيانَ لم يَكونوا مُحتاجينَ إلى الأكلِ، وإنَّما تَطلُبُه أنفُسُهم على عادةِ الصِّبيانِ مِن غَيرِ جوعٍ يَضُرُّهم؛ فإنَّهم لو كانوا على حاجةٍ بحَيثُ يَضُرُّهم تَركُ الأكلِ لكان إطعامُهم واجِبًا ويَجِبُ تَقديمُه على الضِّيافةِ، وقد أثنى اللَّهُ ورَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على هذا الرَّجُلِ وامرَأتِه، فدَلَّ على أنَّهما لم يَترُكا واجِبًا بل أحسَنا وأجمَلا رَضِيَ اللهُ عنهما، وأمَّا هو وامرَأتُه فآثَرا على أنفُسِهما برِضاهما مَعَ حاجَتِهما وخصاصَتِهما فمَدَحَهما اللَّهُ تعالى، وأنزَل فيهما: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر: 9] ، ففيه فضيلةُ الإيثارِ والحَثُّ عليه. وقد أجمَعَ العُلماءُ على فضيلةِ الإيثارِ بالطَّعامِ ونَحوِه مِن أُمورِ الدُّنيا وحُظوظِ النُّفوسِ، أمَّا القُرُباتُ فالأفضَلُ ألَّا يُؤثَرَ بها؛ لأنَّ الحَقَّ فيها للهِ تعالى). ((شرح مسلم)) (14/ 12). ، فإذا دخَل ضيفُنا فأطفِئي السِّراجَ، وأريه أنَّا نأكُلُ، فإذا أهوى ليأكُلَ فقومي إلى السِّراجِ حتَّى تُطفئيه! قال: فقَعَدوا وأكلَ الضَّيفُ، فلمَّا أصبح غدا على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: قد عَجِب اللهُ مِن صنيعِكما بضَيفِكما اللَّيلةَ!)) [556] أخرجه مسلم (2054). .
قال النَّوويُّ: (هذا الحديثُ مشتَمِلٌ على فوائِدَ كثيرةٍ؛ منها: ... فضيلةُ إكرامِ الضَّيفِ وإيثارِه، ومِنها مَنقَبةٌ لهذا الأنصاريِّ وامرَأتِه رَضِيَ اللهُ عنهما، ومِنها الاحتيالُ في إكرامِ الضَّيفِ إذا كان يَمتَنِعُ منه رِفقًا بأهلِ المَنزِلِ؛ لقَولِه: "أطفِئي السِّراجَ وأريه أنَّا نَأكُلُ"؛ فإنَّه لو رَأى قِلَّةَ الطَّعامِ وأنَّهما لا يَأكُلانِ مَعَه لامتَنَعَ مِنَ الأكلِ) [557] ((شرح مسلم)) (14/ 12). .
فائِدةٌ:
عن بقية قال: حَدَّثَنا مُحَمَّد بن زيادٍ، قال: (أدرَكتُ السَّلَفَ، وإنَّهم ليَكونونَ في المَنزِلِ الواحِدِ بأهاليهم، فرُبَّما نَزَل على بَعضِهمُ الضَّيفُ، وقِدرُ أحَدِهم على النَّارِ، فيَأخُذُها صاحِبُ الضَّيفِ لضَيفِه، فيفقِدُ القِدرَ صاحِبُها، فيَقولُ: مَن أخَذَ القِدرَ؟ فيَقولُ صاحِبُ الضَّيفِ: نَحنُ أخَذناها لضَيفِنا، فيَقولُ صاحِبُ القِدرِ: بارَكَ اللهُ لكُم فيها -أو كَلِمةً نَحوَها-. قال بَقيَّةُ: وقال مُحَمَّدٌ: والخُبزُ إذا خَبَزوا مِثلُ ذلك، وليسَ بَينَهم إلَّا جُدرُ القَصَبِ. قال بَقيَّةُ: وأدرَكتُ أنا ذلك: مُحَمَّدَ بنَ زيادٍ وأصحابَه) [558] ((الأدب المفرد)) (ص: 257). .

انظر أيضا: