ثالثًا: التَّوسُّعُ في المَجلِسِ وعَدَمُ إقامةِ أحَدٍ ليَجلِسَ مَكانَه
مِن أدَبِ المَجلِسِ: التَّوسُّعُ والتَّفسُّحُ إذا احتيجَ إلى ذلك، وألا يُقيمَ أحدٌ أحَدًا مِن مَكانِه ليَجلِسَ هو فيه.
الدليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ:أ- مِنَ الكِتابِقال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة: 11] .
قال السَّعديُّ: (هذا تَأديبٌ مِنَ اللهِ لعِبادِه المُؤمِنينَ إذا اجتَمَعوا في مَجلسٍ مِن مَجالِسِ مُجتَمَعاتِهم، واحتاجَ بَعضُهم أو بَعضُ القادِمينَ عليهم للتَّفسُّحِ له في المَجلِسِ؛ فإنَّ مِنَ الأدَبِ أن يُفسِحوا له تَحصيلًا لهذا المَقصودِ.
وليس ذلك بضارٍّ للجالِسِ شَيئًا، فيَحصُلُ مَقصودُ أخيه مِن غَيرِ ضَرَرٍ يَلحَقُه هو، والجَزاءُ مِن جِنسِ العَمَلِ؛ فإنَّ مَن فسَّحَ فسَّح اللَّهُ له، ومَن وسَّعَ لأخيه وسَّعَ اللَّهُ عليه.
وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا أي: ارتَفِعوا وتَنَحَّوا عن مَجالِسِكُم لحاجةٍ تَعرِضُ،
فَانْشُزُوا أي: فبادِروا للقيامِ لتَحصيلِ تلك المَصلحةِ؛ فإنَّ القيامَ بمِثلِ هذه الأُمورِ مِنَ العِلمِ والإيمانِ، واللهُ تعالى يَرفعُ أهلَ العِلمِ والإيمانِ دَرَجاتٍ بحَسَبِ ما خَصَّهمُ اللهُ به مِنَ العِلمِ والإيمانِ.
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فيُجازي كُلَّ عامِلٍ بعَمَلِه؛ إنْ خَيرًا فخَيرٌ، وإنْ شَرًّا فشَرٌّ.
وفي هذه الآيةِ فضيلةُ العِلمِ، وأنَّ زينَتَه وثَمَرَتَه التَّأدُّبُ بآدابِه والعَمَلُ بمُقتَضاه)
[1056] ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 846). .
وقال السُّيوطيُّ: (في الآيةِ استِحبابُ التَّفسُّحِ في مَجالِسِ العِلمِ والذِّكرِ والحَربِ وكُلِّ مَجلسِ طاعةٍ، والنَّهيُ عن إقامةِ شَخصٍ ويَجلِسُ مَكانَه، ولكِن يَتَفسَّحُ)
[1057] ((الإكليل في استنباط التنزيل)) (ص: 256). وقال ابنُ عاشورٍ: (الآية يُستَفادُ مِنها أنَّ تَفسُّحَ المسلمينَ بَعضِهم لبَعضٍ في المَجالِسِ مَحمودٌ مَأمورٌ به وُجوبًا أو نَدبًا؛ لأنَّه مِنَ المُكارَمةِ والإرفاقِ. فهو مِن مُكَمِّلات واجِبِ التَّحابِّ بَينَ المسلمينَ وإن كان فيه كُلفةٌ على صاحِبِ البُقعةِ يُضايِقُه فيها غَيرُه. فهيَ كُلفةٌ غَيرُ مُعتَبَرةٍ إذا قوبِلَت بمَصلحةِ التَّحابِّ وفوائِدِه، وذلك ما لم يُفضِ إلى شِدَّةِ مُضايَقةٍ ومَضَرَّةٍ أو إلى تَفويتِ مَصلحةٍ مِن سَماعٍ أو نَحوِه، مِثلُ مَجالسِ العِلمِ والحَديثِ وصُفوفِ الصَّلاةِ). ((التحرير والتنوير)) (28/ 38). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ1- عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((لا يُقِيمَنَّ أحَدُكُم أخاه يَومَ الجُمُعةِ، ثُمَّ ليُخالِفْ إلى مَقعَدِه فيَقعُدَ فيه، ولكِنْ يَقولُ: افسَحوا)) [1058] أخرجه مسلم (2178). .
2- عن ابنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لا يُقِيمَنَّ أحَدُكُم أخاه، ثُمَّ يَجلِسُ في مَجلِسِه))، وكان ابنُ عُمَرَ إذا قامَ له رَجُلٌ عن مَجلسِه، لم يَجلِسْ فيه
[1059] أخرجه مسلم (2177). .
وفي رِوايةٍ عن ابنِ جُرَيجٍ، قال: سَمِعتُ نافِعًا يَقولُ: سَمِعتُ ابنَ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما يَقولُ:
((نَهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُقيمَ الرَّجُلُ أخاه مِن مَقعَدِه، ويَجلِسَ فيه))، قُلتُ لنافِعٍ: الجُمُعةَ؟ قال: الجُمُعةَ وغَيرَها
[1060] أخرجها البخاري (911). .
وفي رِوايةٍ:
((لا يُقيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِن مَقعَدِه، ثُمَّ يَجلسُ فيه، ولكِنْ تَفَسَّحوا وتوَسَّعوا)) [1061] أخرجها مسلم (2177). .
قال النَّوويُّ: (هذا النَّهيُ للتَّحريمِ، فمَن سَبَقَ إلى مَوضِعٍ مُباحٍ في المَسجِد وغَيرِه يَومَ الجُمُعةِ أو غَيرِه لصَلاةٍ أو غَيرِها، فهو أحَقُّ به، ويَحرُمُ على غَيرِه إقامَتُه؛ لهذا الحَديثِ...
وأمَّا قَولُه: "وكان ابنُ عُمَرَ إذا قامَ له رَجُلٌ عن مَجلِسِه لم يَجلِسْ فيه" فهذا ورَعٌ مِنه، وليسَ قُعودُه فيه حَرامًا إذا قامَ برِضاه، لكِنَّه تَورَّعَ عنه لوجهَينِ؛ أحَدُهما: أنَّه رُبَّما استَحى مِنه إنسانٌ فقامَ له مِن مَجلسِه مِن غَيرِ طيبِ قَلبِه، فسَدَّ ابنُ عُمَرَ البابَ ليَسلَمَ مِن هذا.
والثَّاني: أنَّ الإيثارَ بالقُرَبِ مَكروهٌ أو خِلافُ الأَولى، فكان ابنُ عُمَرَ يَمتَنِعُ مِن ذلك؛ لئَلَّا يَرتَكِبَ أحَدٌ بسَبَبِه مَكروهًا أو خِلافَ الأولى بأن يَتَأخَّرَ عن مَوضِعِه مِنَ الصَّفِّ الأوَّلِ ويُؤثِرَه به، وشِبهَ ذلك قال أصحابُنا، وإنَّما يُحمَدُ الإيثارُ بحُظوظِ النُّفوسِ وأُمورِ الدُّنيا دونَ القُرَبِ)
[1062] ((شرح مسلم)) (14/ 160، 161). ويُنظر: ((المجموع)) (4/ 547). .
وقال ابنُ أبي جَمرةَ: (لفظُ الحَديثِ عامٌّ في المَجالسِ، ولكِنَّه مَخصوصٌ بالمَجالسِ المُباحةِ إمَّا على العُمومِ، كالمَساجِدِ ومَجالسِ الحُكَّامِ والعِلمِ، وإمَّا على الخُصوصِ، كَمَن يَدعو قَومًا بأعيانِهم إلى مَنزِلِه لوليمةٍ ونَحوِها، وأمَّا المَجالسُ التي ليسَ للشَّخصِ فيها مِلكٌ ولا إذنَ له فيها، فإنَّه يُقامُ ويُخرَجُ مِنها، ثُمَّ هو في المَجالِسِ العامَّةِ، وليسَ عامًّا في النَّاسِ، بَل هو خاصٌّ بغَيرِ المَجانينِ ومَن يَحصُلُ مِنه الأذى، كآكِلِ الثُّومِ النِّيءِ إذا دَخَل المَسجِدَ، والسَّفيهِ إذا دَخَل مَجلِسَ العِلمِ أوِ الحُكمِ، قال: والحِكمةُ في هذا النَّهيِ مَنعُ استِنقاصِ حَقِّ المُسلِمِ، المُقتَضي للضَّغائِنِ، والحَثُّ على التَّواضُعِ المُقتَضي للموادَدةِ، وأيضًا فالنَّاسُ في المُباحِ كُلُّهم سَواءٌ، فمَن سَبَقَ إلى شَيءٍ استَحَقَّه، ومَنِ استَحَقَّ شَيئًا فأُخِذ مِنه بغَيرِ حَقٍّ فهو غَصبٌ، والغَصبُ حَرامٌ، فعلى هذا قد يَكونُ بَعضُ ذلك على سَبيلِ الكَراهةِ، وبَعضُه على سَبيلِ التَّحريمِ.
فأمَّا قَولُه: «تَفَسَّحوا وتَوسَّعوا» فمَعنى الأوَّلِ: أن يَتَوسَّعوا فيما بَينَهم، ومَعنى الثَّاني: أن يَنضَمَّ بَعضُهم إلى بَعضٍ حتَّى يَفضُلَ مِنَ الجَمعِ مَجلِسٌ للدَّاخِلِ)
[1063] يُنظر: ((بهجة النفوس)) (4/ 194، 195)، ((فتح الباري)) لابن حجر (11/ 63). .