حادي عشرَ: ألَّا يَحضُرَ مَجلِسًا فيه مُنكَرٌ
لا يَجوزُ حُضورُ مَجلسٍ فيه مُنكَرٌ إلَّا إن نَصَحَ وأمَرَ بالمَعروفِ ونَهى عنِ المُنكَرِ، فإن لم يَزُلِ المُنكَرُ وجَبَ عليه الانصِرافُ.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ: 1- قال تعالى:
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء: 140] .
قال القُرطُبيُّ: (قَولُه تعالى:
فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ، أي: غَيرِ الكُفرِ
إنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ، فدَلَّ بهذا على وُجوبِ اجتِنابِ أصحابِ المَعاصي إذا ظَهَرَ مِنهم مُنكَرٌ؛ لأنَّ مَن لم يَجتَنِبْهم فقد رَضيَ فِعلَهم، والرِّضا بالكُفرِ كُفرٌ، قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
إنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ .
فكُلُّ مَن جَلسَ في مَجلِسِ مَعصيةٍ ولم يُنكِرْ عليهم يَكونُ مَعَهم في الوِزرِ سَواءً، ويَنبَغي أن يُنكِرَ عليهم إذا تَكَلَّموا بالمَعصيةِ وعَمِلوا بها، فإن لم يَقدِرْ على النَّكيرِ عليهم فيَنبَغي أن يَقومَ عنهم حتَّى لا يَكونَ مِن أهلِ هذه الآيةِ.
وقد رُوِيَ عن عُمَرَ بنِ عَبدِ العَزيزِ أنَّه أخَذَ قَومًا يَشرَبونَ الخَمرَ، فقيل له عن أحَدِ الحاضِرينَ: إنَّه صائِمٌ، فحَمَل عليه الأدَبَ، وقَرَأ هذه الآيةَ:
إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ، أي: إنَّ الرِّضا بالمَعصيةِ مَعصيةٌ؛ ولهذا يُؤاخَذُ الفاعِلُ والرَّاضي بعُقوبةِ المَعاصي حتَّى يَهلِكوا بأجمعِهم. وهذه المُماثَلةُ ليسَت في جَميعِ الصِّفاتِ، ولكِنَّه إلزامُ شَبَهٍ بحُكمِ الظَّاهرِ مِنَ المُقارَنةِ، كَما قال:
فكُلُّ قَرينٍ بالمُقارِنِ يَقتَدي
وإذا ثَبَتَ تَجَنُّبُ أصحابِ المَعاصي كَما بَيَّنَّا، فتَجَنُّبُ أهلِ البدَعِ والأهواءِ أَولى)
[1097] ((الجامع لأحكام القرآن)) (5/ 418). ويُنظر: ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (2/ 341). وقال ابنُ تَيميَّةَ: (الهَجرُ الشَّرعيُّ نَوعانِ: أحَدُهما بمَعنى التَّركِ للمُنكَراتِ. والثَّاني: بمَعنى العُقوبةِ عليها. فالأوَّلُ: هو المَذكورُ في قَولِه تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام: 68] ، وقَولِه تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء: 140] ، فهذا يُرادُ به أنَّه لا يَشهَدُ المُنكَراتِ لغَيرِ حاجةٍ، مِثلُ قَومٍ يَشرَبونَ الخَمرَ يَجلِسُ عِندَهم. وقَومٍ دُعوا إلى وليمةٍ فيها خَمرٌ وزَمرٌ لا يُجيبُ دَعوتَهم، وأمثالِ ذلك. بخِلافِ مَن حَضَرَ عِندَهم للإنكارِ عليهم أو حَضَرَ بغَيرِ اختيارِه؛ ولهذا يُقالُ: حاضِرُ المُنكَرِ كَفاعِلِه... وهذا الهَجرُ مِن جِنسِ هَجرِ الإنسانِ نَفسِه عن فِعلِ المُنكَراتِ. كَما قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «المُهاجِرُ مَن هَجَر ما نَهى اللهُ عنه» [أخرجه البخاري (10) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما]). ((مَجموع الفتاوى)) (28/ 203، 204). .
2- قال تعالى:
وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام: 68] .
قال السَّعديُّ: (المُرادُ بالخَوضِ في آياتِ اللهِ: التَّكَلُّمُ بما يُخالفُ الحَقَّ، مِن تَحسينِ المَقالاتِ الباطِلةِ، والدَّعوةِ إليها، ومَدحِ أهلِها، والإعراضِ عنِ الحَقِّ، والقَدحِ فيه وفي أهلِه، فأمَرَ اللهُ رَسولَه أصلًا وأُمَّتَه تَبَعًا إذا رَأوا مَن يَخوضُ بآياتِ اللهِ بشَيءٍ مِمَّا ذُكِرَ بالإعراضِ عنهم، وعَدَمِ حُضورِ مَجالسِ الخائِضينَ بالباطِلِ، والاستِمرارِ على ذلك، حتَّى يَكونَ البَحثُ والخَوضُ في كَلامِ غَيرِه، فإذا كان في كَلامِ غَيرِه زال النَّهيُ المَذكورُ.
فإن كان مَصلحةً كان مَأمورًا به، وإن كان غَيرَ ذلك كان غَيرَ مُفيدٍ ولا مَأمورٍ به، وفي ذَمِّ الخَوضِ بالباطِلِ حَثٌّ على البَحثِ والنَّظَرِ، والمُناظَرةِ بالحَقِّ.
ثُمَّ قال:
وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانَ أي: بأن جَلستَ مَعَهم على وَجهِ النِّسيانِ والغَفلةِ.
فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يَشمَلُ الخائِضينَ بالباطِلِ، وكُلَّ مُتَكَلِّمٍ بمُحَرَّمٍ، أو فاعِلٍ لمُحَرَّمٍ، فإنَّه يَحرُمُ الجُلوسُ والحُضورُ عِندَ حُضورِ المُنكَرِ الذي لا يُقدَرُ على إزالتِه.
هذا النَّهيُ والتَّحريمُ لمَن جَلسَ مَعَهم، ولم يَستَعمِلْ تَقوى اللهِ، بأن كان يُشارِكُهم في القَولِ والعَمَلِ المُحَرَّمِ، أو يَسكُتُ عنهم وعنِ الإنكارِ، فإنِ استَعمَل تَقوى اللهِ تعالى، بأن كان يَأمُرُهم بالخَيرِ، ويَنهاهم عنِ الشَّرِّ والكَلامِ الذي يَصدُرُ مِنهم، فيَتَرَتَّبُ على ذلك زَوالُ الشَّرِّ أو تَخفيفُه، فهذا ليسَ عليه حَرَجٌ ولا إثمٌ؛ ولهذا قال:
وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأنعام: 69] )
[1098] ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 260). .
انظر أيضا:
عرض الهوامش