خامسًا: اختيارُ البِكرِ الوَدودِ الوَلودِ
يُستَحَبُّ نِكاحُ البِكرِ الوَدودِ
[1190] الوَدودُ: المُتَحَبِّبةُ لزَوجِها بنَحوِ تَلَطُّفٍ في الخِطابِ، وكَثرةِ خِدمةٍ، وأدَبٍ وبَشاشةٍ. يُنظر: ((فيض القدير)) للمناوي (3/ 242). الوَلودِ، فإن كان له مَصلَحةٌ في تَزَوُّجِ غَيرِ بِكرٍ فلا بَأسَ.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ والآثارِ:1- عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رضِي اللهُ عنهما قال:
((إنَّ عبدَ اللهِ هلَك وترَك تِسعَ بناتٍ -أو قال: سَبعَ- فتزوَّجْتُ امرأةً ثيِّبًا، فقال لي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا جابِرُ، تزوَّجْتَ؟ قال: قلْتُ: نعَم، قال: فبِكرٌ أم ثيِّبٌ؟ قال: قلْتُ: بل ثيِّبٌ يا رسولَ اللهِ، قال: فهلَّا جاريةً تُلاعِبُها وتُلاعِبُك؟ -أو قال: تُضاحِكُها وتُضاحِكُك- قال: قلْتُ له: إنَّ عبدَ اللهِ هلَك وترَك تِسعَ بناتٍ -أو سَبعَ- وإنِّي كرهْتُ أن آتيَهنَّ أو أجيئَهنَّ بمِثلِهنَّ، فأحببْتُ أن أجيءَ بامرأةٍ تقومُ عليهنَّ وتُصلِحُهنَّ، قال: فبارَك اللهُ لك، أو قال لي خيرًا)) [1191] أخرجه البخاري (5367)، ومسلم (715) واللفظ له. .
وفي رِوايةٍ:
((فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي حَديثُ عَهدٍ بعُرسٍ، قال: أتَزَوَّجتَ؟ قُلتُ: نَعَم، قال: أبِكرًا أم ثَيِّبًا؟ قال: قُلتُ: بَل ثَيِّبًا، قال: فهَلَّا بِكرًا تُلاعِبُها وتُلاعِبُك)) [1192] أخرجها البخاري (5247). .
وفي رِوايةٍ:
((ما لَك وللعَذارى ولِعابِها [1193] قال ابنُ حَجَرٍ: (ضَبطَه الأكثَرُ بكَسرِ اللَّامِ، وهو مَصدَرٌ مِنَ المُلاعَبةِ، يُقالُ: لاعَب لِعابًا ومُلاعَبةً، مِثلُ قاتَل قِتالًا ومُقاتَلةً. ووقَعَ في رِوايةِ المُستَملي بضَمِّ اللَّامِ، والمُرادُ به الرِّيقُ، وفيه إشارةٌ إلى مَصِّ لسانِها ورَشفِ شَفتَيها، وذلك يَقَعُ عِندَ المُلاعَبةِ والتَّقبيلِ). ((فتح الباري)) (9/ 122). ويُنظر: ((المعلم)) للمازَري (2/ 181)، ((إكمال المعلم)) لعياض (4/ 674)، ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (4/ 214، 215). ؟!)) [1194] أخرجها البخاري (5080). .
وفي رِوايةٍ قال جابِرٌ رَضيَ اللهُ عنه:
((قال لي رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هَل نَكَحتَ يا جابرُ؟ قُلتُ: نَعَم، قال: ماذا؟ أبِكرًا أم ثَيِّبًا؟ قُلتُ: لا، بَل ثَيِّبًا، قال: فهَلَّا جاريةً تُلاعِبُك! قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ أبي قُتِل يَومَ أُحُدٍ، وتَركَ تِسعَ بَناتٍ، كُنَّ لي تِسعَ أخَواتٍ، فكَرِهتُ أن أجمَعَ إليهنَّ جاريةً خَرقاءَ [1195] الخَرقاءُ: الحَمقاءُ الجاهلةُ بأعمالِ المَنزِلِ المُحتاجِ إليها. يُنظر: ((طرح التثريب في شرح التقريب)) للعراقي وابنه (7/ 12). مِثلَهنَّ، ولَكِنِ امرَأةً تَمشُطُهنَّ وتَقومُ عليهنَّ، قال: أصَبتَ)) [1196] أخرجها البخاري (4052). .
وفي رِوايةٍ قال جابِرٌ رَضيَ اللهُ عنه:
((فلَمَّا دَنَونا مِنَ المَدينةِ أخَذتُ أرتَحِلُ، قال: أينَ تُريدُ؟ قُلتُ: تَزَوَّجتُ امرَأةً قد خَلا مِنها، قال: فهَلَّا جاريةً تُلاعِبُها وتُلاعِبُك! قُلتُ: إنَّ أبي تُوفِّيَ، وتَرَكَ بَناتٍ، فأرَدتُ أن أنكِحَ امرَأةً قد جَرَّبَت خَلَا مِنها، قال: فذلك)) [1197] أخرجها البخاري (2309). .
قَولُ جابرٍ رَضيَ اللهُ عنه: (امرَأةً قد خَلا مِنها) أي: قد مَضى مِنها عُمرُها، والمَعنى: قد كَبِرَت وخَرَجَت عن حَدِّ الشَّبابِ
[1198] يُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (2/ 1145)، ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (3/ 21). .
قال ابنُ هُبَيرةَ: (قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «فهَلَّا بِكرًا» وذلك أنَّه اختارَ له الأجوَدَ والأفضَلَ؛ ولأنَّ أصلَحَ ما قُصِدَ به في التَّزويجِ أن يُلاءمَ بَينَ القِرنَينِ المُتَجانِسَينِ بَعدَ حُصولِ الدِّينِ؛ أن يَنكِحَ الشَّابُّ الشَّابَّةَ
[1199] وقال ابنُ الجَوزيِّ: (يَنبَغي للعاقِلِ أن يَتَخَيَّرَ امرَأةً صالحةً مِن بَيتٍ صالحٍ يَغلِبُ عليه الفقرُ؛ لتَرى ما يَأتيها به كَثيرًا، وليَتَزَوَّجْ مَن يُقارِبُه في السِّنِّ، فأمَّا الشَّيخُ فإنَّه إذا تَزَوَّجَ صَبيَّةً آذاها، ورُبَّما فجَرَت أو قَتَلَته، أو طَلَبَتِ الطَّلاقَ وهو يُحِبُّها، فيَتَأذَّى، وليُتمِّمْ نَقصَه بحُسنِ الأخلاقِ، وكَثرةِ النَّفَقةِ). ((صيد الخاطر)) (ص: 493). ، والكَهلُ الكَهلةَ، والحَسيبُ الحَسيبةَ، وهذا يَدُلُّ أنَّ جابرًا كان شابًّا. وفي الحَديثِ دَليلٌ على جَوازِ مُلاعَبةِ الرَّجُلِ المَرأةَ، والمَرأةِ الرَّجُلَ؛ لأنَّ في ذلك أُلفةً وغَرسَ مَحَبَّةٍ. وفيه أيضًا أنَّه لَمَّا سَمِعَ جابرٌ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذِكرَ الأصلَحِ، وكان عِندَه مِنَ العُذرِ ما تَنكَّبَ الأصلَحَ لأجلِه، وهو أرادَ به امرَأةً تَقومُ بمَصالحِ البَناتِ، قال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «فذاكَ»، أي: فذاكَ إذًا عُذرٌ)
[1200] ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) (8/ 268). .
وقال عِياضٌ: (في الحَديثِ فَضلُ تَزويجِ الأبكارِ، ولاسيَّما للشَّبابِ، وفيه سُؤالُ الإمامِ رَعيَّتِه عن أُمورِها، وتَفَقُّدُه مَصالِحَها، وأنَّ مَرغوبَ النِّكاحِ الاستِمتاعُ والاستِلذاذُ، وبقدرِ ذلك تَكونُ الأُلفةُ، وذلك في الأبكارِ أوجَدُ. وفيه جَوازُ مُلاعَبةِ الأهلِ والتَّرغيبُ فيها، وقد مَدَحَ اللَّهُ تعالى نِساءَ أهلِ الجَنَّةِ، فقال:
عُرُبًا أَتْرَابًا [الواقِعة: 37] ، قيلَ: العُرُبُ: المُتَحَبِّباتُ لأزواجِهنَّ، وقيلَ: الحَسَنةُ التَّبَعُّلِ، وهو مِن هذا.
وقَولُ جابِرٍ في اعتِذارِه عن زَواجِ الثَّيِّبِ ما ذَكَرَ مِن قيامِها على أخَواتِه، وتَصويب النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذلك له، ما هو الأولى مِن إيثارِ مَصلَحةِ الحالِ والنَّفسِ والآلِ على شَهَواتِها ولذَّاتِها)
[1201] ((إكمال المعلم)) (4/ 674). قال العِراقيُّ: (فيه فضيلةٌ لجابرٍ رَضيَ اللهُ عنه بإيثارِه مَصلَحةَ إخوانِه على حَظِّ نَفسِه، وأنَّه عِندَ تَزاحُمِ المُصلحَتَينِ يَنبَغي تَقدُّمُ أهَمِّهما، وقد صَوَّبَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما يَفعَلُ ودَعا له لأجلِ ذلك، وفيه الدُّعاءُ لمَن فعَلَ خَيرًا وإن لَم يَتَعَلَّقْ بالدَّاعي. وفيه جَوازُ خِدمةِ المَرأةِ زَوجَها وأولادَه وأخَواتِه وعيالَه، وأنَّه لا حَرَجَ على الرَّجُلِ في قَصدِه مِنِ امرَأتِه ذلك، وإن كان ذلك لا يَجِبُ عليها وإنَّما تَفعَلُه برِضاها). ((طرح التثريب)) (7/ 12). .
2- عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال:
((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَأمُرُ بالباءةِ، ويَنهى عَنِ التَّبَتُّل نَهيًا شَديدًا، ويَقولُ: تَزَوَّجوا الوَدودَ الوَلودَ؛ فإنِّي مُكاثِرٌ الأنبياءَ يَومَ القيامةِ)) [1202] أخرجه أحمد (12613)، وابن حبان (4028) واللفظ له، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (5099). صحَّحه ابنُ حبان، وابن حجر في ((فتح الباري)) (9/13)، والألباني في ((إرواء الغليل)) (1784)، وصحَّحه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (12613). .
3- عن مَعقِل بن يَسارٍ رَضيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((تَزَوَّجوا الوَدودَ الوَلودَ؛ فإنِّي مُكاثِرٌ بكُمُ الأُمَمَ)) [1203] أخرجه أبو داود (2050) واللفظ له، والنسائي (3227). صحَّحه ابنُ حبان (4056)، وابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (8/423)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1143)، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2050): حسن صحيح، وصحح إسناده الحاكم في ((المستدرك)) (2722)، والعراقي في ((تخريج الإحياء)) (2/53). .
4- عن عُروةَ، عن عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّ مِن يُمنِ المَرأةِ تَيسيرَ خِطبَتِها، وتَيسيرَ صَداقِها، وتَيسيرَ رَحِمِها)) [1204] أخرجه أحمد (24478) واللفظ له، والحاكم (2777)، والبيهقي (14746). صحَّحه الحاكم على شرط مسلم، وحَسَّنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (2235)، وجوَّد إسنادَه العراقي في ((تخريج الإحياء)) (2/52)، والسخاوي في ((المقاصد الحسنة)) (244)، وحَسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (24478). .
قال المُناويُّ: ("إنَّ مِن يُمنِ المَرأةِ" أي: بَرَكَتِها "تَيسيرَ خِطبَتِها" بالكَسرِ، أي: سُهولةَ سُؤالِ الخاطِبِ أولياءَها نِكاحَها، وإجابَتَهم بسُهولةٍ بلا تَوقُّفٍ ولا اشتِراطٍ، "وتَيسيرَ صَداقِها" أي: عَدَمَ التَّشديدِ في تَكثيرِه، ووِجدانَه بيَدِ الخاطِبِ فاضِلًا عن حاجَتِه، "وتَيسيرَ رَحِمَها"، أي: للوِلادةِ بأن تَكونَ سَريعةَ الحَملِ كَثيرةَ النَّسلِ)
[1205] ((التيسير بشرح الجامع الصغير)) (1/ 352). .
ب- من الآثار:عن عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها، قالت:
((قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أرَأيتَ لَو نَزَلتَ واديًا وفيه شَجَرةٌ قد أُكِلَ مِنها، ووجَدتَ شَجَرًا لَم يُؤكَلْ مِنها، في أيِّها كُنتَ تُرتِعُ بعيرَك؟ قال: في الذي لَم يُرتَعْ مِنها. تَعني أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَم يَتَزَوَّجْ بِكرًا غَيرَها)) [1206] أخرجه البخاري (5077). .
فَوائِدُ ومسائِلُ:1- قال المظهَريُّ: (إن قيلَ: إن كانتِ المَرأة ثَيِّبًا عُرِف كَونُها وَدودًا وَلودًا في نِكاحِ زَوجِها الأوَّلِ، فيَعرِفُ الرِّجالُ بَعدَ ذلك كَونَها وَدودًا وَلودًا فيَتَزَوَّجونَها، وأمَّا إذا كانت بِكرًا فكيف يُعرَفُ كَونُها وَدودًا وَلودًا حَتَّى يَتَزَوَّجَها الرِّجالُ؟
قُلنا: يُعرَفُ كَونُها وَدودًا ووَلودًا بأقارِبِها، فإن كانت نِساءُ أُقارِبِها وَلودًا تَكونُ هيَ كذلك؛ لأنَّ الغالبَ سِرايةُ طَبائِعِ نِساءِ الأقارِبِ مِن بَعضِهنَّ إلى بَعضٍ، وتُشبِهُ بعَضُهنَّ بَعضًا)
[1207] ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (4/ 15). وقال العِراقيُّ: (ليس المُرادُ بالوَلودِ كَثرةَ الأولادِ، وإنَّما المُرادُ مَن هيَ في مَظِنَّةِ الوِلادةِ، وهيَ الشَّابَّةُ دونَ العَجوزِ التي انقَطَعَ حَبَلُها). ((طرح التثريب)) (7/ 11). .
2- قال الغَزاليُّ: (في البَكارةِ ثَلاثُ فوائِدَ:
إحداها: أن تُحِبَّ الزَّوجَ وتَألَفَه، فيُؤَثِّرَ في مَعنى الوُدِّ، والطِّباعُ مَجبولةٌ على الأُنسِ بأوَّلِ مَألوفٍ. وأمَّا التي اختَبَرَتِ الرِّجالَ ومارَسَتِ الأحوالَ فرُبَّما لا تَرضى بَعضَ الأوصافِ التي تُخالفُ ما ألِفَتْه، فتَقلي الزَّوجَ.
الثَّانيةُ: أنَّ ذلك أكمَلُ في مَودَّتِه لَها؛ فإنَّ الطَّبعَ يَنفِرُ عَنِ التي مَسَّها غَيرُ الزَّوجِ نُفرةً ما، وذلك يَثقُلُ على الطَّبعِ مَهما يُذكَر، وبَعضُ الطِّباعِ في هذا أشَدُّ نُفورًا.
الثَّالثةُ: أنَّها لا تَحِنُّ إلى الزَّوجِ الأوَّلِ، وآكَدُ الحُبِّ ما يَقَعُ مَعَ الحَبيبِ الأوَّلِ غالبًا)
[1208] ((إحياء علوم الدين)) (2/ 41). ويُنظر: ((مقامات الحريري)) (ص: 458). .