فَوائِدُ ومَسائِلُ
حكمُ عيادةِ المريضِقال ابنُ عبدِ البَرِّ: (عيادةُ المَريضِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدةٌ)
[1433] ((الكافي في فقه أهل المدينة)) (2/ 1142). . وحُكِي الإجماعُ على سُنِّيَّتِها
[1434] قال ابْنُ عبد البَرِّ: (وعيادةُ المريضِ سُنَّةٌ مسنونةٌ، فعَلَها رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وأمَرَ بها ونَدَبَ إليها، وأخبَرَ عن فَضْلها بضروبٍ من القولِ... فثبتت سُنَّةً ماضيةً لا خلافَ فيها). ((التمهيد)) (19/203). وقال النوويُّ: (أمَّا عيادةُ المريض فسُنَّةٌ بالإجماعِ، وسواءٌ فيه من يَعْرِفه ومَن لا يعرِفُه، والقريبُ والأجنبيُّ). ((شرح النووي على مسلم)) (14/31). .
وقال ابنُ الجَوزيِّ: (أمَّا عيادةُ المَريضِ فمَسنونةٌ لمَعنَيَينِ: أحَدُهما: تَطييبُ قَلبِه واستِعراضُ حَوائِجِه. والثَّاني: الاتِّعاظُ بمَصرَعِه)
[1435] ((كشف المشكل)) (2/ 236). .
وقال الخَطَّابيُّ: (عيادةُ المَريضِ مِنَ الفضائِلِ المُرَغَّبِ فيها المَوعودِ عَليها الأجرُ والثَّوابُ، إلَّا أن يَكونَ المَريضُ مُنقَطَعًا به ليسَ له مُتَعَهِّدٌ، فعيادَتُه حينَئِذٍ واجِبةٌ وتَعَهُّدُه لازِمٌ)
[1436] ((أعلام الحديث)) (1/ 661). .
وقال القُرطُبيُّ: (وهيَ مَندوبةٌ، وقد تَجِبُ إذا خيفَ على المَريضِ ضَيعةٌ، فإنَّ التَّمريضَ واجِبٌ على الكِفايةِ، فمَن قامَ به سَقَطَ عن غَيرِه)
[1437] ((المفهم)) (2/ 578). .
عيادةُ المُغمى عليهقال البُخاريُّ في كِتابِ المَرضى مِن "صحيحِه": (بابُ عيادةِ المُغمى عليه)، ثُمَّ رَوى عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال:
((مَرِضتُ مَرَضًا، فأتاني النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَعودُني وأبو بَكرٍ، وهما ماشيانِ، فوجَداني أُغميَ عليَّ، فتَوضَّأ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثُمَّ صَبَّ وَضُوءَه علَيَّ، فأفقتُ، فإذا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، كيف أصنَعُ في مالي، كيف أقضي في مالي؟ فلم يُجِبْني بشَيءٍ، حتَّى نَزَلت آيةُ الميراثِ)) [1438] أخرجه البخاري (5651). وأخرجه مسلم (1616) باختلافٍ يسيرٍ. .
قال ابنُ المُنَيِّرِ: (تَرجَمَ على هذا البابِ لئَلَّا يُعتَقَدَ أنَّ عيادةَ المُغمى عليه ساقِطةُ الفائِدةِ؛ إذ لا يُفيقُ لعائِدِه... وزَعَمَ بَعضُهم أنَّ عيادةَ المَريضِ بعَينِه غَيرُ مَشروعةٍ
[1439] وكأنَّ البخاريَّ رَدَّ على قَولِ هذا القائِلِ حينَ بَوَّبَ في "الأدب المفرد": (بابُ العيادةِ مِنَ الرَّمَدِ)، ثُمَّ رَوى عن زَيدِ بنِ أرقَمَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((رَمَدَت عَيني، فعادَني النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثُمَّ قال: يا زَيدُ، لو أنَّ عَينَك لِما بها كَيف كُنتَ تَصنَعُ؟ قال: كُنتُ أصبرُ وأحتَسِبُ، قال: لو أنَّ عَينَك لِما بها، ثُمَّ صَبَرتَ واحتَسَبتَ كان ثَوابُك الجَنَّةَ)). أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد)) (532). صحَّحه لغيره الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (413)، وحسَّنه الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (9/331)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (343). وقال أبو داودَ في "سننه": (بابٌ في العيادةِ مِنَ الرَّمَدِ)، ثمَّ روى عن زيدِ بنِ أرقمَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((عادَني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن وجَعٍ كان بعَيني)). أخرجه أبو داود (3102)، والحاكم (1283)، والبيهقي (6827). حَسَّنه المنذري في ((مختصر سنن أبي داود)) (2/364)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3102)، وصحح إسناده النووي في ((المجموع)) (5/112). وقد ذهب إلى تصحيحه الحاكم على شرط الشَّيخَينِ، وابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (97) وفي روايةٍ لهذا الحديثِ عن زَيدِ بنِ أرقمَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أصابَني رَمَدٌ فعادَني النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: فلمَّا بَرَأتُ خَرَجتُ، قال: فقال لي رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أرَأيتَ لو كانت عَيناك لِما بهما ما كُنتَ صانِعًا؟ قال: قُلتُ: لو كانتا عَينايَ لِما بهما صَبَرتُ واحتَسَبتُ، قال: لو كانت عَيناك لِما بهما، ثُمَّ صَبَرتَ واحتَسَبتَ، للَقِيتَ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ ولا ذَنبَ لك))، وفي لفظٍ: ((ثُمَّ صَبَرتَ واحتَسَبتَ، لأوجَب اللَّهُ لك الجَنَّةَ)). أخرجه أحمد (19348) واللفظ له، والبزار (4341)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (8757) حسنه الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (9/331)، والوادِعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (343)، وحسن إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (19348). وعن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((دَخَلتُ مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَعودُ زَيدَ بنَ أرقَمَ وهو يَشتَكي عَينَه، فقال له: يا زَيدُ، لو كان بَصَرُك لِما به، كَيف كُنتَ تَصنَعُ؟ قال: إذًا أصبرُ وأحتَسِبُ. قال: إن كان بَصَرُك لِما به، ثُمَّ صَبَرتَ واحتَسَبتَ، لتَلقَيَنَّ اللَّهَ وليسَ لك ذَنبٌ)). أخرجه أحمد (12586) واللَّفظُ له، وابن الجعد في ((المسند)) (2244)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (19/268). حَسَّنه لغَيرِه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (12586). ؛ لأنَّ عائِدَه يَرى في بَيتِه ما لا يَراه هو، فالمُغمى عليه أشَدُّ)
[1440] ((المتواري على أبواب البخاري)) (ص: 374). .
وقال ابنُ حَجَرٍ: (مُجَرَّدُ عِلمِ المَريضِ بعائِدِه لا تَتَوقَّفُ مَشروعيَّةُ العيادةِ عليه؛ لأنَّ وراءَ ذلك جَبرَ خاطِرِ أهلِه وما يُرجى مِن بَرَكةِ دُعاءِ العائِدِ، ووَضعِ يَدِه على المَريضِ والمَسحِ على جَسَدِه، والنَّفثِ عليه عِندَ التَّعويذِ، إلى غَيرِ ذلك)
[1441] ((فتح الباري)) (10/ 114). .
جملةٌ مِن آدابِ عِيادةِ المريضِقال عَبدُ الفتَّاحِ أبو غُدَّة: (مِن حَقِّ أخيك المُسلمِ إذا مَرِضَ أن تَعودَه؛ ففي ذلك تَعَهُّدٌ وسُقيا لشَجَرةِ الأُخوَّةِ والرَّابطةِ الإسلاميَّةِ، وفي ذلك أيضًا أجرٌ جَزيلٌ لك لا يُفرِّطُ به الحَريصُ على زيادةِ حَسَناتِه...
عِندَما تَزورُ المَريضَ لا تَنسَ أنَّ لزيارَتِه آدابًا تُطلبُ مِن زائِرِه؛ حتَّى تَكونَ الزِّيارةُ مُنعِشةً له، رافِعةً مِن مَعنَويَّتِه، مُعينةً على تَخفيفِ آلامِه، زائِدةً في صَبرِه واحتِسابِه الأجرَ.
فيَنبَغي لعائِدِ المَريضِ ألَّا يُطيلَ الجُلوسَ عِندَه؛ لأنَّ له مِنَ الحالاتِ المَرَضيَّةِ الخاصَّةِ ما لا يَسمَحُ بإطالةِ الجُلوسِ عِندَه، فعيادةُ المَريضِ كجَلسةِ الخَطيبِ. يَعنونَ جَلسةَ الخَطيبِ يَومَ الجُمُعةِ بَينَ الخُطبَتَينِ في قِصَرِها وخِفَّتِها، وقد قيل في هذا أيضًا:
أدَبُ العيادةِ أن تَكونَ مُسَلِّمًا
وتَكونَ في أثَرِ السَّلامِ مُوَدِّعًا
وقيل أيضًا:
حُسنُ العيادةِ يَومٌ بَينَ يَومَينِ
واقعُدْ قَليلًا كمِثلِ اللَّحظِ بالعَينِ
لا تُبرِمَنْ عليلًا في مُساءَلةٍ
يَكفيك مِن ذاكَ تَسألُه بحَرفَينِ
[1442] يُنظر: ((التمهيد)) لابن عبد البر (24/ 277). يَعني قَولَ العائِدِ للعليلِ: كَيف أنتَ؟ شَفاك اللهُ.
ويَنبَغي لعائِدِ المَريضِ أن يَكونَ نَقيَّ الثَّوبِ، طَيِّبَ الرَّائِحةِ طَيِّبَ النَّظافةِ؛ لتَنشَرِحَ نَفسُه، وتَنتَعِشَ صِحَّتُه، ولا يَحسُنُ أن يَدخُلَ إليه بمَلابسِ الزِّينةِ والأفراحِ، كما لا يَحسُنُ أن يَكونَ مُتَطَيِّبًا بطِيبٍ شَديدِ الرَّائِحةِ؛ فقد يُزعِجُ المَريضَ ويُؤذيه، لضَعفِ تَحَمُّلِه ووَهنِ قوَّتِه.
ويَنبَغي للعائِدِ ألَّا يُخبرَ المَريضَ أو يَتَحَدَّثَ عِندَه بما يَغُمُّه، مِن خَبَرِ تِجارةٍ خَسِرَت، له فيها سَبَبٌ أو صِلةٌ، أو ذِكرِ مَيِّتٍ، أو خَبَرٍ رَديءٍ لمَريضٍ، أو نَحوِ ذلك مِمَّا يُكَدِّرُ المَريضَ أو يَحزُنُه أو يُؤَثِّرُ على صِحَّتِه أو شُعورِه.
ولا يَنبَغي للعائِدِ أن يَستَخبرَ عن مَرَضِ المَريضِ استِخبارَ مُتَقَصٍّ؛ فإنَّ ذلك التَّقَصِّيَ مِنَ العائِدِ لا يَنفعُ المَريضَ إلَّا أن يَكونَ طَبيبًا له اختِصاصٌ بمَرَضِه.
ولا يَنبَغي للعائِدِ أن يُشيرَ على المَريضِ بدَواءٍ ولا بغِذاءِ قد كان نَفَعه هو، أو سَمِعَ بأنَّه نافِعٌ؛ فإنَّ ذلك رُبَّما حَمَل المَريضَ -بجَهلِه أو لشَدَّةٍ ما به- أن يَستَعمِلَه، فيُضَرَّ به ويُفسِدَ على الطَّبيبِ عَمَلَه، ورُبَّما كان ذلك سَبَبًا لهَلاكِ المَريضِ.
ولا يَنبَغي للعائِدِ أن يُعارِضَ الطَّبيبَ بحَضرةِ المَريضِ، إذا لم يَكُنْ مِن أهلِ العِلمِ والاختِصاصِ، فيوقِعَ للمَريضِ الشَّكَّ فيما وصَفه الطَّبيبُ)
[1443] ((من أدب الإسلام)) (ص: 50-53). ويُنظر: ((جوامع الآداب)) للقاسمي (ص: 186). .
وعن عبدِ اللهِ بنِ أبي الهُذَيلِ، قال: (دَخل عَبدُ اللَّهِ بنُ مَسعودٍ على مَريضٍ يَعودُه، ومَعَه قَومٌ، وفي البَيتِ امرَأةٌ، فجَعَل رَجُلٌ مِنَ القَومِ يَنظُرُ إلى المَرأةِ، فقال له عَبدُ اللَّهِ: لوِ انفقَأت عَينُك كان خَيرًا لك)
[1444] أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد)) (531). صَحَّحَ إسناده الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (412). .
وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: (أفضَلُ العيادةِ أخَفُّها، ولا يُطيلُ العائِدُ الجُلوسَ عِندَ العليلِ إلَّا أن يَكونَ صَديقًا يَأنَسُ به ويَسُرُّه ذلك مِنه
[1445] عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((لمَّا أُصيبَ سَعدُ بنُ مُعاذٍ يَومَ الخَندَقِ -رَماه رَجُلٌ في الأكحَلِ- فضَرَبَ عَليه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَيمةً في المَسجِدِ ليَعودَه مِن قَريبٍ)). أخرجه أبو داود (3101) واللَّفظُ له، وأخرجه البخاري (463)، ومسلم (1769) باختلافٍ يسيرٍ، ولفظُ البخاريِّ: عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: (أُصيبَ سَعدٌ يَومَ الخَندَق -رَماه رَجُلٌ مِن قُرَيشٍ يُقالُ له: حِبَّانُ بنُ العَرِقةِ، رَماه في الأكحَلِ- فضَرَبَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَيمةً في المَسجِدِ ليَعودَه مِن قَريبٍ)). وبَوَّبَ عليه أبو داود: (بابٌ في العيادةِ مِرارًا). ((سنن أبي داود)) (3/ 186). . ومَن عادَ مَريضًا أو زارَ صحيحًا فليَجلِسْ حَيثُ يَأمُرُه؛ فالمَرءُ أعلَمُ بعَورةِ مَنزِله)
[1446] ((الكافي في فقه أهل المدينة)) (2/ 1142). .
وقال ابنُ عبدِ البَرِّ أيضًا: (كَرِهَ الزِّيارةَ طائِفةٌ مِنَ العُلماءِ في أوقاتٍ. قال الأثرَمُ: سَمِعتُ أبا عَبدِ اللَّهِ -يَعني أحمَدَ بنَ حَنبَلٍ- وقال له شَيخٌ كان يَخدُمُه: تَجيءُ إلى فُلانٍ -مَريضٍ سَمَّاه يَعودُه-؟ وذلك عِندَ ارتِفاعِ النَّهارِ في الصَّيفِ، فقال: ليسَ هذا وقتَ عيادةٍ
[1447] يُنظر: ((الفروع)) لابن مفلح (3/ 253)، ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (2/ 200). ...
وعنِ الشَّعبيِّ قال: عيادةُ حَمقى القُرى أشَدُّ على أهلِ المَريضِ مِن مَرَضِ صاحِبِهم، يَجيئونَ في غَيرِ حينِ عيادةٍ، ويُطيلونَ الجُلوسَ.
وعنِ الأوزاعيِّ، قال: خَرَجتُ إلى البَصرةِ أُريدُ مُحَمَّدَ بنَ سِيرينَ فوجَدَته مَريضًا به البَطنُ، فكُنَّا نَدخُلُ عليه نعودُه قيامًا.
وعن ابنِ طاوُسٍ عن أبيه قال: أفضَلُ العيادةِ أخَفُّها.
وقال ابنُ وضَّاحٍ في تَفسيرِ الحَديثِ: أفضَلُ العيادةِ أخَفُّها، قال: هو ألَّا يُطَوِّلَ الرَّجُلُ في القُعودِ إذا عادَ المَريضَ)
[1448] يُنظر: ((التمهيد)) (24/ 276، 277). .
وذَكَرَ النَّوويُّ استِحبابَ سُؤالِ أهلِ المَريضِ وأقارِبِه عنه
[1449] يُنظر: ((الأذكار)) للنووي (ص: 132). ، واستَدَلَّ بما ثَبَتَ عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما
((أنَّ عليَّ بنَ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، خَرَجَ مِن عِندِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في وجَعِه الذي توُفِّيَ فيه، فقال النَّاسُ: يا أبا حَسَنٍ، كَيف أصبَحَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ فقال: أصبَحَ بحَمدِ اللهِ بارِئًا))... الحَديثُ
[1450] أخرجه البخاري (4447). .
وذَكَرَ النَّوويُّ كذلك استِحبابَ وصيَّةِ أهلِ المَريضِ ومَن يَخدُمُه بالإحسانِ إليه واحتِمالِه والصَّبرِ على ما يَشُقُّ مِن أمرِه، وكذلك الوصيَّةُ بمَن قَرُبَ سَبَبُ مَوتِه بحَدٍّ أو قِصاصٍ أو غَيرِهما
[1451] يُنظر: ((الأذكار)) للنووي (ص: 136). ، واستَدَلَّ بحَديثِ عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ اللهُ عنهما
((أنَّ امرَأةً مِن جُهَينةَ أتَت نَبيَّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهيَ حُبلى مِنَ الزِّنى، فقالت: يا نَبيَّ اللهِ، أصَبتُ حَدًّا، فأقِمْه عليَّ، فدَعا نَبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وليَّها، فقال: أحسِنْ إليها، فإذا وضَعَت فأْتِني بها، ففعَل، فأمَرَ بها نَبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فشُكَّت عليها ثيابُها، ثُمَّ أمَرَ بها فرُجِمَت، ثُمَّ صَلَّى عليها، فقال له عُمَرُ: تُصَلِّي عليها يا نَبيَّ اللهِ وقد زَنَت؟! فقال: لقد تابَت تَوبةً لو قُسِمَت بَينَ سَبعينَ مِن أهلِ المَدينةِ لوسِعَتهم، وهل وجَدتَ تَوبةً أفضَلَ مِن أن جادَت بنَفسِها للهِ تعالى؟!)) [1452] أخرجه مسلم (1696). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (آدابُ العيادةِ عَشَرةُ أشياءَ، ومنها ما لا يختصُّ بالعيادةِ: ألَّا يُقابِلَ البابَ عندَ الاستئذانِ، وأن يَدُقَّ البابَ بِرِفْقٍ، وألَّا يُبهِمَ نَفْسَه؛ كأن يقولَ: أنا، وألَّا يَحْضُرَ في وقتٍ يكونُ غيرَ لائقٍ بالعيادةِ، كوَقتِ شُربِ المريضِ الدَّواءَ، وأن يُخَفِّفَ الجلوسَ، وأن يَغُضَّ البَصَرَ ويُقَلِّلَ السُّؤالَ، وأن يُظهِرَ الرِّقَّةَ، وأن يُخلِصَ الدُّعاءَ، وأن يُوَسِّعَ للمريضِ في الأمَلِ، ويشيرَ عليه بالصَّبر؛ لِما فيه من جزيلِ الأجرِ، ويُحَذِّرَه من الجَزَعِ لِمَا فيه من الوِزرِ)
[1453] ((فتح الباري)) (10/126). .
عيادةُ الصَّغيرِتُشرَعُ عيادةُ الصَّغيرِ.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((دَخَلْنا مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أبي سَيفٍ القَينِ [1454] القَينُ: الحَدَّادُ، وجَمعُه قُيونٌ. يُنظر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (9/ 242). وكان ظِئرًا [1455] الظِّئرُ: المَرأةُ التي تُرضِعُ وَلَدَ غَيرِها بالأُجرةِ، ولمَّا كان ذلك مِن لبَنِ زَوجِها سُمِّيَ هو الآخَرُ ظِئرًا، والظِّئرُ يَقَعُ على الذَّكَرِ والأُنثى. يُنظر: ((كَشف المُشَكِّل)) لابنِ الجَوزيِّ (3/ 273)، ((جامِع الأُصول)) لابنِ الأثيرِ (11/ 89)، ((النهاية)) لابن الأثير (3/ 154). لإبراهيمَ عليه السَّلامُ، فأخَذَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إبراهيمَ، فقَبَّله وشَمَّه، ثُمَّ دَخَلنا عليه بَعدَ ذلك [1456] قَولُه: (ثُمَّ دَخَلنا عليه بَعدَ ذلك) أي: بَعدَ أيَّامٍ؛ إذ سَمِعَ عليه السَّلامُ أنَّ إبراهيمَ مَرِضَ. يُنظر: ((المفاتيح)) للمظهري (2/ 454). وإبراهيمُ يَجودُ بنَفسِه [1457] جاد المَريضُ بنَفسِه: إذا قارَبَ المَوتَ، فكَأنَّه سَمَحَ بخُروجِ روحِه. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (11/ 89). ، فجَعَلت عَينا رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَذرِفانِ [1458] تَذرِفانِ: أي: تَقطُرانِ وتُجريانِ الدَّمعَ. يُنظر: ((المفاتيح)) للمظهري (2/ 455). ...)) الحَديث
[1459] أخرجه البخاري (1303) واللفظ له، ومسلم (2315) بنحوه .
قال ابنُ حَجَرٍ: (فيه مَشروعيَّةُ تَقبيلِ الوَلَدِ وشَمِّه، ومَشروعيَّةُ الرَّضاعِ وعيادةِ الصَّغيرِ، والحُضورِ عِندَ المُحتَضَرِ، ورَحمةُ العيالِ)
[1460] ((فتح الباري)) (3/ 174). .
عيادةُ المُشرِكِتجوزُ عيادةُ المُشرِكِ في الجُملةِ
[1461] يُنظر: ((حلية العلماء)) للشاشي (2/ 279)، ((المجموع)) للنووي (5/ 112)، ((الأذكار)) للنووي (ص: 254، 255)، ((شرح سنن أبي داود)) لابن رسلان (13/ 283). قال البخاريُّ في كتابِ المرضى من ((صحيحِه)): (بابُ عيادةِ المُشرِكِ). ((صحيح البخاري)) (7/ 117). قال ابنُ حَجَرٍ: (قال ابنُ بطَّالٍ: إنَّما تُشرَعُ عيادتُه إذا رُجِيَ أن يجيبَ إلى الدُّخولِ في الإسلامِ، فأمَّا إذا لم يَطمَعْ في ذلك فلا. انتهى. والذي يَظهَرُ أنَّ ذلك يختَلِفُ باختلافِ المقاصِدِ؛ فقد يَقَعُ بعيادتِه مَصلَحةٌ أُخرى، قال الماوَرديُّ: عيادةُ الذِّمِّيِّ جائزةٌ، والقُربةُ موقوفةٌ على نوعِ حُرمةٍ تقتَرِنُ بها من جوارٍ أو قَرابةٍ). ((فتح الباري)) (10/ 119). ويُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (9/ 380)، ((شرح الإلمام)) لابن دقيق العيد (2/ 65)، ((أحكام أهل الذمة)) لابن القيم (1/ 427). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:1- عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((كان غُلامٌ يَهوديٌّ يَخدُمُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فمَرِضَ، فأتاه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَعودُه، فقَعَدَ عِندَ رَأسِه، فقال له: أسلِمْ، فنَظَر إلى أبيه وهو عِندَه، فقال له: أطِعْ أبا القاسِمِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأسلَمَ، فخَرَجَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يَقولُ: الحَمدُ للهِ الذي أنقَذَه مِنَ النَّارِ)) [1462] أخرجه البخاري (1356) .
2- عن سَعيدِ بنِ المُسَيِّبِ، عن أبيه رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه أخبَرَه:
((أنَّه لمَّا حَضَرَت أبا طالِبٍ الوفاةُ جاءَه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فوَجَدَ عِندَه أبا جَهلِ بنَ هشامٍ، وعَبدَ اللَّهِ بنَ أبي أُميَّةَ بنِ المُغيرةِ، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأبي طالبٍ: يا عَمِّ، قُلْ: لا إلهَ إلَّا اللَّهُ، كَلِمةً أشهَدُ لك بها عِندَ اللهِ، فقال أبو جَهلٍ، وعَبدُ اللَّهِ بنُ أبي أُميَّةَ: يا أبا طالبٍ أترغَبُ عن مِلَّةِ عَبدِ المُطَّلِبِ؟ فلم يَزَلْ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَعرِضُها عليه، ويَعودانِ بتلك المَقالةِ، حتَّى قال أبو طالبٍ آخِرَ ما كَلَّمَهم: هو على مِلَّةِ عَبدِ المُطَّلِبِ، وأبى أن يَقولَ: لا إلهَ إلَّا اللَّهُ...)) الحديث.
[1463] أخرجه البخاري (1360) واللفظ له، ومسلم (24). عيادةُ النِّساءِ للرِّجالِتَجوزُ عيادةُ النِّساءِ للرِّجالِ إذا خَلت عن مَحظورٍ وأُمِنَتِ الفِتنةُ
[1464] قال البخاريُّ في كتابِ المرضى من ((صحيحِه)): (بابُ عيادةِ النِّساءِ الرِّجالَ. وعادت أمُّ الدَّرداءِ رَجُلًا من أهلِ المسجِدِ من الأنصارِ). ((صحيح البخاري)) (7/ 116). قال ابنُ حَجَرٍ: (قولُه: "بابُ عيادةِ النِّساءِ الرِّجالَ" أي: ولو كانوا أجانِبَ، بالشَّرطِ المعتَبَرِ). ((فتح الباري)) (10/ 117). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، أنَّها قالت:
((لمَّا قدِمَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المَدينةَ، وُعِكَ [1465] أي: أصابَه الوَعكُ، والمُرادُ به الحُمَّى. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (8/ 346). أبو بَكرٍ وبلالٌ رَضِيَ اللهُ عنهما، قالت: فدَخَلتُ عليهما، قُلتُ: يا أبَتِ كَيف تَجِدُك؟ ويا بلالُ كَيف تَجِدُك؟ قالت: وكان أبو بَكرٍ إذا أخَذَته الحُمَّى، يَقولُ:
كُلُّ امرِئٍ مُصَبَّحٌ في أهلِه
والمَوتُ أدنى مِن شِراكِ نَعلِه [1466] أدنى: أي: أقرَبُ. والشِّراكُ: أحَدُ سُيورِ النَّعلِ التي تَكونُ على وَجهِه. يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (21/ 217).
وكان بلالٌ إذا أقلعَت عنه يَقولُ:
ألَّا ليتَ شِعري هَل أبَيتَنَّ ليلةً
بوادٍ وحَولي إذخِرٌ وجَليلُ [1467] الجَليلُ: الثُّمامُ، وهو مِن نَبتِ الباديةِ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (9/ 324).
وهَل أرِدَنْ يَومًا مياهَ مِجَنَّةٍ [1468] مِجَنَّة: مَوضِعٌ مَعروفٌ بَينَه وبَينَ مَكَّةَ سِتَّةُ أميالٍ، وكان للعَرَبِ فيه سوقٌ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (9/ 324).
وهَل تَبدُوَنْ [1469] يَبدوَنْ، بالنُّونِ الخَفيفةِ، أي: هَل يَظهَرُ. يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (21/ 217). لي شامةٌ وطَفِيلُ [1470] شامةٌ وطَفِيل: جَبَلانِ بأرضِ مَكَّةَ وما والاها، وقال بَعضُ العُلماءِ: هما عَينانِ لا جَبَلانِ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (9/ 324).
قالت عائِشةُ: فجِئتُ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأخبَرتُه، فقال: اللهُمَّ حَبِّبْ إلينا المَدينةَ كَحُبِّنا مَكَّةَ أو أشَدَّ، اللهُمَّ وصَحِّحْها، وبارِكْ لنا في مُدِّها وصاعِها، وانقُلْ حُمَّاها [1471] المَعنى: أن تَعدمَ الحُمَّى مِنَ المَدينةِ وتَظهَرَ في الجُحفةِ، وكان أهلُها يَهودَ، وكانوا شَديدي الإيذاءِ والعَداوةِ للمُؤمِنينَ، فلذلك دَعا عليهم، وأرادَ الخَيرَ لأهلِ الإسلامِ. يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (21/ 217). فاجعَلْها بالجُحفةِ [1472] الجُحفةُ: مَوضِعٌ بَينَ مَكَّةَ والمَدينةِ، وهيَ ميقاتُ أهلِ الشَّامِ. يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (21/ 217). ) [1473] أخرجه البخاري (5654) واللفظ له، ومسلم (1376) .
البكاءُ عِندَ المريضِيجوزُ البُكاءُ عِندَ المريضِ
[1474] قال البُخاريُّ في كتابِ الجنائِزِ من ((صحيحِه)): (بابُ البكاءِ عندَ المريضِ). ((صحيح البخاري)) (2/ 84). قال ابنُ حَجَرٍ: (قال الزَّينُ ابنُ المُنيرِ: ذِكرُ المريضِ أعَمُّ من أن يكونَ أشرَفَ على الموتِ أو هو في مبادئِ المرَضِ، لكنَّ البكاءَ عادةً إنما يقَعُ عندَ ظُهورِ العلاماتِ المخوفةِ، كما في قِصَّةِ سَعدِ بنِ عُبادةَ في حديثِ هذا البابِ). ((فتح الباري)) (3/ 175). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، قال:
((اشتَكى سَعدُ بنُ عُبادةَ شَكوى له، فأتاه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَعودُه مَعَ عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ عَوفٍ، وسَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ، وعَبدِ اللَّهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنهم، فلمَّا دَخَل عليه فوجَدَه في غاشيةِ [1475] قَولُه: (في غاشية) يَحتَمِلُ وجهَينِ: أحَدُهما: أن يَكونَ أرادَ بها القَومَ الذينَ كانوا حَضَروا عِندَه الذينَ هم غاشيَتُه. والوَجهُ الآخَرُ: أن يَكونَ مَعنى ذلك ما يَتَغَشَّاه مِن كَربِ الوجَعِ الذي به، فخاف أن يَكونَ قد هَلكَ؛ ولذلك سَأل فقال: قد قَضى؟ يُقالُ: قَضى الرَّجُلُ: إذا ماتَ. يُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (1/ 691، 692). أهلِه، فقال: قد قَضى؟ قالوا: لا يا رَسولَ اللهِ، فبَكى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا رَأى القَومُ بُكاءَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَكَوا، فقال: ألَا تَسمَعونَ، إنَّ اللَّهَ لا يُعَذِّبُ بدَمعِ العَينِ، ولا بحُزنِ القَلبِ، ولكِن يُعَذِّبُ بهذا -وأشارَ إلى لسانِه- أو يَرحَمُ...)) الحَديث.
[1476] أخرجه البخاري (1304) واللفظ له، ومسلم (924) قال ابنُ بَطَّالٍ: (قال المُهَلَّبُ: فيه جَوازُ البُكاءِ عِندَ المَريضِ، وليسَ ذلك مِنَ الجَفاءِ عليه والتَّقريعِ له، وإنَّما هو إشفاقٌ عليه، ورِقَّةٌ وحُرقةٌ لحالِه، وقد بَيَّنَ في هذا الحَديثِ أنَّه لا يُعَذِّبُ بدَمعِ العَينِ، وحُزنِ القَلبِ، وإنَّما يُعَذِّبُ بالقَولِ السَّيِّئِ ودَعوى الجاهليَّةِ.
وقَولُه: «أو يَرحَمُ» يَحتَمِلُ مَعنَيَينِ: أحَدُهما: أو يَرحَمُ إن لم يَنفُذِ الوعيدُ في ذلك، والثَّاني: يُريدُ أو يَرحَمُه إذا قال خَيرًا، واستَسلمَ لقَضاءِ اللهِ تعالى)
[1477] ((شرح صحيح البخاري)) (3/ 289). .