موسوعة الآداب الشرعية

تَمهيدٌ في حَتميَّةِ المَوتِ ومَشروعيَّةِ الإكثارِ مِن ذِكرِه والاستِعدادِ له


(المَوتُ حَتمٌ لازِمٌ لا مَناصَ مِنه لكُلِّ حَيٍّ مِنَ المَخلوقاتِ، كما قال تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 88] ، وقال: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 26-27]، وقال: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران: 185] .
ولو نجا أحدٌ من الموتِ لنجا منه خِيرةُ اللهِ مِن خَلقِه محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30] ، وقد واسى اللهُ رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّ الموتَ سُنَّتُه في خَلقِه: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء: 34-35] .
والمَوتُ حَقٌّ على الإنسِ والجِنِّ؛ ففي الصَّحيحِ عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَقولُ: ((أعوذُ بعِزَّتِك الذي لا إلهَ إلَّا أنتَ الذي لا يَموتُ، والجِنُّ والإنسُ يَموتونَ)) [1478] أخرجه البخاري (7383) واللفظ له، ومسلم (2717).
وإنَّ لتَذَكُّرِ المَوتِ أثَرًا كَبيرًا في إصلاحِ النُّفوسِ وتَهذيبِها؛ ذلك أنَّ النُّفوسَ تُؤثِرُ الدُّنيا ومَلذَّاتِها، وتَطمَعُ في البَقاءِ المَديدِ في هذه الحَياةِ، وقد تَهفو إلى الذُّنوبِ والمَعاصي، وقد تُقَصِّرُ في الطَّاعاتِ، فإذا كان المَوتُ دائِمًا على بالِ العَبدِ فإنَّه يُصَغِّرُ الدُّنيا في عَينِه، ويَجعَلُه يَسعى في إصلاحِ نَفسِه، وتَقويمِ المُعوَجِّ مِن أمرِه) [1479] يُنظر: ((القيامة الصغرى)) للأشقر (ص: 16، 81-83). وقال السَّمَرقَنديُّ: (مَن أيقَنَ بالمَوتِ وعَلمَ أنَّه نازِلٌ به لا مَحالةَ فلا بُدَّ له مِنَ الاستِعدادِ له بالأعمالِ الصَّالحةِ، وبالاجتِنابِ عنِ الأعمالِ الخَبيثةِ؛ فإنَّه لا يَدري مَتى يَنزِلُ به. وقد بَيَّنَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شِدَّةَ المَوتِ ومَرارَتَه نَصيحةً مِنه لأُمَّتِه؛ لكَي يَستَعِدُّوا له ويَصبروا على شَدائِدِ الدُّنيا؛ لأنَّ الصَّبرَ على شَدائِدِ الدُّنيا أيسَرُ مِن شِدَّةِ المَوتِ، لأنَّ شِدَّةَ المَوتِ مِن عَذابِ الآخِرةِ، وعَذابُ الآخِرةِ أشَدُّ مِن عَذابِ الدُّنيا). ((تنبيه الغافلين)) (ص: 36). .
عن صالحٍ المرِّيِّ، قال: (إنَّ ذِكرَ المَوتِ إذا فارَقَني ساعةً فسَدَ عليَّ قَلبي) [1480] أخرجه ابن المبارك في ((الزهد)) (260). .
وذُكِر عن أبي حامِدٍ اللَّفَّافِ أنَّه قال: (مَن أكثَرَ مِن ذِكرِ المَوتِ أُكرِمَ بثَلاثةِ أشياءَ: تَعجيلُ التَّوبةِ، وقَناعةُ القوتِ، ونَشاطُ العِبادةِ، ومَن نَسيَ المَوتَ عوقِبَ بثَلاثةِ أشياءَ: تَسويفُ التَّوبةِ، وتَركُ الرِّضا بالكَفافِ، والتَّكاسُلُ في العِبادةِ) [1481] ((تنبيه الغافلين)) للسمرقندي (ص: 41)، ((التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة)) للقرطبي (ص: 126). .
وقال ابنُ الخَرَّاطِ: (كَثرةُ ذِكرِ المَوتِ تَردَعُ عنِ المَعاصي، وتُلينُ القَلبَ القاسيَ، وتُذهِبُ الفرَحَ بالدُّنيا، وتُهَوِّنُ المَصائِبَ فيها) [1482] ((العاقبة في ذكر الموت)) (ص: 40). .
وقال القُرطُبيُّ: (اعلَمْ أنَّ ذِكرَ المَوتِ يُورِثُ استِشعارَ الانزِعاجِ عن هذه الدَّارِ الفانيةِ، والتَّوجُّهِ في كُلِّ لحظةٍ إلى الدَّارِ الآخِرةِ الباقيةِ... وأجمَعت الأُمَّةُ على أنَّ المَوتَ ليسَ له سِنٌّ مَعلومٌ، ولا زَمَنٌ مَعلومٌ، ولا مَرَضٌ مَعلومٌ؛ وذلك ليكونَ المَرءُ على أُهبةٍ مِن ذلك، مُستَعِدًّا لذلك) [1483] ((التذكرة)) للقرطبي (ص: 123، 124). .
وقال أيضًا: (قال العُلماءُ رَحمةُ اللهِ عليهم: ليسَ للقُلوبِ أنفعُ مِن زيارةِ القُبورِ، وخاصَّةً إن كانت قاسيةً؛ فعلى أصحابِها أن يُعالجوها بأُمورٍ:
أحَدُها: الإقلاعُ عَمَّا هيَ عليه بحُضورِ مَجالسِ العِلمِ بالوعظِ والتَّذَكُّرِ، والتَّخويفِ والتَّرغيبِ، وأخبارِ الصَّالحينَ؛ فإنَّ ذلك مِمَّا يُلينُ القُلوبَ ويَنجَعُ فيها.
الثَّاني: ذِكرُ المَوتِ، فيُكثِرُ مِن ذِكرِ هادِمِ [1484] هادِمُ اللَّذَّاتِ: ضُبِطَ بالمُهمَلةِ مِن: هَدَمَ البناءَ: إذا نَقَضَه، وضُبِطَ بالذَّالِ المُعجَمةِ مِنَ الهَذمِ: القَطعُ، أي: قاطِع اللَّذَّاتِ، وهما صحيحانِ في حَقِّ المَوتِ. يُنظر: ((التنوير شرح الجامع الصغير)) للصنعاني (3/53). اللَّذَّاتِ، ومُفرِّقِ الجَماعاتِ، ومُيَتِّمِ البَنينَ والبَناتِ...
الثَّالثُ: مُشاهَدةُ المُحتَضَرينَ؛ فإنَّ في النَّظَرِ إلى المَيِّتِ ومُشاهَدةِ سَكَراتِه ونَزَعاتِه، وتَأمُّلِ صورَتِه بَعدَ مَماتِه: ما يَقطَعُ عنِ النُّفوسِ لذَّاتِها، ويَطرُدُ عنِ القُلوبِ مَسَرَّاتِها، ويَمنَعُ الأجفانَ مِنَ النَّومِ، والأبدانَ مِنَ الرَّاحةِ، ويَبعَثُ على العَمَلِ، ويَزيدُ في الاجتِهادِ والتَّعَبِ) [1485] ((التذكرة)) للقرطبي (ص: 132، 133). .
وكَما يُستَحَبُّ الإكثارُ مِن ذِكرِ المَوتِ [1486] وقدِ اتَّفَقَ على استِحبابِ الإكثارِ مِن ذِكرِ المَوتِ المَذاهِبُ الفِقهيَّةُ الأربَعةُ: الحَنَفيَّةُ، والمالكيَّةُ، والشَّافِعيَّةُ، والحَنابلةُ. يُنظر: (((حاشية الطحطاوي)) (ص: 365)، ((حاشية العدوي)) (8/64)، ((المجموع)) للنووي (5/105)، ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (2/3)، ((الفروع)) لابن مفلح (3/251)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/77). فينبغي الاستِعدادُ للمَوتِ؛ بأن يُبادِرَ بالتَّوبةِ ورَدِّ المَظالمِ إلى أهلِها، والإقبالِ على الطَّاعاتِ لئَلَّا يَفجَأَه المَوتُ المُفوِّتُ للتَّوبةِ، ورَدِّ المَظالمِ، وعَمَلِ الصَّالحاتِ.
قال تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110] .
وقال عزَّ وجَلَّ: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 31] .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((أخَذَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمَنكِبي، فقال: كُنْ في الدُّنيا كَأنَّك غَريبٌ أو عابِرُ سَبيلٍ. وكان ابنُ عُمَرَ يَقولُ: إذا أمسَيتَ فلا تَنتَظِرِ الصَّباحَ، وإذا أصبَحتَ فلا تَنتَظِرِ المَساءَ، وخُذْ مِن صِحَّتِك لمَرَضِك، ومِن حَياتِك لمَوتِك)) [1487] أخرجه البخاري (6416). .
وفيما يلي نذكرُ أهمَّ الآدابِ المتعلِّقةِ بالمسلِمِ عندَ احتِضارِه وبعدَ موتِه:

انظر أيضا: