ثالثًا: تَركُ الغِشِّ
يَجِبُ تَجَنُّبُ التَّدليسِ والغِشِّ
[1763] قال ابنُ هُبَيرةَ: (الغِشُّ ضِدُّ النُّصحِ، وإظهارُ ما ليسَ في الباطِنِ). ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) (8/ 94). وقال ابنُ حَجَرٍ الهَيتميُّ: (الغِشُّ المُحَرَّمُ: أن يَعلَمَ ذو السِّلعةِ -مِن نَحوِ بائِعٍ أو مُشتَرٍ- فيها شَيئًا لوِ اطَّلعَ عَليه مُريدُ أخذِها ما أخَذَها بذلك المُقابِلِ). ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) (1/ 396). وقال أبو طالِبٍ المَكِّيُّ: (مِنَ الغِشِّ أن يَنشُرَ على المُشتَري أجوَدَ الطَّرَفينِ مِنَ المَبيعِ، أو يُظهِرَ مِنَ المَبيعِ أجوَدَ الثَّوبَينِ، أو يَكشِفَ مِنَ الصَّنعةِ أحسَنَ الوَجهَينِ). ((قوت القلوب)) (2/ 445). وقال ابنُ تَيميَّةَ: (الغِشُّ يَدخُلُ في البُيوعِ، بكِتمانِ العُيوبِ، وتَدليسِ السِّلَعِ، مِثلُ أن يَكونَ ظاهِرُ المَبيعِ خَيرًا مِن باطِنِه، كالذي مَرَّ عَليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنكَرَ عليه. ويَدخُلُ في الصِّناعاتِ، مِثلُ الذينَ يَصنَعونَ المَطعوماتِ مِنَ الخُبزِ والطَّبخِ والعَدَسِ والشِّواءِ وغَيرِ ذلك، أو يَصنَعونَ المَلبوساتِ، كالنَّسَّاجينَ والخَيَّاطينَ ونَحوِهم، أو يَصنَعونَ غَيرَ ذلك مِنَ الصِّناعاتِ؛ فيَجِبُ نَهيُهم عنِ الغِشِّ والخيانةِ والكِتمانِ). ((مجموع الفتاوى)) (28/ 72). بصُوَرِه كافَّةً.
الدَّليلُ على ذلك مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ:أ- مِنَ الكِتابِ1- قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء: 29] .
قال ابنُ حَجَرٍ الهَيتَميُّ: (بَيَّنَ اللهُ أنَّ التِّجارةَ لا تُحمَدُ ولا تَحِلُّ إلَّا إن صَدَرَت عنِ التَّراضي مِنَ الجانِبَينِ، والتَّراضي إنَّما يَحصُلُ حَيثُ لم يَكُنْ هناكَ غِشٌّ ولا تَدليسٌ، وأمَّا حَيثُ كان هناكَ غِشٌّ وتَدليسٌ فذلك حَرامٌ شَديدُ التَّحريمِ مُوجِبٌ لمَقتِ اللهِ ومَقتِ رَسولِه.
فعلى مَن أرادَ رِضا اللهِ ورَسولِه، وسَلامةَ دينِه ودُنياه ومُروءَتِه وعِرضِه وأُخراه: أن يَتَحَرَّى لدينِه، وأن لا يَبيعَ شَيئًا مِن تلك البُيوعِ المَبنيَّةِ على الغِشِّ والخَديعةِ)
[1764] ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) (1/ 399). .
2- قال تعالى:
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 188] .
فهذا أمرٌ عامٌّ للمسلمينَ بأنْ يكونَ التَّعاملُ الماليُّ بينَهم على أساسٍ مِن احترامِ كلِّ واحدٍ حقَّ الآخرينَ، وألَّا يأخذَ مالًا إلَّا بحقِّه، فلا يأخذُه بربا أو غشٍّ أو تدليسٍ أو بميسرٍ، أيًّا كان شكلُه، ولا بسرقةٍ أو غصبٍ
[1765] يُنظر: ((زهرة التفاسير)) لمحمد أبي زهرة (2/ 569). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ: 1- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه،
((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَرَّ على صُبْرةِ [1766] الصُّبرةُ: الطَّعامُ المُجتَمِعُ كالكومةِ، وجَمعُها صُبَرٌ. ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (3/ 9). طَعامٍ، فأدخَل يَدَه فيها، فنالت أصابِعُه بَللًا، فقال: ما هذا يا صاحِبَ الطَّعامِ؟ قال: أصابَته السَّماءُ [1767] أرادَ بالسَّماءِ: المَطَرَ، فسَمَّاه باسمِ مَكانِه. ((جامع الأصول)) لابن الأثير (1/ 499). يا رَسولَ اللهِ، قال: أفلا جَعَلْتَه فوقَ الطَّعامِ كَي يَراه النَّاسُ، مَن غَشَّ فليسَ مِنِّي)) [1768] أخرجه مسلم (102). .
وفي رِوايةٍ:
((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَرَّ برَجُلٍ يَبيعُ طَعامًا فسَأله كَيف تَبيعُ؟ فأخبَرَه، فأُوحيَ إليه أن أدخِلْ يَدَك فيه، فأدخَل يَدَه فيه فإذا هو مَبلولٌ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ليسَ مِنَّا مَن غَشَّ)) [1769] أخرجها أبو داود (3452) واللَّفظُ له، وأحمد (7292). صَحَّحه الحاكِمُ في ((المستدرك)) (2153) وقال على شرط مسلم، والبغوي في ((شرح السنة)) (4/323)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3452)، وقال ابن عساكر في ((معجم الشيوخ)) (2/1151): حسن صحيح. .
2- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((مَن حَمَل علينا السِّلاحَ فليسَ مِنَّا، ومَن غَشَّنا فليسَ مِنَّا)) [1770] أخرجه مسلم (101). .
3- عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((مَن غَشَّنا فليسَ مِنَّا [1771] ليسَ مِنَّا: أي: ليسَ على سيرَتِنا ومَذهَبنا، والتَّمَسُّكِ بسُنَّتِنا، كَما يَقولُ الرَّجُلُ: أنا مِنك وإليك، يُريدُ المُتابَعةَ والموافَقةَ. يُنظر: ((الغريبين)) للهروي (2/ 483)، ((النهاية)) لابن الأثير (4/ 366). ، والمَكرُ والخِداعُ في النَّارِ)) [1772] أخرجه ابنُ حبان (5559)، والطبراني (10/169) (10234)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (4/189). صَحَّحه ابنُ حبان، والألباني بمجموع طرقه في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1058)، وجَوَّد إسنادَه المُنذِريُّ في ((الترغيب والترهيب)) (3/32)، وحَسَّنه شُعَيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (5559). وقَولُه: ((والخِداعُ في النَّارِ)) أخرجه البخاريُّ مُعَلَّقًا بصيغة الجزم قبل حديث (2142) بلفظِ: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الخَديعةُ في النَّارِ)). .
4- عن حَكيمِ بنِ حِزامٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((البَيِّعانِ بالخيارِ ما لم يَتَفرَّقا -أو قال: حتَّى يَتَفرَّقا-، فإن صَدَقا وبَيَّنا بُورِكَ لهما في بَيعِهما، وإن كَتَما وكَذَبا مُحِقَت بَرَكةُ بَيعِهما)) [1773] أخرجه البخاري (2079) واللَّفظُ له، ومسلم (1532). .
5- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا تَحاسَدوا ولا تَناجَشوا، ولا تَباغَضوا ولا تَدابَروا، ولا يَبِعْ بَعضُكُم على بَيعِ بَعضٍ، وكونوا عِبادَ اللهِ إخوانًا، المُسلِمُ أخو المُسلمِ، لا يَظلِمُه ولا يَخذُلُه، ولا يَحقِرُه، التَّقوى هاهنا -ويُشيرُ إلى صَدرِه ثَلاثَ مَرَّاتٍ- بحَسْبِ امرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أن يَحقِرَ أخاه المُسلِمَ، كُلُّ المُسلمِ على المُسلمِ حَرامٌ: دَمُه، ومالُه، وعِرضُه)) [1774] أخرجه مسلم (2564). وأخرجه البخاري (6066) مُختَصَرًا بنحوِه، بلفظِ: عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إيَّاكُم والظَّنَّ؛ فإنَّ الظَّنَّ أكذَبُ الحَديثِ، ولا تَحَسَّسوا ولا تَجَسَّسوا، ولا تَناجَشوا ولا تَحاسَدوا ولا تَباغَضوا، ولا تَدابَروا، وكونوا عِبادَ اللهِ إخوانًا)). .
6- عن أبي بَكرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال:
((... فإنَّ دِماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم حَرامٌ عليكم كحُرمةِ يومِكم هذا، في بلدِكم هذا، في شهرِكم هذا، وستلقَونَ ربَّكم فيسألُكم عن أعمالِكم...)) [1775] أخرجه البخاري (4406)، ومسلم (1679) واللَّفظُ له. .
7- عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما
((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَطَبَ النَّاسَ وقال: إنَّ دِماءَكُم وأموالَكُم حَرامٌ عليكُم كحُرمةِ يَومِكُم هذا، في شَهرِكُم هذا، في بَلدِكُم هذا)) [1776] أخرجه مسلم (1218). .
8- عن جَريرِ بنِ عَبدِ اللَّهِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((بايَعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على إقامِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، والنُّصحِ لكُلِّ مُسلِمٍ)) [1777] أخرجه البخاري (57)، ومسلم (56). .
9- عن تَميمٍ الدَّاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((الدِّينُ النَّصيحةُ. قُلْنا: لِمَن؟ قال: للَّهِ ولكِتابِه ولرَسولِه ولأئِمَّةِ المُسلِمينَ وعامَّتِهم)) [1778] أخرجه مسلم (55). .
قال ابنُ بَطَّالٍ: (نَصيحةُ المُسلمِ للمُسلمِ واجِبةٌ، وقد كان رَسولُ اللهِ يَأخُذُها في البَيعةِ على النَّاسِ كَما يَأخُذُ عليهمُ الفرائِضَ... وأمَرَ المُؤمِنينَ بالتَّحابِّ والمُؤاخاةِ في اللهِ، قال: «لا يُؤمِنُ أحَدُكُم حتَّى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنَفسِه»
[1779] أخرجه البخاري (13) واللَّفظُ له، ومسلم (45). ، فحَرَّمَ بهذا كُلِّه غِشَّ المُؤمِنينَ وخَديعَتَهم ...
قال ابنُ المُنذِرِ: فكِتمانُ العُيوبِ في السِّلَعِ حَرامٌ، ومَن فَعلَ ذلك فهو مُتَوعَّدٌ بمَحقِ بَرَكةِ بَيعِه في الدُّنيا، والعَذابِ الأليمِ في الآخِرةِ)
[1780] ((شرح صحيح البخاري)) (6/ 213). .
ج- مِنَ الإجماعِ:نقَل غيرُ واحدٍ الإجماعَ على تحريمِ الغِشِّ؛ ومنهم: ابنُ العربيِّ
[1781] قال ابنُ العَرَبيِّ: (الغِشُّ حَرامٌ بِإجماعِ الأمَّةِ؛ لِأنَّه نَقيضُ النُّصحِ). ((عارضة الأحوذي)) (6/55). ، والفاكهانيُّ
[1782] قال الفاكهانيُّ: (لا أعلَمُ خِلافًا في تَحريمِ الغِشِّ والخديعةِ). ((كفاية الطالب الرباني مع حاشية العدوي)) (6/55). ، والشوكانيُّ
[1783] قال الشَّوكانيُّ -في حَديثِ أبي هُرَيرةَ في قِصَّةِ صاحبِ الطَّعامِ-: (وهو يدُلُّ على تَحريمِ الغِشِّ، وهو مُجمَعٌ على ذلك). ((نيل الأوطار)) (5/251). .
فائِدةٌ:قال ابنُ حَجَرٍ الهَيتميُّ بَعدَ ذِكرِ بَعضِ صُوَرِ الغِشِّ: (ما حُكِيَ من صُوَرِ ذلك الغِشِّ التي يفعَلُها التُّجَّارُ، والعَطَّارون، والبَزَّازون، والصَّواغون، والصَّيارِفةُ، والحيَّاكون، وسائِرُ أربابِ البضائِعِ والمتاجِرِ والحِرَفِ والصَّنائِعِ- كُلُّه حرامٌ شديدُ التَّحريمِ، موجِبٌ لصاحبِه أنَّه فاسِقٌ غَشَّاشٌ خائِنٌ، يأكُلُ أموالَ النَّاسِ بالباطِلِ، ويخادِعُ اللَّهَ ورسولَه، وما يخادِعُ إلَّا نفسَه؛ لأنَّ عقابَ ذلك ليس إلَّا عليه.
وكَثرةُ ذلك تَدُلُّ على فسادِ الزَّمانِ وقُربِ السَّاعةِ، وفسادِ الأموالِ والمُعامَلاتِ، ونَزعِ البَرَكاتِ مِنَ المَتاجِرِ والبياعاتِ والزِّراعاتِ، بَل ومِنَ الأراضي المَزروعاتِ...
بواسِطةِ تلك القَبائِحِ والعَظيماتِ التي أنتُم عليها في تِجاراتِكُم ومُعامَلاتِكُم، ولهذه القَبائِحِ التي ارتَكَبَها التُّجَّارُ والمُتَسَبِّبونَ وأربابُ الحِرَفِ والصَّنائِعِ سَلَّطَ اللهُ عليهمُ الظَّلَمةَ فأخَذوا أموالَهم، وهَتَكوا حَريمَهم، بَل وسَلَّطَ عليهمُ الكُفَّارَ فأسَروهم واستَعبَدوهم، وأذاقوهمُ العَذابَ والهَوانَ ألوانًا، وكَثرةُ تَسَلُّطِ الكُفَّارِ على المُسلمينَ بالأسْرِ والنَّهْبِ وأخذِ الأموالِ والحَريمِ إنَّما حَدَثَ في هذه الأزمِنةِ المُتَأخِّرةِ لمَّا أن أحدَثَ التُّجَّارُ وغَيرُهم قَبائِحَ ذلك الغِشِّ الكَثيرةَ المُتَنَوِّعةَ، وعَظائِمَ تلك الجِناياتِ والمُخادَعاتِ والتَّخَيُّلاتِ الباطِلةَ على أخذِ أموالِ النَّاسِ بأيِّ طَريقٍ قدَروا عليها، لا يُراقِبونَ اللَّهَ المُطَّلعَ عليهم، ولا يَخشَونَ سَطوةَ عِقابِه ومَقتِه، مَعَ أنَّه تعالى عليهم بالمِرصادِ:
يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر: 19] ، و
يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه: 7] ،
أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [الملك: 14] .
ولو تَأمَّل الغَشَّاشُ الخائِنُ الآكِلُ أموالَ النَّاسِ بالباطِلِ ما جاءَ في إثمِ ذلك في القُرآنِ والسُّنَّةِ، لرُبَّما انزَجَرَ عن ذلك أو عن بَعضِه)
[1784] ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) (1/ 400). ويُنظر: ((الدروس الحكمية للناشئة الإسلامية)) لرفيق بك العظم (ص: 48-51). .