موسوعة الآداب الشرعية

تاسعًا: ألَّا يُخالِفَ فِعلُه قَولَه


مِن أدَبِ الآمِرِ النَّاهي: أن يَبدَأَ بنَفسِه في التِزامِ ما يَأمُرُ به، واجتِنابِ ما يَنهى عنه، وألَّا يُخالِفَ فِعلُه قَولَه.
الدَّليلُ على ذلك مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
1- قال تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [البقرة: 44] .
قال السَّعديُّ: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ أي: بالإيمانِ والخَيرِ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ أي: تَترُكونَها عن أمرِها بذلك، والحالُ: وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ، وسُمِّي العَقلُ عَقلًا؛ لأنَّه يَعقِلُ به ما يَنفعُه مِنَ الخَيرِ، وينعَقِلُ به عَمَّا يَضُرُّه؛ وذلك أنَّ العَقلَ يَحُثُّ صاحِبَه أن يَكونَ أوَّلَ فاعِلٍ لِما يَأمُرُ به، وأوَّلَ تارِكٍ لِما يَنهى عنه، فمَن أمرَ غَيرَه بالخَيرِ ولم يَفعَلْه، أو نَهاه عنِ الشَّرِّ فلم يَترُكْه، دَلَّ على عَدَمِ عَقلِه وجَهلِه، خُصوصًا إذا كان عالِمًا بذلك، قد قامَت عليه الحُجَّةُ.
وهذه الآيةُ وإن كانت نَزَلت في سَبَبِ بَني إسرائيلَ فهيَ عامَّةٌ لكُلِّ أحَدٍ.
وليسَ في الآيةِ أنَّ الإنسانَ إذا لم يَقُمْ بما أمَرَ به أنَّه يَترُكُ الأمرَ بالمَعروفِ والنَّهيَ عنِ المُنكَرِ؛ لأنَّها دَلَّت على التَّوبيخِ بالنِّسبةِ إلى الواجِبَينِ [2162] قال الغَزاليُّ: (قَولُه عَزَّ وجَلَّ: وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 44] إنكارٌ مِن حَيثُ إنَّهم نَسُوا أنفُسَهم لا مِن حَيثُ إنَّهم أمَروا غَيرَهم، ولكِن ذُكِرَ أمرُ الغَيرِ استِدلالًا به على عِلمِهم، وتَأكيدًا للحُجَّةِ عليهم). ((إحياء علوم الدين)) (2/ 314). وقال القُرطُبيُّ: (ليسَ مِن شَرطِ النَّاهي أن يَكونَ عَدلًا عِندَ أهلِ السُّنَّةِ، خِلافًا للمُبتَدِعةِ؛ حَيثُ تَقولُ: لا يُغَيِّرُه إلَّا عَدلٌ. وهذا ساقِطٌ؛ فإنَّ العَدالةَ مَحصورةٌ في القَليلِ مِنَ الخَلقِ، والأمرُ بالمَعروفِ والنَّهيُ عنِ المُنكَرِ عامٌّ في جَميعِ النَّاسِ. فإن تَشَبَّثوا بقَولِه تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 44] ، وقَولِه: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف: 3] ونَحوِه، قيل لهم: إنَّما وقَعَ الذَّمُّ هاهنا على ارتِكابِ ما نُهيَ عنه لا على نَهيِه عنِ المُنكَرِ، ولا شَكَّ في أنَّ النَّهيَ عنه مِمَّن يَأتيه أقبَحُ مِمَّن لا يَأتيه؛ ولذلك يَدورُ في جَهَنَّمَ كما يَدورُ الحِمارُ بالرَّحى). ((الجامع لأحكام القرآن)) (4/ 47، 48). وقال ابنُ كَثيرٍ: (اللَّهُ تعالى ذَمَّهم على هذا الصَّنيعِ، ونَبَّهَهم على خَطَئِهم في حَقِّ أنفُسِهم؛ حَيثُ كانوا يَأمُرونَ بالخَيرِ ولا يَفعَلونَه، وليسَ المُرادُ ذَمَّهم على أمرِهم بالبِرِّ مَعَ تَركِهم له، بَل على تَركِهم له؛ فإنَّ الأمرَ بالمَعروفِ مَعروفٌ، وهو واجِبٌ على العالمِ، ولكِنَّ الواجِبَ والأَولى بالعالمِ أن يَفعَلَه مَعَ أمرِهم به، ولا يَتَخَلَّفَ عنهم... فكُلٌّ مِنَ الأمرِ بالمَعروفِ وفِعلِه واجِبٌ، لا يَسقُطُ أحَدُهما بتَركِ الآخَرِ على أصَحَّ قَولَي العُلماءِ مِنَ السَّلَفِ والخَلَفِ. وذَهَبَ بَعضُهم إلى أنَّ مُرتَكِبَ المَعاصي لا يَنهى غَيرَه عنها، وهذا ضَعيفٌ، وأضعَفُ مِنه تَمَسُّكُهم بهذه الآيةِ؛ فإنَّه لا حُجَّةَ لهم فيها. والصَّحيحُ أنَّ العالمَ يَأمُرُ بالمَعروفِ وإن لم يَفعَلْه، ويَنهى عنِ المُنكَرِ وإنِ ارتَكَبَه. قال مالِكٌ عن رَبيعةَ: سَمِعتُ سَعيدَ بنَ جُبَيرٍ يَقولُ له: لو كان المَرءُ لا يَأمُرُ بالمَعروفِ ولا يَنهى عنِ المُنكَرِ حتَّى لا يَكونَ فيه شَيءٌ، ما أمَرَ أحَدٌ بمَعروفٍ ولا نَهى عن مُنكَرٍ. وقال مالِكٌ: وصَدَقَ، مَن ذا الذي ليسَ فيه شَيءٌ؟! قُلتُ: ولكِنَّه -والحالةُ هذه- مَذمومٌ على تَركِ الطَّاعةِ وفِعلِه المَعصيةَ؛ لعِلمِه بها ومُخالفتِه على بَصيرةٍ؛ فإنَّه ليسَ مَن يَعلمُ كَمَن لا يَعلمُ؛ ولهذا جاءَتِ الأحاديثُ في الوعيدِ على ذلك). ((تفسير القرآن العظيم)) (1/ 247). وقال النَّوويُّ: (قال العُلماءُ: ولا يُشتَرَطُ في الآمِرِ والنَّاهي أن يَكونَ كامِلَ الحالِ مُمتَثِلًا ما يَأمُرُ به، مُجتَنِبًا ما يَنهى عنه، بَل عليه الأمرُ وإن كان مُخِلًّا بما يَأمُرُ به، والنَّهيُ وإن كان مُتَلبِّسًا بما يَنهى عنه؛ فإنَّه يَجِبُ عليه شَيئانِ: أن يَأمُرَ نَفسَه ويَنهاها، ويَأمُرَ غَيرَه ويَنهاه، فإذا أخَلَّ بأحَدِهما كَيف يُباحُ له الإخلالُ بالآخَرِ؟!). ((شرح مسلم)) (2/ 23). ، وإلَّا فمِنَ المَعلومِ أنَّ على الإنسانِ واجِبَينِ: أمرُ غَيرِه ونَهيُه، وأمرُ نَفسِه ونَهيُها؛ فتَركُ أحَدِهما لا يَكونُ رُخصةً في تَركِ الآخَرِ؛ فإنَّ الكَمالَ أن يَقومَ الإنسانُ بالواجِبَينِ، والنَّقصَ الكامِلَ أن يَترُكَهما، وأمَّا قيامُه بأحَدِهما دونَ الآخَرِ فليسَ في رُتبةِ الأوَّلِ، وهو دونَ الأخيرِ، وأيضًا فإنَّ النُّفوسَ مَجبولةٌ على عَدَمِ الانقيادِ لمَن يُخالِفُ قَولُه فِعلَه، فاقتِداؤُهم بالأفعالِ أبلغُ مِنِ اقتِدائِهم بالأقوالِ المُجَرَّدةِ) [2163] ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 51). .
2- قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف: 2-3] .
3- وقال شُعَيبٌ عليه السَّلامُ لقَومِه: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود: 88] .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
عن أُسامةَ بنِ زَيدٍ رَضيَ اللهُ عنهما، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((يُؤتى بالرَّجُلِ يَومَ القيامةِ فيُلقى في النَّارِ فتَندَلِقُ أقتابُ [2164] الأقتابُ: الأمعاءُ، والاندِلاقُ: خُروجُ الشَّيءِ مِن مَكانِه سَلِسًا سَهلًا. يُنظر: ((غريب الحديث)) للقاسم بن سلام (3/ 388، 389). بَطنِه، فيَدورُ بها كما يَدورُ الحِمارُ بالرَّحى! فيَجتَمِعُ إليه أهلُ النَّارِ فيَقولونَ: يا فُلانُ ما لَك؟! ألَم تَكُنْ تَأمُرُ بالمَعروفِ وتَنهى عَنِ المُنكَرِ؟! فيَقولُ: بَلى، قد كُنتُ آمُرُ بالمَعروفِ ولا آتيه، وأنهى عَنِ المُنكَرِ وآتيه)) [2165] أخرجه البخاري (3267)، ومسلم (2989) واللَّفظُ له. .

انظر أيضا: