فوائِدُ
خطرُ مخالفةِ العملِ العلمَقال الغَزاليُّ: (مَن عَلِمَ وعَمِلَ فهو الَّذي يُدعى عَظيمًا في مَلكوتِ السَّمَواتِ؛ فإنَّه كالشَّمسِ تُضيءُ لغَيرِها وهيَ مُضيئةٌ في نَفسِها، وكالمِسكِ الذي يُطَيِّبُ غَيرَه وهو طَيِّبٌ.
والذي يَعلمُ ولا يَعمَلُ به كالدَّفتَرِ الذي يُفيدُ غَيرَه وهو خالٍ عنِ العِلمِ، وكالمِسَنِّ الذي يَشحَذُ غَيرَه ولا يَقطَعُ، والإبرةِ التي تَكسو غَيرَها وهيَ عاريةٌ، وذُبالةِ المِصباحِ تُضيءُ لغَيرِها وهيَ تَحتَرِقُ)
[2166] ((إحياء علوم الدين)) (1/ 55). .
وقال أيضًا: (... لا يُكَذِّبُ قَولُه فِعلَه؛ لأنَّ العِلمَ يُدرَكُ بالبَصائِرِ، والعَمَلَ يُدرَكُ بالأبصارِ، وأربابُ الأبصارِ أكثَرُ، فإذا خالف العَمَلُ العِلمَ مَنَع الرُّشدَ، وكُلُّ مَن تَناول شَيئًا وقال للنَّاسِ: لا تَتَناوَلوه؛ فإنَّه سُمٌّ مُهلِكٌ، سَخِرَ النَّاسُ به واتَّهَموه، وزادَ حِرصُهم على ما نُهُوا عنه، فيَقولونَ: لولا أنَّه أطيَبُ الأشياءِ وألذُّها لَما كان يَستَأثِرُ به، ومَثَلُ المعَلِّمِ المُرشِدِ مِنَ المُستَرشِدينَ مَثَلُ النَّقشِ مِنَ الطِّينِ، والظِّلِّ مِنَ العودِ، فكَيف يَنتَقِشُ الطِّينُ بما لا نَقشَ فيه، ومَتى استَوى الظِّلُّ والعودُ أعوَجُ؟! ولذلك قيل في المَعنى:
لا تَنهَ عن خُلُقٍ وتَأتيَ مِثلَه
عارٌ عليك إذا فعَلتَ عَظيمُ
ولذلك كان وِزرُ العالمِ في مَعاصيه أكثَرَ مِن وِزرِ الجاهِلِ؛ إذ يَزِلُّ بزَلَّتِه عالَمٌ كَثيرٌ ويَقتَدونَ به، ومَن سَنَّ سُنَّةً سَيِّئةً فعليه وِزرُها ووِزرُ مَن عَمِلَ بها
[2167] لفظُه: ((مَن سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حَسَنةً فله أجرُها وأجرُ مَن عَمِل بها بَعدَه، مِن غَيرِ أن يَنقُصَ مِن أُجورِهم شَيءٌ، ومَن سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً سَيِّئةً كان عليه وِزرُها ووِزرُ مَن عَمِل بها مِن بَعدِه، مِن غَيرِ أن يَنقُصَ مِن أوزارِهم شَيءٌ)) أخرجه مسلم (1017) من حديثِ جَريرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه. ؛ ولذلك قال عليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه: قَصَمَ ظَهري رَجُلانِ: عالِمٌ مُتَهَتِّكٌ، وجاهِلٌ مُتَنَسِّكٌ؛ فالجاهِلُ يَغُرُّ النَّاسَ بتَنَسُّكِه، والعالمُ يَغُرُّهم بتَهَتُّكِه)
[2168] ((إحياء علوم الدين)) (1/ 58). .
وقال أيضًا: (لا يُخالِفُ فِعلُه قَولَه، بَل لا يَأمُرُ بالشَّيءِ ما لم يَكُنْ هو أوَّلَ عامِلٍ به... قال أبو الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عنه: وَيلٌ لِمَن لا يَعلمُ مَرَّةً! ووَيلٌ لمَن يَعلمُ ولا يَعمَلُ سَبعَ مَرَّاتٍ!
وقال الشَّعبيُّ: يَطَّلعُ يَومَ القيامةِ قَومٌ مِن أهلِ الجَنَّةِ على قَومٍ مِن أهلِ النَّارِ، فيَقولونَ لهم: ما أدخَلَكُمُ النَّارَ، وإنَّما أدخَلَنا اللَّهُ الجَنَّة بفَضلِ تَأديبِكُم وتَعليمِكُم؟! فيَقولونَ: إنَّا كُنَّا نَأمُرُ بالخَيرِ ولا نَفعَلُه، ونَنهى عنِ الشَّرِّ ونَفعَلُه.
وقال حاتِمٌ الأصَمُّ رَحِمَه اللهُ: ليسَ في القيامةِ أشَدُّ حَسرةً مِن رَجُلٍ عَلَّم النَّاسَ عِلمًا، فعَمِلوا به ولم يَعمَلْ هو به؛ ففازوا بسَبَبِه، وهَلكَ هو.
وقال مالِكُ بنُ دينارٍ: إنَّ العالمَ إذا لم يَعمَلْ بعِلمِه زَلَّت مَوعِظَتُه عنِ القُلوبِ كَما يَزِلُّ القَطرُ عنِ الصَّفا، وأنشَدوا:
يا واعِظَ النَّاسِ قد أصبَحتَ مُتَّهَمًا
إذ عِبتَ مِنهم أُمورًا أنتَ تَأتيها
أصبَحتَ تَنصَحُهم بالوَعظِ مُجتَهِدًا
فالموبِقاتُ لعَمْـري أنتَ جانِيـها
تَعيــــــبُ دُنـــــيا ونـــاسًا راغِبــــينَ لـها
وأنتَ أكثَرُ مِنهم رَغبةً فيها
وقال إبراهيمُ بنُ أدهَمَ رَحِمَه اللهُ: مَرَرتُ بحَجرٍ بمَكَّةَ مَكتوبٌ عليه: اقلِبْني تَعتَبرْ! فقَلبتُه فإذا عليه مَكتوبٌ: أنتَ بما تَعلمُ لا تَعمَلُ، فكَيف تَطلُبُ عِلمَ ما لم تَعلَمْ؟!
وقال ابنُ السَّمَّاكِ رَحِمَه اللهُ: كَم مِن مُذَكِّرٍ باللهِ ناسٍ للهِ! وكَم مِن مُخَوِّفٍ باللهِ جَريءٌ على اللهِ! وكَم مِن مُقَرِّبٍ إلى اللهِ بَعيدٌ مِنَ اللهِ! وكَم مِن داعٍ إلى اللهِ فارٌّ مِنَ اللهِ! وكَم مِن تالٍ كِتابَ اللهِ مُنسَلِخٌ عن آياتِ اللهِ!
وقال إبراهيمُ بنُ أدهَمَ رَحِمَه اللهُ: لقد أعرَبنا في كَلامِنا فلم نَلحَنْ، ولحنَّا في أعمالِنا فلم نُعرِبْ!)
[2169] ((إحياء علوم الدين)) (1/ 63). .
من تَلبيسِ إبليسَ على النَّاهينَ عنِ المُنكَرِقال ابنُ الجَوزيِّ: (ومِن تَلبيسِ إبليسَ على المُنكِرِ: أنَّه إذا أنكَرَ جَلَسَ في مَجمَعٍ يَصِفُ ما فعَلَ، ويَتَباهى به ويَسُبُّ أصحابَ المُنكَرِ سَبَّ الحَنقِ عليهم، ويَلعنُهم، ولَعَلَّ القَومَ قد تابوا، ورُبَّما كانوا خَيرًا مِنه لنَدَمِهم وكِبرِه، ويَندَرِجُ في ضِمنِ حديثِه كَشفُ عَوراتِ المُسلِمينَ؛ لأنَّه يُعلِمُ مَن لا يَعلَمُ، والسَّترُ على المُسلِمِ واجِبٌ مَهما أمكَنَ، وسَمِعتُ عن بَعضِ الجَهَلةِ بالإنكارِ أنَّه يَهجُمُ على قَومٍ ما يَتَيَقَّنُ ما عِندَهم ويَضرِبُهمُ الضَّربَ المُبَرِّحَ ويَكسِرُ الأوانيَ، وكُلُّ هَذا يوجِبُه الجَهلُ؛ فأَمَّا العالِمُ إذا أنكَرَ فأَنتَ مِنه على أمانٍ، وقد كان السَّلَفُ يَتَلَطَّفونَ في الإنكارِ، ورَأى صِلةُ بنُ أشيَمَ رَجُلًا يُكَلِّمُ امرَأةً، فقال: إنَّ اللَّهَ يَراكُما، سَتَرنا اللَّهُ وإيَّاكُما! وكان يَمُرُّ بقَومٍ يَلعَبونَ، فيَقولُ: يا إخواني، ما تَقولونَ فيمَن أرادَ سَفرًا فنامَ طولَ اللَّيلِ ولَعِبَ طولَ النَّهارِ، مَتى يَقطَعُ سَفَرَه؟! فانتَبَهَ رَجُلٌ مِنهم، فقال: يا قَومِ، إنَّما يُعَلِّمُنا هذا! فتابَ وصَحِبَه.
وأولى النَّاسِ بالتَّلَطُّفِ في الإنكارِ على الأُمَراءِ، فيَصلُحُ أن يُقال لَهم: إنَّ اللَّهَ قد رَفعَكُم، فاعرِفوا قَدْرَ نِعمَتِه؛ فإِنَّ النِّعَمَ تَدومُ بالشُّكرِ، فلا يَحسُنُ أن تُقابَلَ بالمَعاصي.
وقد لَبَّسَ إبليسُ على بَعضِ المُتَعَبِّدينَ، فيَرى مُنكَرًا فلا يُنكِرُه، ويَقولُ: إنَّما يَأمُرُ ويَنهى مَن قد صَلَحَ، وأنا ليس بصالِحٍ، فكَيف آمُرُ غَيري؟! وهذا غَلَطٌ؛ لأنَّه يَجِبُ عليه أن يَأمُرَ ويَنهى، ولَو كانت تلك المَعصيةُ فيه، إلَّا أنَّه مَتى أنكَرَ مُتَنَزِّهًا عنِ المُنكَرِ أثَّرَ إنكارُه، وإِذا لَم يَكُنْ مُتَنَزِّهًا لَم يَكَدْ يَعمَلُ إنكارُه؛ فيَنبَغي للمُنكِرِ أن يُنَزِّهَ نَفسَه ليُؤثِّرَ إنكارُه.
قال ابنُ عَقيلٍ: رَأَينا في زَمانِنا أبا بَكرٍ الأقفاليَّ في أيَّامِ القائِمِ إذا نَهَضَ لإنكارِ مُنكَرٍ استَتبَعَ مَعَه مَشايِخَ لا يَأكُلونَ إلَّا مِن صَنعةِ أيديهم، كأبي بَكرٍ الخَبَّازِ شَيخٍ صالِحٍ أضَرَّ مِنِ اطِّلاعِه في التَّنُّورِ، وتَبِعَه وجَماعةٌ ما فيهم مَن يَأخُذُ صَدَقةً ولا يُدَنَّسُ بقَبولِ عَطاءٍ، صَوَّامُ النَّهارِ قَوَّامُ اللَّيلِ أربابُ بُكاءٍ، فإذا تَبِعَه مُخَلِّطٌ رَدَّه! وقال: مَتى لَقينا الجَيشَ بمُخَلِّطٍ انهَزَمَ الجَيشُ!)
[2170] ((تلبيس إبليس)) (ص: 132-134). .