أولًا: طاعَتُهما في غَيرِ مَعصيةٍ واجتنابُ عُقوقِهما
مِنَ الأدَبِ الواجِبِ مَعَ الوالدَينِ: طاعَتُهما في المَعروفِ، وبرُّهما، واجتنابُ عُقوقِهما والتَّعَرُّضِ لسَخَطِهما.
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسنَّةِ والإجماعِ:أ- مِنَ الكِتابِ1- قال تعالى:
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [لقمان: 14-15] .
2- قال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ * وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ * وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [الأحقاف: 13 - 19] .
ذَكَر اللهُ عَزَّ وجَلَّ في هذه الآياتِ فريقَينِ: فريقَ المُؤمِنينَ الذينَ لَهمُ الدَّرَجاتُ، وفريقَ الكافِرينَ أصحابِ الدَّرَكاتِ، ووَصَف الكافِرينَ بعُقوقِ الوالِدَينِ، وبإنكارِهمُ البَعثَ، وجَعل العُقوقَ أصلًا في الاعتِبارِ، وفي هذا بَيانٌ أنْ لا شَيءَ أعظَمُ مِنَ التَّوحيدِ والثَّباتِ عليه، ثُمَّ برِّ الوالدَينِ والإحسانِ إليهما، ولا شَيءَ أفحَشُ مِن عُقوقِ الوالدَينِ وإنكارِ الحَشرِ
[1059] يُنظر: ((فتوح الغيب)) للطيبي (14/ 294). .
ب- مِن السُّنَّةِ1- عَن عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ أبي بَكَرةَ، عَن أبيه رَضيَ اللهُ عنه، قال:
((قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ألا أنبِّئُكم بأكبَرِ الكبائِرِ؟ ثلاثًا. قالوا: بلى يا رسولَ اللهِ. قال: الإشراكُ باللهِ، وعُقوقُ الوالِدَينِ. وجلس وكان متَّكِئًا فقال: ألا وقولُ الزُّورِ. قال: فما زال يكَرِّرُها حتى قُلنا: ليته سكَتَ)) [1060] أخرجه البخاري (2654) واللفظ له، ومسلم (87). .
2- عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((سُئِل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنِ الكَبائِرِ، قال: الإشراكُ باللهِ، وعُقوقُ الوالدَينِ، وقَتلُ النَّفسِ، وشَهادةُ الزُّورِ)) [1061] أخرجه البخاري (2653) واللفظ له، ومسلم (88). .
وفي حَديثٍ عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((الكَبائِرُ: الإشراكُ باللهِ، وعُقوقُ الوالدَينِ، وقَتلُ النَّفسِ، واليَمينُ الغَموسُ)) [1062] أخرجه البخاري (6675). .
3- عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((... بابانِ مُعَجَّلانِ عُقوبَتُهما في الدُّنيا: البَغيُ والعُقوقُ)) [1063] أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد)) (895)، وأبو عوانة في ((المستخرج)) (11483)، والحاكم (7554) واللفظ له. صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح الأدب المفرد)) (687)، وصَحَّحَ إسنادَه الحاكِم. .
4- عَنِ المُغيرةِ بنِ شُعبةَ رَضيَ اللهُ عنه، عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عليكُم عُقوقَ الأُمَّهاتِ، ومَنعًا وهاتِ، ووأدَ البَناتِ، وكَرِهَ لَكُم: قيلَ وقال، وكَثرةَ السُّؤالِ، وإضاعةَ المالِ)) [1064] أخرجه البخاري (5975) واللفظ له، ومسلم (593). .
5- عَن عَمرِو بنِ مُرَّةَ الجُهَنيِّ رَضيَ اللهُ عنه، قال:
((جاءَ رَجُلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: يا رَسولَ اللهِ، شَهِدتُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأنَّك رَسولُ اللهِ، وصَلَّيتُ الخَمسَ، وأدَّيتُ زَكاةَ مالي، وصُمتُ شَهرَ رَمَضانَ. فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مَن ماتَ على هذا، كان مَعَ النَّبيِّينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهَداءِ يَومَ القيامةِ هكذا -ونَصبَ إصبَعَيه- ما لَم يَعُقَّ والِدَيه)) [1065] أخرجه من طرق أحمد (39/522) واللفظ له، وابن خزيمة (2212)، وابن حبان (3438) مُختَصَرًا دونَ قَولِه: "ما لَم يَعُقَّ والِدَيه". صَحَّحه ابن خزيمة، وابن حبان، والألباني في ((صحيح الترغيب)) (2515)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1017)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (81/00). .
6- عَن عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لا طاعةَ في مَعصيةِ اللهِ، إنَّما الطَّاعةُ في المَعروفِ)) [1066] أخرجه البخاري (7257)، ومسلم (1840) واللفظ له. .
7- قال أبو هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((نادَتِ امرَأةٌ ابنَها وهو في صَومَعةٍ، قالت: يا جُرَيجُ، قال: اللَّهُمَّ أُمِّي وصَلاتي، قالت: يا جُرَيجُ، قال: اللَّهُمَّ أُمِّي وصَلاتي، قالت: يا جُرَيجُ، قال: اللَّهُمَّ أُمِّي وصَلاتي، قالت: اللَّهُمَّ لا يَموتُ جُرَيجٌ حَتَّى يَنظُرَ في وُجوهِ المياميسِ! وكانت تَأوي إلى صَومَعتِه راعيةٌ تَرعى الغَنَمَ، فوَلَدَت، فقيلَ لَها: مِمَّن هذا الولَدُ؟ قالت: مِن جُرَيجٍ، نَزَلَ مِن صَومَعَتِه! قال جرَيجٌ: أينَ هذه التي تَزعُمُ أنَّ ولَدَها لي؟! قال: يا بابوسُ [1067] هو اسمٌ للرَّضيعِ مِن أيِّ نَوعٍ كان، وقيلَ: هو ولَدُ كُلِّ شَيءٍ في صِغَرِه، والمَعنى مُتَقارِبٌ. وقيلَ: هو ولَدُ النَّاقةِ خاصَّةً، ثُمَّ يُستَعارُ لغَيرِها. يُنظر: ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (1/ 433). ، مَن أبوك؟ قال: راعي الغَنَمِ)) [1068] أخرجه البخاري (1206). .
وفي رِوايةٍ: عَن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((لَم يَتَكَلَّمْ في المَهدِ إلَّا ثَلاثةٌ: عيسى بنُ مَريَمَ، وصاحِبُ جُرَيجٍ، وكانَ جُرَيجٌ رَجُلًا عابِدًا، فاتَّخَذَ صَومَعةً، فكانَ فيها، فأتَتْه أمُّه وهو يُصَلِّي، فقالت: يا جُرَيجُ، فأقبل على صَلاتِه، فانصَرَفت، فلَما كانَ من الغَدِ أتَتْه وهو يُصَلِّي، فقالت: يا جُرَيجُ، فقالَ: يا رَبِّ، أمِّي وصَلاتي، فأقبَلَ على صَلاتِه، فانصَرَفَت، فلمَّا كانَ من الغَدِ أتَتْه وهو يُصَلِّي، فقالت: يا جُرَيجُ، فقالَ: أيْ رَبِّ، أمِّي وصَلاتي، فأقبَلَ على صَلاتِه، فقالت: اللَّهُمَّ لا تُمِتْه حَتى يَنظُرَ إلى وُجوهِ المُومِساتِ! فتَذاكَرَ بَنو إسرائيلَ جُرَيجًا وعِبادَتَه، وكانَتِ امرَأةٌ بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بحُسنِها، فقالت: إنْ شِئتُم لأفتِنَنَّه لكم، قال: فتَعَرَّضَتْ له، فلم يَلتَفِت إليها، فأتَت راعيًا كانَ يَأوي إلى صَومَعَتِه، فأمكنَتْه من نَفسِها، فوَقَعَ عليها فحَمَلَت، فلمَّا وَلَدَت قالت: هو من جُرَيجٍ! فأَتَوه فاستَنزَلوه وهَدَموا صَومَعَتَه وجَعلوا يَضرِبونَه، فقال: ما شَأنُكم؟ قالوا: زَنيتَ بهذه البَغيِّ، فوَلَدَت مِنك! فقال: أينَ الصَّبيُّ؟ فجاؤوا به، فقال: دعوني حَتى أصَلِّيَ، فصَلَّى، فلَمَّا انصَرَف أتى الصَّبيَّ فطعَن في بَطنِه، وقال: يا غُلامُ، من أبوك؟ قال: فُلانٌ الرَّاعي! قال: فأقبَلوا على جُرَيجٍ يُقبِّلونَه ويَتَمَسَّحونَ به، وقالوا: نَبني لك من ذَهَبٍ! قال: لا، أعيدُوها من طينٍ كما كانَت، ففَعَلوا. وبَينا صَبيٌّ يَرضَعُ مِن أُمِّه، فمَرَّ رَجُلٌ راكِبٌ على دابَّةٍ فارِهةٍ، وشارةٍ حَسَنةٍ [1069] الدَّابَّةُ الفارِهةُ: النَّشيطةُ. والشَّارةُ الحَسَنةُ: الجَمالُ الظَّاهرُ في الهَيئةِ واللِّباسِ. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (3/ 485). ، فقالت أُمُّه: اللَّهُمَّ اجعَلِ ابني مِثلَ هذا، فتَرَكَ الثَّديَ وأقبَلَ إليه، فنَظَرَ إليه، فقال: اللَّهُمَّ لا تَجعَلْني مِثلَه! ثُمَّ أقبَلَ على ثَديِه فجَعَلَ يَرتَضِعُ...)) الحديثَ
[1070] أخرجها مسلم (2550). .
وفي رِوايةٍ عَن حُمَيدِ بنِ هِلالٍ، عَن أبي رافِعٍ، عَن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، أنَّه قال:
((كان جُرَيجٌ يَتَعَبَّدُ في صَومَعةٍ، فجاءَت أُمُّه. قال حُمَيدٌ: فوَصَف لَنا أبو رافِعٍ صِفةَ أبي هُرَيرةَ لصِفةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُمَّه حينَ دَعَته، كَيف جَعَلَت كَفَّها فوقَ حاجِبِها، ثُمَّ رَفعَت رَأسَها إليه تَدعوه، فقالت: يا جُرَيجُ، أنا أُمُّك كَلِّمْني، فصادَفته يُصَلِّي، فقال: اللهُمَّ أُمِّي وصَلاتي، فاختارَ صَلاتَه، فرَجَعَت، ثُمَّ عادَت في الثَّانيةِ، فقالت: يا جُرَيجُ، أنا أُمُّك فكَلِّمْني، قال: اللهُمَّ أُمِّي وصَلاتي، فاختارَ صَلاتَه، فقالت: اللهُمَّ إنَّ هذا جُرَيجٌ وهو ابني، وإنِّي كَلَّمتُه فأبى أن يُكَلِّمَني، اللهُمَّ فلا تُمِتْه حَتَّى تُريَه المومِساتِ! قال: ولَو دَعَت عليه أن يُفتَنَ لفُتِن. قال: وكان راعي ضَأنٍ يَأوي إلى دَيرِه، قال: فخَرَجَتِ امرَأةٌ مِنَ القَريةِ فوقَعَ عليها الرَّاعي، فحَمَلَت فولَدَت غُلامًا، فقيلَ لَها: ما هذا؟ قالت: مِن صاحِبِ هذا الدَّيرِ! قال: فجاؤوا بفؤوسِهم ومَساحيهم، فنادَوه فصادَفوه يُصَلِّي، فلَم يُكَلِّمْهم، قال: فأخَذوا يَهدِمونَ دَيرَه، فلَمَّا رَأى ذلك نَزَلَ إليهم، فقالوا له: سَلْ هذه، قال: فتَبَسَّمَ، ثُمَّ مَسَحَ رَأسَ الصَّبيِّ، فقال: مَن أبوك؟ قال: أبي راعي الضَّأنِ! فلَمَّا سَمِعوا ذلك مِنه قالوا: نَبني ما هَدَمْنا مِن دَيرِك بالذَّهَبِ والفِضَّةِ! قال: لا، ولَكِنْ أعيدوه تُرابًا كما كان، ثُمَّ عَلاه)) [1071] أخرجه مسلم (2550). .
قال ابنُ هُبَيرةَ: (أمَّا جُرَيجٌ فإنَّه كان عَبدًا صالحًا، إلَّا أنَّه لَمَّا دَخَلَ عليه مِنِ استِغراقِه في التَّعَبُّدِ بالصَّلاةِ كان غَيرَ ناظِرٍ إلى أنَّ عِبادةَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ في كُلِّ الطُّرُقِ المَشروعةِ، مَتى أكَبَّ الإنسانُ على طَريقٍ مِنها أضَرَّ بالبَواقي...، فلَمَّا أتَته أُمُّه فكان كَلامُه لأُمِّه أفضَلَ عِندَ اللهِ مِنَ الصَّلاةِ النَّافِلةِ، فقال: "رَبِّ أُمِّي وصَلاتي"، فأقبَلَ على صَلاتِه وتَرَكَ أُمَّه، وكان مِنَ الفِقهِ أن يُقدِّمَ أُمَّه؛ لأنَّ صَلاتَه إنَّما تَكونُ له، وتَكليمَه أُمَّه يَكونُ عَمَلًا مُتَعَبَّدًا يَشمَلُه ويَشمَلُ غَيرَه، فرُبَّما كانت أُمُّه قد جاءَت في حاجةٍ مُهمَّةٍ بحَيثُ يَجِبُ عليه أن يُجيبَها عَنه.
وفيه أيضًا أنَّها صِلةُ رَحِمٍ هيَ أَولى الأرحامِ بالصِّلةِ، فآثَرَ عليها ما لا يَتَعَدَّاه مِنَ الصَّلاةِ، فغَلِط في الموازَنةِ فخَسِرَ، وقد تَرَدَّدَت إليه يَومًا بَعدَ يَومٍ، وهو يُؤثِرُ الأدنى على الأرفعِ حَتَّى هاجَ صَدرُها بأن دَعَت عليه دُعاءً لا يَبلُغُ فيه إلى الغايةِ؛ لأنَّها رَفَقَت به؛ إذ خَفي عليها فقالت: "اللهُمَّ لا تُمِتْه حَتَّى تُريَه وُجوهَ المومِساتِ" يَعني الفواجِرَ، فلمَّا لَم يَنظُرْ في وَجهِ أُمِّه دَعَت عليه بعُقوبةٍ مِن جِنسِ ما أعرَضَ عَنه، مِنَ النَّظَرِ في وُجوهِ المومِساتِ، والمومِساتُ: جَمعُ مومِسةٍ، وهيَ الفاجِرةُ، ويُقالُ: مُومِساتٌ وميامِسُ.
وإنَّما أُجيبَ مِن دُعائِها مِقدارُ ما سَألَت على وَجهِ الرِّفقِ به مِن أن يَنظُرَ في وُجوهِ الفواجِرِ؛ فاتُّهِم بتُهمةٍ هو بَريءٌ مِنها، إلَّا أنَّه لَمَّا آثَرَ ما هو له على ما هو له ولأُمِّه، ابتُليَ ببَليَّةٍ لا ذَنبَ له فيها، بَل اطَّلَعَ في وَجهِ الفاجِرةِ حَتَّى أظهَرَ اللَّهُ بذلك كَرامةً عَرَّفه اللهُ غَلَطَه في إيثارِه صَلاةَ النَّافِلةِ على إجابةِ أُمِّه... فكانت هذه القِصَّةُ جامِعةً لفَضلِ الوالدةِ، ولكَونِها أُجيبَ دُعاؤُها في مِثلِ الولَدِ الصَّالحِ مَعَ كَونِه لَم يَشتَغِلْ عَنها بمُنكَرٍ ولا بمُحَرَّمٍ، وإنَّما اشتَغَلَ بعِبادةٍ، فجَرى في حَقِّه هذا!)
[1072] ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) (7/ 180، 181). وقال ابنُ الجَوزيِّ: (لمَّا تَرَكَ جُرَيجٌ ما يَجِبُ عليه مِن إجابةِ أُمِّه، سُمِعَ دُعاؤُها فيه؛ لأنَّها مَظلومةٌ بمَنعِ حَقِّها، ولمَّا كان أصلُ إيثارِه لطاعةِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ نَظَر إلى ذلك فأنطَقَ الطِّفلَ). ((كشف المشكل)) (3/ 485). وقال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (قَولُه: "يا رَبِّ، أُمِّي وصَلاتي" قَولٌ يَدُلُّ على أنَّ جُرَيجًا رَضيَ اللهُ عنه كان عابدًا ولَم يَكُنْ عالِمًا؛ إذ بأدنى فِكرةٍ يُدرِكُ أنَّ صَلاتَه كانت نَدبًا، وإجابةَ أُمِّه كانت عليه واجِبةً، فلا تَعارُضَ يوجِبُ إشكالًا، فكان يَجِبُ عليه تَخفيفُ صَلاتِه، أو قَطعُها وإجابةُ أُمِّه، لا سيَّما وقد تَكَرَّر مَجيئُها إليه، وتَشَوُّقُها واحتياجُها لمُكالَمَتِه. وهذا كُلُّه يَدُلُّ على تَعَيُّنِ إجابَتِه إيَّاها، ألَا تَرى أنَّه أغضَبَها بإعراضِه عَنها، وإقبالِه على صَلاتِه؟ ويَبعُدُ اختِلافُ الشَّرائِعِ في وُجوبِ برِّ الوالدَينِ. وعِندَ ذلك دَعَت عليه، فأجابَ اللهُ دُعاءَها؛ تَأديبًا له، وإظهارًا لكَرامَتِها، والظَّاهرُ مِن هذا الدُّعاءِ أنَّ هذه المَرأةَ كانت فاضِلةً عالِمةً، ألَا تَرى كَيف تَحَرَّزَت في دُعائِها، فقالت: اللَّهُمَّ لا تُمِتْه حَتَّى يَنظُرَ إلى وُجوهِ المومِساتِ. فقالت: حَتَّى يَنظُرَ، ولَم تَقُلْ غَيرَ ذلك. وقد جاءَ في بَعضِ طُرُقِ هذا الحَديثِ: "ولو دَعَت عليه أن يُفتَنَ لفُتِن". وهيَ أيضًا لو كَظَمَت غَيظَها وصَبَرَت لكان ذلك الأَولى بها، لَكِن لَمَّا عَلمَ اللَّهُ تعالى صِدقَ حالِهما لَطَف بهما، وأظهَرَ مَكانتَهما عِندَه بما أظهَرَ مِن كَرامَتِهما). ((المفهم)) (6/ 512، 513). .
وفي الحَديثِ: تَأكُّدُ سَعيِ الولَدِ في إرضاءِ الأُمِّ، واجتِنابِ ما يُغَيِّرُ قَلبَها، واغتِنامِ صالحِ دَعوتِها
[1073] يُنظر: ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (6/ 513). .
8- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((نِمتُ فرَأيتُني في الجَنَّةِ فسَمِعتُ صَوتَ قارِئٍ يَقرَأُ، فقُلتُ: مَن هذا؟ قالوا: حارِثةُ بنُ النُّعمانِ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: كذلك البِرُّ، وكان أبَرَّ النَّاسِ بأُمِّه)) [1074] أخرجه أحمد (25337) واللفظ له، وابن حبان (7015)، والحاكم (7453). صَحَّحه ابنُ حبان، والحاكم على شرط الشيخين، والألباني في ((صحيح الجامع)) (3371)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1536)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (7015). .
قال الطِّيبيُّ: (قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «كذلك البِرُّ» المُشارُ إليه ما سَبَقَ، والمُخاطَبونَ الصَّحابةُ؛ فإنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رأى هذه الرُّؤيا، وقَصَّها على أصحابِه، فلمَّا بَلغَ إلى قَولِه: «حارِثةُ بنُ النُّعمانِ» نَبَّهَهم على سَبَبِ نَيلِ تلك الدَّرَجةِ، فقال: «كذلكمُ البِرُّ»، أي: مِثلُ تلك الدَّرَجةِ تُنالُ بسَبَبِ البرِّ.
وفيه مِنَ المُبالغةِ أنَّه جَعَل جَزاءَ البرِّ بِرًّا، وعُرِّف الخَبَرُ بلامِ الجِنسِ تَنبيهًا على أنَّ هذه الدَّرَجةَ القُصيا لا تُنالُ إلَّا ببرِّ الوالدَينِ، وذلك أنَّه ورَدَ في الحَديثِ: «أنَّه يُقالُ لصاحِبِ القُرآنِ يَومَ القيامةِ: اقرَأْ وارتَقِ ورَتِّلْ كَما كُنتَ تُرَتِّلُ في الدُّنيا؛ فإنَّ مَنزِلتَك عِندَ آخِرِ آيةٍ تَقرَؤُها»
[1075] أخرجه أبو داود (1464)، والترمذي (2914)، وأحمد (6799) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما، ولفظُ أحمَدَ: عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو: عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((يُقالُ لصاحِبِ القُرآنِ: اقرَأْ وارقَ ورَتِّلْ كَما كُنتَ تُرَتِّلُ في الدُّنيا؛ فإنَّ مَنزِلتَك عِندَ آخِرِ آيةٍ تَقرَؤُها)). صَحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (766)، وصَحَّحه لغيره شُعَيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (1464)، وحَسَّنه الوادِعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (798)، وقال الترمذي والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2914): حَسَنٌ صحيحٌ. [1076] ((الكاشف عن حقائق السنن)) (10/ 3165). ويُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (7/ 3088). .
ج- مِنَ الإجماعِنُقل الإجماعُ على وُجوبِ البِرِّ وحُرمةِ العُقوقِ
[1077] ممن نقَل الإجماعَ على ذلك: ابنُ حزمٍ وعياضٌ وابنُ القطانِ: قال ابنُ حَزمٍ: (اتَّفقوا أنَّ برَّ الوالدَينِ فرضٌ). ((مراتب الإجماع)) (ص: 157). قال عِياضٌ: (لا خِلافَ في وُجوبِ برِّ الوالدَينِ، وأنَّ عُقوقَهما مِنَ الكَبائِرِ). ((إكمال المعلم)) (8/ 7). قال ابنُ القَطَّانِ: (اتَّفقوا على أنَّ برَّ الوالدَينِ فَرضٌ). ((الإقناع في مسائل الإجماع)) (2/ 307). .